أين سنة الرسول ؟!! وماذا فعلوا بها / الصفحات: ٣٨١ – ٤٠٠
قال خالد بن يزيد سمعت محمد بن سعيد الدمشقي يقول: ” إذا كان كلام حسن لم أر بأسا من أن أجعل له إسنادا ” (٢).
وأخرج في الحلية عن ابن مهدي عن أبي لهيعة أنه قال: ” سمعت شيخا من الخوارج يقول: “… فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيرنا له حديثا “.
وإذا سألهم سائل كيف تكذبون على رسول الله؟: قالوا: نحن نكذب له لا عليه، إن الكذب على من تعمده!! قال مسلم يجري على لسانهم ولا يتعمدون الكذب. قال ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث الترغيب والترهيب وقالوا نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته!!
قال عبد الله النهاوندي: قلت لغلام أحمد: من أين لك هذه الأحاديث التي تحدث بها في الرقائق؟ فقال وضعناه لنرقق بها قلوب العامة!! قال ابن الجوزي عن غلام أحمد أنه كان يتزهد ويهجر الشهوات، وغلقت أسواق بغداد يوم موته وأخرج البخاري في التاريخ الأوسط عن عمر بن صبيح بن عمران التميمي أنه قال: أنا وضعت خطبة النبي، وأخرج الحاكم بسنده إلى أبي عمار أنه قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة بن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبه!!
واليهود ساهموا بكتابة وتدوين سنة الرسول!!
كان لليهود الذين أسلموا أو تظاهروا بالإسلام، وللثقافة اليهودية وجود بارز ومؤثر في المجتمع الإسلامي، ويكفي أن تعلم بأن كعب الأحبار، كان مستشار الخليفة الثاني وملاذه وموضع سره، وأنه كان يسأله حتى عن مستقبل الأمة الإسلامية (٢) وكان يوحي له أنه موجود في التوراة (٣) وكان الخليفة يسأله الموعظة ويستفتيه في بعض آيات القرآن، مع أن كعب هذا ليس صحابيا (٤)، وكان عمر يسأل كعبا حتى عن شفاعة النبي يوم القيامة (٥)، وكان يلتزم بما يقول به كعب، فلما أراد عمر أن يزور العراق نهاه كعب عن ذلك فانتهى (٦) وكان لكعب تلاميذ وأتباع ومريدون ونفوذ هائل في دولة الخلافة، أتاح له أن يتحدث بحرية، وحث الناس ضمنا على اعتبار حديثه، ونسوق بعض أقوال كعب على سبيل المثال.
(٣) تاريخ الطبري ج ١ ص ٣٢٣.
(٤) الدر المنثور للسيوطي، ج ٦ ص ٢٥٧.
(٥) الدر المنثور ج ٦ ص ٢٨٥.
(٦) كنز العمال ج ١٤ ص ١٤٨، وراجع تدوين القرآن ص ٤٣٠ وما فوق.
قال كعب الأحبار إن لله ديكا عنقه تحت العرش وبراثنه في أسفل الأرض فإذا صاح صاحت الديكة فيقول ” سبحان القدوس الملك الرحمن لا إله غيره “.
وفي ما بعد قال أبو هريرة إن النبي قد قال: إن الله أذن لي أن أحدث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش وهو يقول: ” سبحانك ما أعظم شأنك “!!
قال كعب الأحبار: ” أربعة أنهار الجنة وخصها الله عز وجل في الدنيا، فالنيل نهر العسل في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان نهر الماء في الجنة وجيحان نهر اللبن في الجنة “.
وفي ما بعد قال أبو هريرة: أن رسول الله قد قال: ” النيل وسيحان وجيحان والفرات من أنهار الجنة “!!
وقال كعب: ” إن الله قد خلق السموات والأرض وما بينهما في سبعة أيام، التربة يوم السبت، والجبال يوم الأحد… الخ (٣).
وفي ما بعد قال أبو هريرة أخذ رسول الله بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد…
قال البخاري وابن كثير أن أبا هريرة قد تلقى هذا الحديث عن كعب
(٣) ص ٢٢٠ نهاية الأرب للنووي، وأضواء على السنة المحمدية ص ٢٠٨.
ولما أتم أبو هريرة رواية الحديث أسرع كعب الأحبار وقال صدق والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمد لو أن رجلا ركب حقه أو جزعه ثم دار بأعلى تلك الشجرة، ما بلغها حتى يسقط هرما!!! “.
والخلاصة أن علماء الحديث عندما شرعوا بتدوين وكتابة سنة الرسول وجدوا ” منجما ” إسرائيليا يحتوي عشرات الآلاف من الأحاديث المنسوبة للرسول والمسندة إسنادا جيدا، والمدعومة من كعب الأحبار جليس الخلفاء وصفيهم فكتبوها، كما هي.
والنصارى ساهموا أيضا بكتابة وتدوين سنة الرسول!!!
وكان لتميم الدارمي، راهب أهل عصره نفوذه الخاص في دولة الخلافة، وله أتباعه وتلاميذه ومريدوه، وكان يحدث بروايات وقصص عن الحساسة والرجال وإبليس وملك الموت والجنة والنار فملأ الأرض بهذه الروايات (٢) لما فعل زميلاه من قبل كعب ووهب ولما بدأ علماء المسلمين بكتابة ورواية سنة الرسول، وجد هذا ” المنجم ” المسيحي فكتبوه كله مع ما كتبوا من سنة الرسول.
الفصل الثالث
بحار من المرويات وملايين من النصوص المنسوبة لسنة رسول الله!!
كانت الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله والتي جمعها العلماء ودونوها في كتبهم تعد بمئات الآلاف، بل بالملايين، روي عن البخاري أنه قال: ” أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، وروي عنه أنه قال: ” خرجت الصحيح من ستمائة ألف حديث “، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: ” صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر، وأنه قال هذا الفتى – يعني أبا زرعة – يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفا في التفسير… ” (١) فهؤلاء ثلاثة من العلماء لديهم ما يقرب من مليوني حديث!! الله وحده كان يعلم كم لدى كان علماء دولة الخلفاء من حديث!!!
كان العلماء في قرارة أنفسهم موقنين بأنه من المستحيل عقلا أن يصدر هذا الكم الهائل من الأحاديث عن رسول الله، بل كانوا موقنين أن الجزء الأعظم من هذا الكم الهائل غير صحيح ومكذوب على رسول الله،
وكان البعض من العلماء يحذفون من هذه المرويات ما يرونه مناسبا، مثال على ذلك فقد روى نصر بن مزاحم في كتابه ” صفين “، والمسعودي في كتابه ” مروج الذهب ” النص الكامل لرسالة محمد بن أبي بكر لمعاوية التي أبرزت بعض فضائل الإمام علي، وجانبا من تاريخ معاوية المظلم، وبعض إساءات الخلفاء للإمام علي، إلا أن الطبري قد حذف الجزء الأعظم من مضامين هذه الرسالة، معللا ذلك بأن العامة لا تحتمل سماع ما حذفه، وجاء من بعده ابن كثير فذكر رسالة محمد بن أبي بكر، ولم يشر إلى كلمة مما ورد فيها واكتفى بالقول بأن ” فيه غلظة ” (١) وأحيانا كانوا يبدلون كلمة بكلمة، فالطبري وابن الأثير أبدلا كلمتي ” وصيي وخليفتي الواردتين في حديث رسول الله بقولهما ” كذا وكذا ” (٢).
بعد أن جمع العلماء هذا الكم الهائل من الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله ودونوها في كتب خاصة، أنصب هدفهم على معرفة الصحيح من غير الصحيح، وما صدر عن الرسول بالفعل، وما تقوله الرواة عليه!! كانت هذه هي المشكلة الكبرى التي واجهت العلماء خاصة، والمسلمين عامة، وما زالت تواجههم إلى اليوم لأن الموازين التي وضعها العلماء كانت ثمرة معارف واجتهادات شخصية، تأثرت حتما بميول العلماء وثقافاتهم وتربيتهم
الموازين والمقاييس التي اعتمدها العلماء لتمييز ما قاله الرسول عما تقوله الرواة عليه
أوجد علماء دولة الخلافة مجموعة من الموازين أو المعابير أو المقاييس ليميزوا بواسطتها الحديث الصادر عن الرسول فعلا من الحديث الذي تقوله الرواة عليه، وما أوجده العلماء منها لم يرد لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله، إنما هي موازين من صنع العلماء أنفسهم ومن ” اختراعهم الخاص ” وبالرغم من الجهود المضنية والمشكورة التي بذلها العلماء إلا أن النتيجة التي حصلوا عليها، كانت دون المأمول، لأن المشكلة نفسها أكبر من العلماء، ولا طاقة لهم على حلها، بدليل أن المشكلة ما زالت قائمة حتى يومنا هذا!! ولا يقوى على حلها غير أهل بيت النبوة، واللجوء لأهل بيت النبوة، سيكشف فضائح، وينسف معتقدات، ويدمر كل البنى الغريبة، ويعيد كل شئ إلى موقعه الشرعي، وهذا يعني عملية هدم وإعادة البناء، لذلك آثر العلماء الدعة، لاقتناعهم بأن المطلوب منهم بذل عناية لا تحقيق غاية، وسنستعرض بكل الإيجاز للقواعد الأساسية التي قامت عليها موازين العلماء ومقاييسهم لتمييز ما قاله الرسول عن ما تقوله القوم عليه:
الصحابة:
لقد أجمع العلماء على أن كل حديث ينسب للرسول يجب أن يرويه عنه أحد من الصحابة، فأي حديث لا يروي عن صحابة فهو باطل وغير صحيح ولا ينظر إليه. ويقصدون بالصحابة كل من لقى رسول الله وهو
لقد توعد الله المنافقين بالدرك الأسفل من النار، والمنافقون ليسوا أشباحا إنما هم كائنات حية كانت عيش في الوسط الإسلامي وتقوم بكل شعائر الإسلام وتكتم نفاقها، لقد تناسى العلماء الوعيد الإلهي بإدخال المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وتجاهلوا كافة الآيات المحكمات التي فضحت المنافقين، وتجاهلوا وجود المنافقين، والمرتزقة من الأعراب، وأصحاب التاريخ الأسود بمعاداة الله ورسوله، وتجاهلوا الذين لعنهم رسول الله، والذين أقام عليه الحدود لارتكاب جرائم ثم حكموا دفعة واحدة بأن كل مواطني دولة الرسول عدول ومعصومون ومن أهل الجنة،
ولا بد من التذكير بأنه عندما بدأت عملية كتابة وتدوين ورواية سنة الرسول كان الصحابة جميعا في ذمة الله، وكذلك الأكثرية الساحقة من التابعين!!!
ولا بد من التذكير بأن الرواة قد ” أوجدوا أو خلقوا ” صحابة لا وجود لهم في الواقع، فأحيانا يسمي الراوي أسماء لصحابة لا وجود لهم إلا في خياله، ويسند رواياته الكاذبة لهم، ومعنى ذلك أن الرواي يختلق أسماء صحابة، ويختلق، المتن ويختلق أسماء العدد اللازم من الأسناد، وبناء على هذه الروايات كان العلماء يدخلون هذه الأسماء المختلقة لصحابة وهميين في قائمة الصحابة الفعليين، وسيف التميمي أبرز الأمثلة على ذلك (١).
لقد أراد العلماء حل مشكة الحديث عندما تبنوا نظرية عدالة كل الصحابة، فأوجدوا ٧٠ ألف مشكلة كل مشكلة لا تقل تعقيدا عن مشكلة الحديث!!! والكارثة حقا أن العلماء اعتبروا آراءهم الشخصية، ومعتقداتهم الخاصة بمثابة الأحكام الدينية، وألزموا المسلمين باتباعها متحصنين وراء
كل واحد من الصحابة مرجع قائم بذاته، وله سنته الواجبة الرعاية!!
كان كتاب الله وسنة رسوله هما المرجع القانوني الأوحد للمسلمين، وكان الرسول الأعظم هو المرجع البشري الأوحد للناس، بعد موت الرسول أدخلت سنة الخلفاء الراشدين مع كتاب الله وسنة رسوله، وهكذا صار المرجع القانوني للمسلمين ثلاثيا ” كتاب الله وسنة رسوله وسنة الخلفاء الراشدين كما وثقنا، وقف الخلفاء الراشدون الثلاثة كمراجع بشرية إلى جانب الرسول!! فأصبح للمسلمين أربعة مراجع بشرية، وبإدخال الإمام علي مؤخرا إلى قائمة الخلفاء الراشدين صاروا خمسة!!!
بعد مائة عام ونيف، صار كل واحد من الصحابة مرجع قائم بذاته، وله سنته الخاصة به، والصحابة يعدون بعشرات الألوف فمعنى ذلك أنه قد صار للمسلمين عشرات الألوف من المراجع وعشرات الألوف من أصحاب السنن!! ولا حرج على أي مسلم لو أخذ دينه من أي واحد من هذه المراجع، أو سار خلف أي واحد منها، أو اتبع سنة أي واحد منها!! كانت السنة تعني قول الرسول وفعله وتقريره، وأصبحت السنة تعني أيضا قول كل صحابي وفعله وتقريره!!
وأصبحت آراء الصحابة في الحوادث المصدر الثالث من مصادر التشريع:
١ – القرآن ٢ – السنة ٣ – رأي الصحابي
وجاء في أعلام الموقعين لابن القيم: إن أصول الأحكام عند الإمام أحمد خمسة:
١ – النص
٢ – فتوى الصحابي
وأن الحنابلة والأحناف قد ذهبوا إلى تخصيص كتاب الله بعمل الصحابي، لأن الصحابي العالم لا يترك العمل بعموم الكتاب إلا لدليل، فيكون عمله على خلاف عموم الكتاب دليلا على التخصيص وقوله بمثابة عمله ” (٢).
صفات الرواة
بعد أن حدد العلماء المرجع الموثوق الذي تؤخذ منه سنة رسول الله ” وهم الصحابة ” اشترطوا أن يتصف الراوي عنهم بصفتين وهما العدالة والضبط، والعدالة بالأصل متوفرة بكل المسلمين، إلا إذا رفعت عنه نتيجة سلوك شائن، أو تصرف خاطئ أما الضبط فيعني أن الراوي قليل الأخطاء
متنه وصياغته
ثم تطرق العلماء إلى صياغة الحديث، فقالوا يجب أن تخلو صياغة الحديث من أي شذوذ أو علة وأن يسلم لفظه من الركاكة، ومعناه من المخالفة لآية قرآنية أو خبر متواتر.
التسليم بعدم دقة هذه الموازين والمقاييس
قالوا إن من علامات وضع الحديث إن صح سنده أن يكون مخالفا لنص القرآن القطعي وفي ما هو في معناه من كل قطعي شرعي كبعض أصول العقائد أو الأعمال المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة بحيث يتعذر الجمع بينهما، كحديث أبي هريرة في خلق السموات والأرض في سبعة أيام، فالحديث مروي عن صحابي من العدول، وإسناده صحيح من أوله إلى آخره، ورجاله ثقات، ومع هذا قد يكون موضوعا لأنه يتعارض مع آية قرآنية، أو ما هو ثابت من الذين بالضرورة، وسلموا أيضا أن الموضوع من حيث الرواية قد يكون صحيحا في الواقع، وأن الصحيح السند قد يكون موضوعا في الواقع، وإنما علينا أن نأخذ بالظواهر مع مراعاة القواعد.
وتمخضت هذه الموازين تقسيمات للأحاديث الموزونة منها
١ – الحديث المتواتر: وهو ما أخبرت به جماعة يمتنع عقلا اتفاق أفرادها على الكذب، وهو صحيح قطعا، ويجب الأخذ به من غير توقف، والأحاديث اللفظية المتواترة في السنة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة.
٢ – خبر الآحاد: وهو الذي لم يبلغ حد التواتر، ويفيد الظن، ويؤخذ به في العبادات والمعاملات، ولا يؤخذ به في العقائد، وقالوا إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قطعا، ولو كانت مخرجة في البخاري ومسلم، وإنما يفيد العلم فيها بناء على ” أن الأمة مأمورة بالأخذ بكل خبر يغلب الظن على صدقه “.
وتبعا لدرجات العدالة والضبط ولآلية الإسناد ولنوعية النص يكون الحديث
صحيحا، أو حسنا، أو ضعيفا، أو مصحفا، أو محرفا، أو مغلوبا، أو مضطربا، أو معروفا، أو غريبا، أو شاذا…
وقد يكون الحديث صحيحا عند عالم، وباطلا عند آخر، وحسنا عند ثالث وضعيفا عند رابع.
حكمهم على كتب الحديث التي عملت بهذه الموازين
قال الشافعي: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك، ونقل السيوطي بأن الموطأ هو الأصل الأول والبخاري هو الأصل الثاني.
وقال الدهلوي: إن الطبقة الأولى من كتب الحديث منحصرة في ثلاثة كتب:
٣ – مسانيد صنفت قبل البخاري ومسلم وفي زمانهما وبعدهما جمعت بين الصحيحين والحسن والضعيف والمعروف والغريب والشاذ والمنكر والخطأ والصواب (١).
أصح الصحاح حسب هذه الموازين والمقاييس
إن أصح كتب الحديث برأي القوم هو صحيح البخاري، مع أن البخاري قد أقر علنا، بأنه لم ينقل الحديث باللفظ إنما كان ينقله بالمعنى، وأنه كان يسمع الحديث في بلاد، ويكتبه في بلاد ثانية! (٢) قال الدكتور أحمد أمين: إن بعض الرجال الذين روى عنهم البخاري غير ثقات، وقد ضعف الحفاظ من رجال البخاري نحو ثمانين وفي الواقع هذه مشكلة فالوقوف على أسرار الرجال محال… ولكن ماذا يصنع بمستور الحال (٣) وقال رشيد رضا عن صحيح البخاري ومسلم… إنه يوجد في غيرهما من دواوين السنة أحاديث أصح من بعض ما فيهما (٤).
وقال أيضا ما كلف الله مسلما أن يقرأ صحيح البخاري ويؤمن بكل ما فيه (٥).
(٣) ضمن الإسلام ج ٢ ص ١١٧ – ١١٨ وص ٣٠٣ من الأضواء.
(٤) المنار ج ٢٩ ص ١٠٤ و ١٠٥، والأضواء ص ٣٠٥.
(٥) المراجع السابقة، والأضواء ص ٣٠٥.
الفصل الرابع
تقييم الموازين والمقاييس التي أوجدها علماء دولة الخلافة لفرز ما قاله الرسول عما تقوله الرواة عليه
الجهود العظيمة والمضنية التي بذلها علماء دولة الخلفاء في رواية وجمع وكتابة سنة الرسول، والمحاولات الصادقة التي قاموا بها لتمييز ما قاله الرسول فعلا عما تقوله الرواة عليه تستحق كل الشكر والعرفان بغض النظر عن النتائج المتواضعة التي أسفرت عنها تلك الجهود والمحاولات!
١ – والعمل العظيم الذي قاموا به، أقل بكثير مما كان مأمولا منهم، وواجبا عليهم! لأن العلماء هم أعمدة المجتمع، والحكام الفعليون للناس، وهم الأبعد نظرا والذين يتحملون مسؤولية خاصة. لقد منعت دولة الخلافة كتابة ورواية سنة رسول الله، وأحرقت المكتوب منها، ودام المنع مائة عام ونيف، فهل روى التاريخ لنا أن وفدا من العلماء، قد قابل أي خليفة من خلفاء بني أمية وشرح له المخاطر التي تترتب على الاستمرار بمنع كتابة ورواية أحاديث رسول الله؟!! كانت هذه الخطوة أبسط واجبات العلماء، وأقل مظاهر ممارستهم لمسؤولياتهم الخاصة!! لم يرو التاريخ شيئا عن مثل هذا الوفد!! نحن لا نطالب بأن يمتنع العلماء عن موالاة الخليفة القائم، بل طالبنا بأن ينصحوه ويبينوا له الدرب باعتبار أن الدين هو النصيحة!! لقد كان
٢ – لقد كلف العلماء أنفسهم بما لا قبل لهم به، ولا طاقة لهم عليهم: فطوال مائة عام ونيف دولة عظمى تقف بكل قوتها ونفوذها ومواردها ضد كتابة ورواية سنة الرسول، وفي الوقت نفسه تضع وتطبق سننا واجتهادات بديلة لسنة الرسول، ولما قرر عمر بن عبد العزيز السماح بكتابة ورواية سنة الرسول، كانت السنن والاجتهادات البديلة تشكل منظومة حقوقية كاملة، ونافذة المفعول، أو كانت هذه السنن والاجتهادات بمثابة القانون الوحيد النافذ في المجتمع كله، كان دور سنة الرسول مقتصرا على العبادات، أو على بعض الأمور التي لا تتعارض مع السنن الوضعية والاجتهادات التي قبلت بها الأغلبية الساحقة من المسلمين طوعا أو كرها، ثم اعتادت عليها، فمن يتوقع من هذه الأغلبية أن تتنازل عن قوانينها النافذة!! ومن يتوقع منها أن تقر وتعترف بأنها قد تركت النص وأخذت بالاجتهاد، وأنها قد تركت سنة رسول الله وأخذت بسنة الخلفاء!! وهذا يستدعي إضفاء الشرعية الإسلامية أية شرعية ولو على السنن والاجتهادات التي حلت محل سنة الرسول!! وهذا يستدعي أن توحد الأغلبية جهودها، وأن تعيق إظهار سنة الرسول التي ستدينها. لقد كانت الأغلبية الساحقة من المجتمع ضد فكرة تدوين السنة وروايتها، لأنها قد اعتادت طوال مائة عام
٣ – إن علماء دولة الخلافة كانوا يعلمون علم اليقين بأن رسول الله قد قال ” لقد تركت فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي وقد أنبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا، فانظروا كيف تخلفوني فيهما! وحتى بعد عمليات الفرز أكد مسلم في صحيحه حتمية صدور حديث الثقلين عن رسول الله، ثم إن القرآن الكريم قد ذكر أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وذكر آية المودة في القربى، وكيف ينسى علماء دولة الخلافة قيمة آل محمد، وقد أمرهم الله أن يصلوا على محمد وآله في كل صلاة.
لنفترض أن علماء دولة الخلافة حياديين وموضوعيين، فطالما أنهم يواجهون مشكلة كبرى بهذا التعقيد، ولهم الرغبة الصادقة بحلها، فما الذي يمنعهم من الاستعانة بأهل الخبرة وبالقادرين على المساهمة بالحل!! فهل ذكر لنا التاريخ أن مجموعة أو وفدا من العلماء قد ذهب لمقابلة عميد آل محمد وسأله كيف نميز ما قاله الرسول عما تقوله الرواة عليه!!! في كل وقت من الأوقات كان لآل محمد عميد أو إمام يعترف المسلمون به كشيخ لآل محمد، فهل قابل علماء دولة الخلافة الإمام الباقر، أو الصادق، أو
لقد سمع العلماء ممن هم أقل مرتبة من أهل بيت النبوة، لقد سألوا كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وتميم الدارمي وغيرهم وهم لا يصلحون خداما لأهل بيت النبوة ولعمدائهم فما هو الغلط في رجوع علماء دولة الخلافة لآل محمد وسؤالهم!!!
ولكن ثقيل على نفوس علماء دولة الخلافة أن يسألوا عميد أهل بيت النبوة، أو أن يلجؤوا إلى أهل البيت، أو أن يعترفوا بمنزلة أهل بيت النبوة عند الله ورسوله أو بدورهم المميز في المسلمين بعد وفاة رسول الله، لأن ذلك يخالف سنة الخلفاء، وما تعارفت عليه الأغلبية الساحقة من الأمة طوال مائة عام ونيف، ويتعارض مع ثقافة التاريخ التي تربى عليها العلماء والأغلبية، وأشربتها قلوبهم، لقد تعود علماء دولة الخلافة على طاعة الخلفاء، والالتزام التام بتوجههم العام، وقلوب الخلفاء مسكونة بالحساسية