إحياء عاشوراء .. لماذا / الصفحات: ٢١ – ٤٠
أن أحدنا فقد أباه أو أخاه، خصوصاً إذا كان صوت الخطيب شجياً وعليه مسحة حزن, واستطاع أن يصور الواقعة تصويراً جيداً.إذن, فالعلم وحده لا يكفي بل لا بد أن نسمع أو نشاهد مشاهد من تلك الواقعة بشكل ملموس, كي نستشعر القضية بصورة أعمق, وهذا سيؤدي إلى معرفة حقيقة عاشوراء وتحريك المشاعر نحوها, مما يؤدي بالمجتمع إلى الانتهال من نبع ثورة الحسين (عليه السلام) والسير على نهجها.
وبهذا نعرف أن البحث العلمي وحده والندوات وحدها لا يمكن أن تؤدي دور الشعائر, بل لابدّ من أن توجد بعض المشاهد التي تحرك عواطفنا, فالواحد منّا إذا خرج صباحاً من داره في اليوم الأول من شهر محرم الحرام ورأى معالم الحزن والأعلام السود قد رفعت على سطوح المنازل, فإنّ ذلك سيترك أثراً في نفسه لا يشبه الأثر الذي يتركه مجرد العلم بأنه غداً سيكون اليوم الأول من شهر محرم, وكذا
مواكب اللطم والعزاء.إلى هنا أصبح واضحاً لكم ـ أيّها الأعزاء ـ أن تخليد ذكرى عاشوراء له دورٌ مهمٌ في إيجاد عامل آخر غير المعرفة والعلم, وهذا العامل (العاطفة والميل) له تأثير مهم في تحريك الإنسان نحو الحسين (عليه السلام).
فالجواب على السؤال أن نقول: إن الإنسان لا تحركة المعرفة فقط, بل إن العاطفة لها دورٌ أساسيٌ أيضا في تحريكه, وهذه العاطفة لابدّ من تقويتها حتى تؤدي دورها، والذي يقوي العاطفة هو احياء الشعائر الحسينية.
ثالثاً: السؤال الثالث:
وبعد فاصلٍ قصير من الصمت ابتدأنا (سعيد) قائلاً:
أرجو أن لا أكون أطلت عليكم فهل ترون أن نؤجل بقية كلامنا للغد؟
فقلنا جميعاً: كلا.. كلا.. لم تطل، ونرجو منك أن تتابع الكلام وتحدثنا عن السؤال الثالث الذي فهمته من كلامنا
حول الشعائر الحسينية.فقال (سعيد): أما السؤال الثالث الذي تضمنه سؤالكم السابق فهو:
لماذا البكاء على الحسين (عليه السلام) , فالبكاء ليس هو الطريق الوحيد لإثارة عواطف الناس وأحاسيسها, بل هناك الفرح والسرور، وممكن أن تثار بهما العاطفة, فلماذا خصوص البكاء والحزن في المراسيم والشعائر الحسينية؟! بل لماذا اللطم وضرب الصدور؟ لماذا لا نحتفل ونوزع الحلوى بين الناس لأجل ذلك؟
فماذا تقولون أنتم في جواب هذا السؤال؟
فسبقت أنا أصحابي وقلت: نحن نعلم بالوجدان أن الضحك غير مناسب في مثل هذه المناسبات لكنني لا أعلم الجواب الدقيق لذلك.
فقال (سعيد): لقد اقتربت في كلامك من الجواب, ولكن الأدق أن يقال: إن العواطف والأحاسيس لها أنواع مختلفة,
وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى دليل, فنحن نعلم أن الإنسان يضحك في حالات الفرح ويبكي في حال الحزن, ويتألم في حال الألم و… إلى ما شاء الله من الأحاسيس, وإثارة أي نوع من العاطفة لابدّ أن يكون مناسباً لتلك الحادثة, فلا يمكن للإنسان أن يبكي بكاءً حزيناً ويقول: أنا حزين وأبكي لأنني فرحان, كما لا يمكنه أن يضحك في حال الحزن!!فالمهم إن نوع العاطفة يتناسب مع نوع الحادثة, فشهادة الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وصحبه في تلك الحادثة المهولة التي أعطت أعظم الدروس في التضحية من أجل العقيدة والمبدأ لا يناسبها الفرح والسرور؛ لأنها بنفسها حادثة محزنة ومؤلمة, غاية الحزن والألم فلابدّ فيها من عاطفة تلائهما, ولابدّ من القيام بعمل يثير حزن الناس, ويجري دموعهم, ويفرس العشق والحماس والحرقة في قلوبهم, والشيء الذي يمكن أن يقوم بهذا الدور في هذه الحادثة هو إقامة مراسم العزاء والبلاء, بينما السرور والضحك لا يستطيع أن ينهض بهذا
الدور.إن الضحك لا يخلق من الإنسان إنساناً طالباً للشهادة.
ولا يعبّد الطريق أمامه كي يتحمل أعباء آلام ومصاعب الحروب التي تفرض على المؤمنين. إن مثل هذه الأمور تحتاج إلى عشق نابع من البكاء والحماس والحرقة, وسبيل ذلك هو إقامة مجلس العزاء.
رابعاً: السؤال الرابع:
بقي سؤال واحد كان بودي أن الحقه بالأسئلة السابقة من الممكن أن يثار وبالخصوص في زماننا هذا, زمن المغالطات والتلاعب بالألفاظ لتحقيق الأغراض.
فلقائل أن يقول: آمنّا معكم بأن تاريخ الحسين (عليه السلام) تاريخ مشرق يجب تخليده, ولابدّ من إقامة العزاء في ذكراه, إلا أنكم في عزائكم هذا تفعلون أمراً آخر، وهو أنكم تلعنون أعداء الحسين وقتلته, وهذا إحساس سلبي لا يصنع
منّا أناساً متحضّرين, فعلينا أن نتعامل مع جميع الناس بوجه حسن؛ بالابتسام إليهم, والتسامح معهم, فالمجتمع اليوم لا يستسيغ هذه الأعمال, علماً أن الإسلام دين محبة وتسامح ورحمة ورأفة؟والجواب على ذلك: إن من يطرح هكذا أفكار إن كان جاهلاً وينطق عن جهله, فمن السهولة اجابته إلاّ أن الكثير ممّن يطرح هذه الأفكار إنّما لهم أغراض خاصة أو يريدون تنفيذ ما يخطّطه الآخرون, لكننا نفترض أن السؤال سؤال علمي, فلابدّ حينئذ من الاجابة عليه بصورة علمية, مهما كان مصدره, ويمكن الإجابةً عليه بأن نقول:
إنّ النفس البشرية كما أنها لا تحتوي على العلم فقط بل لابدّ لها من العاطفة أو الأحاسيس, فهي في نفس الوقت لا تحتوي على الأحاسيس الإيجابية فقط, بل ضمت أحاسيس سلبيه كذلك، فكما أن الفرح قد غرس فينا فكذلك الحزن, فالله تعالى أوجد فينا قابلية الضحك كما أوجد قابلية البكاء،
ولكل منهما دور في حياة الإنسان, فنحن نحتاج إلى الضحك في محله, ونحتاج إلى البكاء في محله, فإذا عطلنا أحدهما فإننا عطلنا جزءاً من وجودنا وسيصبح خلقه فينا لغواً حينئذٍ.كما أن الله تعالى خلق فينا المحبة لنبرزها للآخرين الذين يخدموننا أو للأفراد الذين يملكون كمالاً ما، سواء كان كمالاً جسدياً أو روحياً أو عقلياً, فعندما يتعرف المرء على إنسان يمتلك كمالاً ما فإنه ينجذب إليه, كما يوجد في الإنسان شيء يقابل المحبة موجود في فطرته وهو البغض والعداوة, يبرزه الإنسان لمن أراد به السوء والأذى, وهذا أمر فطري.
وليس هناك عدو أعدى من الذي يريد سلب الدين عن الإنسان, فهذا العدو هو أشد الأعداء ضراوة؛ لأنه يريد سلب السعادة الأبدية من الإنسان, قال الله تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}(١), فالشيطان عدو لنا؛ لأنه يريد سلب ديننا عنّا, ولا يمكن في حال من الأحوال أن نتصالح مع الشيطان, وإذا حدث أن تصالح إنسان مع الشيطان فسينقلب ذلك الإنسان بنفسه ويصير شيطاناً, فإن كان لابدّ من محبة أولياء الله وعباده المخلصين, فلابدّ حينئذٍ من معاداة أعداء الله؛ لأن الإنسان إذا لم يعاد أعداء الله ويبغضهم سيصبح بالتدريج منهم, ويكون سلوكه كسلوكهم, وسيقبل أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم, نتيجة لمعاشرته لهم.أنظروا ـ يا أخواني ـ إلى القرآن ماذا يقول: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ}(٢), يعني أترك الذين يهينون الدين ويستهزئون به. ثم يقول في موضع آخر إن من لا يقبل النصيحة السابقة فإن الله تعالى سيلحقه بأولئك
المستهزئين المهينين للدين, قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}(١), فعقاب كل من أحب الذين يستهزئون بالدين أن يحشر يوم القيامة مع المنافقين. وكلا الفريقين المستهزئ والمنافق في النار, والسبب واضح, لأن من يحب ويودّ المستهزئ بالدين المستهين به فإنه بالتدريج سيتأثر بأفكاره وكلامه, وحينئذ سيُحدث كلامه شكاً في نفس ذلك المحب, وإذا حدث الشكّ في نفسه مع كونه يظهر الإسلام فسيكون ذلك نفاقاً؛ لأن النفاق هو إظهار شيء من واقع حياتنا. لاحظوا أعزائي جسم الإنسان فهو مركب على هيئة بحيث يستطيع أن يجذب المواد المفيدة إليه لغرض البناء والنمو, وفي نفس الوقت هو مجهّز بنظام دفاعي يطرد الميكروبات والجراثيم
ويقاومها ويطردها إلى الخارج, وإذا ضعف هذا النظام الدفاعي وتغلبت الجراثيم فهذا سيؤدي إلى الموت حتماً، فلا يمكن أن نقول: إن هذه الجراثيم والميكروبات ضيف عزيز على الجسم يجب استقباله واحترامه والترحيب به؛ لأن في ذلك هلاكاً للجسم.وهذه سنة إلهيّة فقد جعل الله تعالى لكل كائن حي نظامين؛ نظاماً للجذب وآخر للدفع, نظاماً لجذب الأمور المفيدة, وآخر لدفع وطرد الأمور المضرة والخطرة, وكذا الآخر في نفس الإنسان وروحه, فهكذا استعداد لكلا الأمرين موجود فيها بالفطرة حتى تستقيم النفس, فلابدّ من عامل جذب نفسي نتقبل به الأفراد المفيدين لنا, ونتقرب إليهم, ونتعلم منهم, وفي المقابل لابدّ من عامل دفع وطرد نعادي به الأفراد المضرين لمصير المجتمع, قال الله تعالى في وصف نبيه إبراهيم (عليه السلام): {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرء?ؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}(١), فالقرآن يحثنا على التأسي بإبراهيم (عليه السلام) وأصحابه, إذ إن النبي إبراهيم (عليه السلام) له منزلة خاصة في الثقافة الإسلامية, بل إنّه هو الذي أطلق اسم الإسلام على ديننا {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}(٢), فلننظر ماذا فعل إبراهيم (عليه السلام) مع قومه الذين عادوه وأصحابه, وأخرجوهم من ديارهم حيث قالوا لهم: {إِنَّا بُرء?ؤا مِنكُمْ} أي إنهم أعلنوا البراءة منهم ومن أفعالهم.ولم يكتفِ إبراهيم (عليه السلام) وأصحابه بذلك بل قالوا لهم: {كَفَرْنَا بِكُمْ}, فالذي نفعله نحن بلعننا لأعداء الحسين وأعداء الإسلام إنما هو تأسٍ بإبراهيم (عليه السلام) وأصحابه,
والقرآن يأمرنا بذلك ويقول: أعلنوا براءتكم من أعداء الدين, فليس من الصحيح أن يكون الإنسان مبتسماً على الدوام مع كل أحد وفي كل الظروف, بل عليه ـ وفي بعض المواقف ـ أن يكون عبوساً مع كل من يريد هدم الدين, أو يريد أن يعادي الحسين ويسعى إلى تقويض أهداف ثورته.فإذا لم نعاد من يعادون ديننا فسوف ننجذب بالتدريج إليهم, ثم نصبح يوماً بعد يوم منهم, ونكون نحن أعداء للدين.
المسألة المهمة ـ أيّها الإخوة ـ التي عليَّ أن أبينها هنا ولا يمكنني اغفالها هو: إنّه لابدّ أن نتعرف بالدقة على موارد الجذب وموارد الدفع؛ لأنها في كثير من الموارد تختلط بعضها ببعض, بل قد تصبح على العكس, فنقوم بدفع ما يجب جذبه أو جذب ما يجب دفعه, فمثلاً لو أن شخصاً كان يحمل مفاهيم خاطئة (أي أنه جذب ما يجب دفعه) ثم
بينّا له خطأه واقتنع ورجع عن خطائه فمثل هذا الشخص لا يصحّ أن نعاديه, إذ مجرد ارتكاب الشخص لذنب معين لا يصح أن نعاديه ونرفضه من المجتمع؛ لأنه مريض يحتاج إلى علاج.أما الشخص المتعمد والذي يروّج الفحشاء والمنكر ويعلن عداوته لأولياء الله ففعله هذا خيانة وخبث, فعلينا أن نعاديه وندفعه.
فتلخص أعزائي مما تقدم: إن احياء مراسم عاشوراء هو تجديد لحياة الحسين (عليه السلام) , للاستفادة منها بأفضل ما يمكننا استفادته, ولا يمكن أن نكتفي بالبحوث والندوات العلميّة, لأن الإنسانية بحاجة إلى عواطف تسير جنباً إلى جنب مع العلم والمعرفة, كجناحي الطائر فلا يكفي أحدهما, كما لا يصحّ أن نستقبل عاشوراء بعواطف الفرح والسرور؛ لأنها لا تتناسب مع الطبيعة المأساوية المروعة ليوم عاشوراء, وبالتالي فكما يجب السلام على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وحبه