كثر الحديث خلال الفترة الأخيرة عن مشاريع ومخططات أميركية جديدة تستهدف عرقلة كل المساعي الإقليمية لحل الأزمة السورية ونسفها، بعد التفاؤل الذي خيّم على الجميع إبّان القمة العربية في جدة وبعدها. فالحشود العسكرية الأميركية شرق الفرات وفي الشمال العراقي حيث تسيطر قوات مسعود البرزاني، وتحركات الأساطيل الحربية والفعاليات المتزايدة في القواعد الأميركية في العراق والأردن والبحر الأحمر وقطر والبحرين والسعودية ودول الخليج الأخرى دفعت بعضاً من المراقبين إلى الحديث عن سيناريوهات أميركية جديدة، أولاً لعرقلة المعالجة النهائية للأزمة السورية بصيغ روسية- إيرانية، وذلك من خلال السلاحيْن التقليدييْن، أي الكرد والعشائر السنية، وثانياً من خلال تفعيل الخلايا النائمة لـ”داعش” وتطوير العلاقات السرية مع “النصرة”، وهي الآن تحت الحماية التركية في إدلب وغرب الفرات عموماً.
وتفسر هذه المعطيات تصريحات الرئيس إردوغان ووزير دفاعه جولار، إذ رفضا أكثر من مرة تلبية شروط الرئيس بشار الأسد، وأهمها الانسحاب من 9% من الأراضي السورية غرب الفرات وشرقه، حيث توجد القوات التركية مع مسلحي ما يسمّى بـ “الجيش الوطني السوري” الذي تأسس صيف 2019 في أنقرة.
كذلك يفسر تراجع حماس العواصم العربية تجاه المعالجة السريعة والعملية للأزمة السورية، وغض النظر عن كل ما تقوم به أنقرة في سوريا وليبيا والعراق، إذ ينتظر الجميع ما ستؤول إليه الحسابات الإقليمية والدولية في ما يتعلق بمستقبل الدور الإيراني في المنطقة، ولا سيما في العراق وسوريا الجارتين لتركيا.
وتراقب بدورها، أي تركيا، ما يحدث على حدودها الجنوبية إن كان شمال العراق أو شرق الفرات حيث وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، الذي يحارب الدولة التركية منذ نحو 45 عاماً. وهو الآن أكثر قوة بفضل الدعم الأميركي والأوروبي الضخم سياسياً وعسكرياً وعلى الصعد كافة، الأمر الذي يزعج أنقرة، ولكن من دون أن تتخذ أي موقف عملي ضد ذلك، خاصة بعد أن تخلت عن تحفظاتها على انضمام فنلندا والسويد إلى الحلف الأطلسي.
ومع استمرار العمليات العسكرية التركية شرق الفرات وشمال العراق ضد مسلحي الكردستاني والوحدات الكردية التي تستهدف المسيّرات التركية قياداتها بشكل دوري، لا يهمل الرئيس إردوغان حواراته السرية مع قيادات حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للعمال الكردستاني)، والتي كان إردوغان يقول عنها قبل الانتخابات الأخيرة إنها “إرهابية وتتلقى التعليمات من الدول الإمبريالية ومن جبال قنديل حيث قيادات حزب العمال الكردستاني”.
وتتحدث المعلومات الصحفية يومياً عن اتصالات سرية بين قيادات “العدالة والتنمية” و”الشعوب الديمقراطي” للاتفاق على صيغة ما تمنع الكرد من التصويت لمرشحي المعارضة في الانتخابات البلدية في آذار/مارس المقبل، خاصة في إسطنبول وأضنة وأنطاليا وإزمير ومرسين، حيث يعيش الكرد بكثافة.
وقالت هذه المعلومات إن “العدالة والتنمية” وعد قيادات حزب الشعوب الديمقراطي بوضع حد نهائي للمضايقات الأمنية والقضائية التي تستهدف كوادر الحزب، وبالتالي إخلاء سبيل معظم المعتقلين والمحكومين من أعضاء الحزب وأنصاره، وعددهم نحو 5 آلاف. أما الوعد الأهم فهو عدم المساس برؤساء البلديات الذين سيتم انتخابهم في آذار/مارس المقبل، وهو ما تفعله السلطات عادة حيث يقيل وزير الداخلية رؤساء البلديات المنتخبين وبأغلبية ساحقة في ولايات ومدن جنوب شرق البلاد، كما هي الحال في الانتخابات الماضية في 2018، عندما أقال وزير الداخلية أكثر من 50 رئيس بلدية، وبعض منهم ما زال في السجون حالهم حال الرئيسين المشتركين السابقين للحزب صلاح الدين دميرطاش وفيكان يوكساكداغ.
وتتمثل الخطوة التالية في هذا الحوار في التوصل لصيغة قانونية ما قد تساهم في المرحلة اللاحقة في إخلاء سبيل زعيم العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1999.
هذا الحوار السري بين إردوغان وقيادات الشعوب الديمقراطي سبقته معلومات عن اتصالات مشابهة مع القيادات الكردية السورية شرق الفرات تارة بوساطة أميركية، وتارة أخرى بوساطة ما يسمّى بـ”حكومة الائتلاف السوري” المعارض الموالي لأنقرة.
وترى الأوساط السياسية في هذا التحرك التركي وإصرار أنقرة على البقاء في الشمال السوري مبرراً عملياً بالنسبة إلى واشنطن للاستمرار في احتلالها لشرق الفرات. وترى أنقرة، بدورها، في هذا الاحتلال مبرراً لبقائها في شرق الفرات وغربه، على الرغم من كل الضغوط الروسية-والإيرانية.
ويبدو واضحاً أن الرئيس إردوغان يسعى لموازنة هذه الضغوط بالمزيد من التنسيق والتعاون مع واشنطن، بما في ذلك في شرق الفرات، حيث المساعي الأميركية لتشكيل كيان سني شرق الفرات بامتداداته إلى غرب الفرات كما فعلت عام 2007 بتشكيل ما يسمى بـ”الصحوات السنية” في الأنبار؛ كي تقاتل مع الجيش الأميركي ضد مختلف المجموعات والفصائل التي كانت تقاتل ضد الاحتلال الأميركي.
كل ذلك مع توقعات بمزيد من التقارب بين أنقرة وواشنطن خلال الفترة القادمة، بعد الحديث عن فتور وأحياناً توتر في العلاقة بين أنقرة وموسكو.
وقد يدفع ذلك الرئيس إردوغان لمزيد من الحوار الإيجابي مع الرئيس بايدن، والاتفاق معه على قواسم مشتركة في ما يتعلق بتقرير مصير شرق الفرات، ومن خلاله سوريا والعراق وإيران بكل معطياتها وأهمها الورقة الكردية التي كانت وما زالت وستبقى قابلة للاستهلاك إقليمياً ودولياً. ما دامت الدول الأربع التي يعيش فيها الكرد تختلف فيما بينها في هذا الموضوع كما يختلف الكرد فيما بينهم حول الصيغة العملية التي قد تساعدهم على إقامة دولتهم أو كياناتهم المستقلة، التي كانت وما زالت حديث العواصم الاستعمارية منذ اتفاقية سيفر (1920) وقبلها سايكس بيكو (1916). ولكن، يبدو أن الغرب رجّح الاهتمام باليهود في وعد بلفور (1917)، وحتى يبقى العرب والترك والكرد والفرس أعداء كما هي الحال بين الكرد فيما بينهم في الدول الأربع.
وأثبتت كل السنوات الماضية أنه لا حل لمشكلات هذه الدول إلا بحل المشكلة الكردية وطنياً كان أو إقليمياً، وأياً كانت الصيغة، بعد أن فشلت كل الصيغ العسكرية منذ نحو 100 عام، أي في سنوات الدولة العثمانية، ثم العراق وإيران وتركيا والآن سوريا، ولا حل لأزمتها إلا بحل مشكلتها الكردية ومفتاحها أيضاً في يد إردوغان ومن يتحالف معه إقليمياً ودولياً، وهم ليسوا بقلّة، وإلا لما وصلت المنطقة إلى ما وصلت إليه بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي”، وكان لإردوغان وما زال الدور الأهم فيه، ويعرف الجميع أنه لن يتخلى عن هذا الدور بسهولة، ما دام البعض يشجعه على ذلك.