كتب إبراهيم الثقفي: أطلَعَه عليٌّ (عليه السّلام) على علمٍ كثيرٍ وأسرارٍ خفيّة من أسرار الوصيّة، فكان مِيثم يحدّث ببعض ذلك، فيشكّ فيه قومٌ وينسبون عليّاً في ذلك إلى المَخرَقة والإيهام والتدليس، حتّى قال (عليه السّلام) له يوماً بمحضر خَلقٍ كثير من أصحابه، وفيهم الشاكّ والمخلص: يا ميثم، إنّك تُؤخَذ بعدي وتُصلَب.. وذكر قصّة شهادته (15).
وعن يوسف بن عمران الميثمي قال: سمعت ميثمَ النهرواني (التمّار) يقول:
دعاني أمير المؤمنين وقال لي: كيف أنت ـ يا مِيثم ـ إذا دعاك دَعيُّ بني أميّة ابن دَعيّها عبيدُ الله بن زياد إلى البراءة منّي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا ـ واللهِ ـ لا أبرأ منك. قال: إذن ـ واللهِ ـ يَقتلُك ويَصلبك، قلت: أصبِرُ فذاك في الله قليل، فقال: يا ميثم، إذن تكون معي في درجتي.
قال الراوي: وكان ميثم يمرّ بعريف قومه ويقول: يا فلان، كأنّي بك وقد دعاك دَعيُّ بني أميّة ابن دعيّها فيطلبني منك أيّاماً، فإذا قَدِمتُ عليك ذهبتَ بي إليه حتّى يقتلني على باب دار عمرو بن حُرَيث، فإذا كان يوم الرابع ابتدر مِنخرايَ دماً عبيطاً.
وكان ميثم يمرّ بنخلةٍ في سَبخة، فيضرب بيده عليها ويقول: يا نخلة، ما غُذِيتِ إلاّ لي، وما غُذِيتُ إلاّ لكِ. وكان يمرّ بعمرو بن حُريث ويقول: يا عمرو! إذا جاورتُك فأحسِنْ جِواري. فكان عمرو يرى أنّه يشتري داراً أو ضيعةً لَزيقَ ضيعته ـ أي لصيقَ بستانه ـ، فكان يقول له عمرو: ليتك قد فعلت.
ثمّ خرج ميثم النهرواني (التمّار) إلى مكّة، فأرسل الطاغية عدوّ الله بن زياد إلى عريف ميثم فطلبه منه، فأخبره أنّه بمكّة، فقال له: لئن لم تأتني به لأقتلنّك. فأجَّلَه أجلاً، وخرج العريف إلى القادسيّة ينتظر ميثماً، فلمّا قَدِم ميثم قال له ـ أي ابن زياد ـ: أنت ميثم؟ قال: نعم أنا ميثم، قال: تبرّأْ مِن أبي تراب ـ أي: أمير المؤمنين عليّاً (صلوات الله عليه) ـ، قال: لا أعرف أبا تراب، قال: تبرّأْ من عليّ بن أبي طالب، فقال له: فإنْ أنا لم أفعل؟ قال: إذاً ـ واللهِ ـ لأقتلنّك، فقال له ميثم: أمَا لقد كان يقول ـ أي: أمير المؤمنين (عليه السّلام) ـ أنّك ستقتُلني وتصلبني على باب عمرو بن حُريث، فإذا كان يوم الرابع ابتدر منخراي دماً عبيطاً.
فأمرَ به (عبيد الله) فصُلِب على باب عمرو بن حريث، فقال ميثم للناس: سلوني ـ وهو مصلوب قبل أن يُقتل ـ، فوَ اللهِ لأخبرتكم بعلم ما يكون… فلمّا سأله الناس حدّثهم حديثاً واحداً، إذ أتاه رسولٌ مِن قِبل ابن زياد فألجمه بلجامٍ من شريط، وهو أوّل مَن أُلجِم بلجامٍ وهو مصلوب! (16)
وروي الكليني؛ قيل: كان مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السّلام) يخرج من الجامع بالكوفة، فيجلس عند مِيثم التمّار (رضي الله عنه) فيُحادثه، فيقال: إنّه قال له ذاتَ يوم: ألا أُبشّرك يا ميثم؟ فقال: بماذا يا أمير المؤمنين؟! قال: بأنّك تموت مصلوباً، فقال: يا مولاي، وأنا على فطرة الإسلام؟ قال: نعم.
ثمّ قال (عليه السّلام) له: يا ميثم، تريد أُريك الموضعَ الذي تُصلَب فيه، والنخلة التي تُعلَّق عليها وعلى جذعتها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. فجاء به إلى رحبة الصَّيارفة وقال له: ها هنا، ثمّ أراه نخلة، قال له: على جذع هذه.
فما زال ميثم (رضي الله عنه) يتعاهد تلك النخلة حتّى قُطعت وشُقّت نصفين، فسُقف بالنصف منها وبقي النصف الآخر، فما زال يتعاهد النصف (الباقي)، ويصلّي في ذلك الموضع ويقول لبعض جيران الموضع: يا فلان، إنّي أريد أن أُجاورك عن قريب، فأحسِنْ جواري. فيقول ذلك الرجل في نفسه: يريد ميثم أن يشتريَ داراً في جواري! ولا يعلم ما يريده ميثم بقوله.
حتّى قُبض أمير المؤمنين (عليه السّلام) وظفر معاوية وأصحابه، وأُخِذ ميثم فيما أُخِذ، وأمر معاوية بصلبه ـ أي: أمر في حياته، ونُفّذ أمره بعد هلاكه ـ، فصُلِب ميثم على ذلك الجذع في ذلك المكان، فلمّا رأى ذلك الرجل أن ميثماً قد صُلِب في جواره، قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! ثمّ أخبر الناسَ بقصّة ميثم وما كان يقوله في حياته، وما زال ذلك الرجل يتعاهده ويكنس تحت الجذع ويبخّره ويصلّي عنده، ويكرّر الرحمةَ عليه (رضي الله عنه) (17).
وهكذا يُؤخذ ميثم التمّار صاحب أمير المؤمنين (عليه السّلام) في الكوفة ويُدخَل به على عبيد الله بن زياد بن أبيه، فيُقال لعبيد الله: هذا كان مِن آثرِ الناس عند علي، فيقول عبيد الله: وَيحَكُم! هذا الأعجميّ؟! قيل له: نعم، قال له عبيد الله: أين ربُّك؟ فأجابه ميثم: بالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحدُ الظَّلَمة! قال: إنّك على عُجمتك لَتبلُغ الذي تريد! أخبِرْني ما أخبَرَك صاحبُك ـ أي: عليّ (عليه السّلام) ـ أنّي فاعلٌ بك، قال ميثم: أخبرني أنّك تصلبني عاشرَ عشرة أنا أقصرهم خشبةً وأقربهم إلى المَطهَرة، قال عبيدالله: لَنُخالِفَنَّه! قال ميثم: كيف تُخالفه؟! فوَاللهِ ما أخبَرَ إلاّ عن النبي (صلّى الله عليه وآله) عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عَرَفتُ الموضع الذي أُصلَبُ فيه وأين هو من الكوفة، وأنا أوّل خَلق الله أُلجَم في الإسلام.
فحبسه عبيدُ الله وحبس معه المختارَ بن أبي عبيدة، قال ميثم: إنّك تُفلِت وتخرج ثائراً بدم الحسين (عليه السّلام) فتَقتل هذا الذي يَقتلُنا.
فلمّا دعا عبيدُ الله بالمختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد يأمر بتخلية سبيله، فخلاّه وأمر بميثم أن يُصلَب، فأُخرِج (إلى الصَّلب)، فقال له رجلٌ لَقِيَه: ما كان أغناك عن هذا! فتبسّم ميثم وقال وهويومئ إلى النخلة: لها خُلِقتُ ولي غُذِيَت. فلمّا رُفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث، قال عمرو: قد كان ـ واللهِ ـ يقول: إنّي مجاورُك.
فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد، فقال: ألْجِموه! وكان أوّل خَلق اللهِ أُلجِم في الإسلام.
وكان قتل ميثم (رحمه الله) قبل قدوم الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) العراق بعشرة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث من صَلْبه طُعِن ميثم بالحربة فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمُه وأنفه دماً! (18)
صُلِب ميثم التمّار (رضوان الله عليه) يوم الأحد في العشرين من ذي الحجّة سنة ستّين من الهجرة، وقُتل يوم الثلاثاء في الثاني والعشرين من ذي الحجّة.
قبر ميثم
جامع مراد في الكوفة يضمّ قبر ميثم التمّار، وعلى القبر قبّة واطئة لا يعرف المجاورون لمسجد الكوفة متى كان عهد بنائها، وقد غُشيت هذه القبّة بالقاشاني على يد الحاج عباس ناجي النجفي.
أما السور الذي يحيط بالساحة التي حول القبر، فقد بناه السيّد عطاء الله الأرومي مِن أهل آذربيجان، وكان من طلبة العلوم الدينيّة في النجف الأشرف، وهو الذي بنى الإيوان الذي أمامَ غرفة القبر، ورمّم الغرفة والقبة، وله آثار ما زالت باقية في المسجد وما حوله.
ورمّم سور قبر ميثم أحدُ تجّار مسقط عندما أحدث ترميمات في مسجد الكوفة. وكانت على القبر دكّة وعليها صخرة كُتب عليها اسم مِيثم وأنّه صاحبُ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والدكّة والصخرة اليوم تحت الصندوق الخشبي الذي صنعه الحاج خضر سيّاب النجفي، وكتب على الصندوق: مرقد صاحب أمير المؤمنين (عليه السّلام) ميثم ابن يحيى التمّار سنة 1360هـ.
وكان حول القبر سور قديم يبعد عن غرفة القبر ما يقرب من خمسة أمتار، وكان بعض الأساس مكشوفاً من جهة الشرق، ويكاد أن يكون عُرضه متراً، وقد وُجد بين السورين القديم والحديث من الشرق قبور قديمة.
وما زال قبر ميثم (رضوان الله عليه) مَزاراً للمحبّين والموالين، وهو قريب من مسجد الكوفة الأعظم من جهة الجنوب الغربي على يسار الذاهب من الكوفة إلى النجف الأشرف. وقد شهدت الناس من ذلك القبر الطاهر كرامات كالتي تكون للأولياء (19).