الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر18

المسيح في ليلة القدر18

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ – رواية حضور الإمام الخامنئي دام ظله في منزل الشهيد وارطان آغاخانيان في تاريخ 26/12/1985م.

الشهيد وارطان آغاخانيان
مكان الاستشهاد: جزيرة مجنون – العراق
تاريخ الاستشهاد: 09/12/1985م
 
 
 
 
218

182

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 اللّيلة هي ليلة العيد، ليلة ميلاد السيّد المسيح. والمقرّر أن نذهب أولاً لمعايدة بيت العم غبريال. ريثما أجهزّ ذهب إدموند لشراء بعض الحلويات. أُفتّش بين ملابسي على لباس داكن اللّون، ثوبٍ رصاصيّ وحجاب أسود. صحيح أنّ الليلة هي ليلة العيد، ولكنّ العم غبريال وزوجته وأرتوش في حالة حداد، حداد على ابنهم وارطان. وليس من المناسب أن نذهب إلى منزلهم بلباس فاتح اللّون أو مفرح.

لقد تأخّر إدموند ولا أثرَ له. لا بدّ أنّ محلّ الحلواني يزدحم بالزبائن في ليلة العيد، وحتى يصل الدور إلى إدموند سيطول الوقت. فيما أنتظر أحمل دفتراً كنتُ قد كتبتُ عليه مختارات من الأشعار الفارسيّة وأُطالع تلك الأبيات. إنّها باقةٌ من أشعار سعدي وحافظ ومولوي وصائب. 
أنا أَنْظُم الشعر باللّغة الأرمنيّة وأعشق أشعار عظماء الشعر الفارسيّ، خاصّةً أشعار هؤلاء الثلاثة، أي سعدي وحافظ وصائب. لقد أحكموا نظم أهمّ المضامين في أشعارهم، بحيث إنّ أيّ شاعر في أيّ مكان من هذا العالم يهيم بقراءة هذه الأشعار.
يرنّ جرس المنزل، فأُغلق دفتري الصغير، ثمّ أُطفئ الأنوار وأخرج من البيت. إدموند منتظر خلف المقود، وأركب السيارة.
– لنذهب!
– عفواً لأنّني تأخّرتُ قليلاً. كان محلّ الحلويات مزدحماً وفي طريق عودتي حصل تصادم بين سيارتَيْن فازدحم السَّير أيضاً.
– لا مشكلة. لم يتأخّر الوقت كثيراً بعد.
منزل العمّ قريبٌ من منزلنا، ولا تستغرق الطريق أكثر من عشر دقائق. بينما يقود السيّارة بيده اليمنى، يتناول إدموند مجلّة من المقعد الخلفي ويضعها في يدي:
– صحيح، نسيتُ أن أُخبرك، لقد طبعت مجلّة “بروين” مقالتك. اتّصلوا اليوم صباحاً
 
 
 
219

183

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 بالدّكان وقالوا إنّ مقالتك قد تمّ طبعها في العدد الجديد المنتشر. 

أبحث عن مقالة “حافظ والمسيح” في جدول المحتويات. أجدها في الصفحة الثالثة والثلاثين. أبدأ بقراءة المقالة وكأنّني لست أنا من كتبتُها. لا أنتبه إلّا وقد وصلنا إلى منزل العمّ.
بيت العمّ غبريال يعجّ بالناس. أكثر أفراد العائلة قد اجتمعوا هنا، جميعهم ما عدا ابن عمّي الشاب “وارطان”. صوره بالطبع قد ملأت الجدران والأبواب لكن هو نفسه، لا، ليس موجوداً. 
لقد محا الغمّ والحزن لون عيد الميلاد عن المنزل، وحوّله إلى مأتم. عينا زوجة عمّي محمرّتان ومنتفختان من كثرة البكاء، وصوتها قد بُحّ واختفى من كثرة النحيب والأنين. العمّ غبريال ليس بأحسن حالاً منها. تُرى بوضوح في خطوط وجهه الحزينة، الحسرة على عدم وجود وارطان. لقد هرم هذان الزوجان في هذه الخمسة عشر يوماً المنصرمة بمقدار خمس عشرة سنة. 
كان وارطان من أولئك الشبّان الطيّبين المسالمين. وكان قد ترك دراسته والتزم بالعمل. لم أفهم أساساً لماذا ترك الدراسة، فقد كان تلميذاً مجتهداً وكانت علاماته جميعها بين السبع عشرة والثماني عشرة. لكنّه فجأة ولا أعلم ما الّذي حصل، قرّر ترك المدرسة والتزم بالعمل في الحلاقة. حينما بلغ الثامنة عشرة ذهب بكامل الرغبة والشوق ليلتحق بالخدمة العسكريّة. 
ومهما حاول رفاقه أن يثنوه عن ذلك قائلين: “يا وارطان! لا تذهب! ليس الأمر مزاحاً! إنّها الحرب! قتلٌ ودمّ!” لم يكن لينصت إليهم، من دون أيّ يوم تأخير، انطلق إلى خدمته. 
ليس في منزل العمّ غبريال أثر لشجرة الميلاد أو الورود أو الحلوى، ليس فيه إلا دمعة العين وحرقة الكبد. 
تحلّقنا مع نساء العائلة حول زوجة عمّي ورحنا نُهدّئ من روعها، لكنّها كانت مستغرقة في حدادها، وكأنّها في منام طويل لا تقدر أن تصحو منه. والحقّ معها في الواقع، فريحانة عمرها الّتي لم تُزهر بعد ولم تذق طعم الحياة، قد قُطِفَت قبل أوانها، وباتت تحت التّراب عن عمر تسعة عشر ربيعًا. قلبي أنا، ابنة عمّه، قد انفطر عند سماع خبر وارطان، فكيف بحال أمّه، زوجة عمّي.
 
 
 
220

184

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 يرنّ جرس المنزل، وبعد لحظات يعود ابن عمّي الّذي فتح الباب مع شابَّيْن غريبَيْن غير أرمنيَّيْن أيضاً؛ ممّن يدخلون بقول “يا الله”. والظاهر أنّه كان من المقرّر سلفاً أن تأتي جماعة اللّيلة لإجراء مقابلة وتقرير حول الشهيد مع العمّ غبريال وزوجته. لا أدري بهذه الحال، وفي هذا اليوم بالذّات، كيف سيتمكّن عمّي وزوجة عمي من الحديث! بأيّ قلبٍ وبأيّ لسان! فليكن ما يكون. لم يمض على شهادة وارطان إلا أسبوعان فقط، وحرارة فقدانه لم تبرد بعد.

سلوك الشابَّيْن الغريبَيْن ليس عاديّاً. يظهر من تصرّفاتهما الاضطراب والقلق، وكأنّهما لم يتوقّعا وجود هذا الجمع من الضيوف في المنزل. أحد الشابَّيْن، وكأنّما يريد أن يُفشي سرّاً للعمّ غبريال، يخلو به في زاوية من الغرفة ويتمتم له بأشياء. من بعيد، أُدقّق في الحوار الجاري بين العمّ وذلك الرجل الشابّ، وأرى أنّ لون وجه عمّي قد تغيّر من سماع كلماته، وكأنّ الشاب فعلاً قد أفشى له سرّاً. 
بعد سماع كلماته، يأتي العمّ ناحيتنا مسرعاً ويقول: هناك ضيف مهمّ سيأتي إلى منزلنا الآن، أنا سأقف لاستقباله أمام الباب وأنتم حضّروا الضيافة!
تتّسع حدقتاي من شدّة التعجّب! مَنْ هو هذا الضيف المهمّ الذي قلب حال العمّ فوقف على أهبّة الاستعداد أمام باب البيت لاستقباله؟! فضولي لا يُمهلني لرؤية الضيف بأمّ عيني فأسأل
 
 
 
221

185

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 مباشرة: عمّي! من هو هذا الضيف المهمّ؟

– السيّد رئيس الجمهوريّة!
السيّد رئيس الجمهورية؟! عمّي الآن قد ذهب لاستقبال رئيس الجمهوريّة؟! هو هو نفسه، الرئيس، السيّد الخامنئي؟! وما هي المناسبة الّتي استدعت رئيس الجمهوريّة أن يأتيَ في هذا الوقت من اللّيل إلى منزل العمّ غبريال؟ في هذه الأوضاع الّتي تعيشها البلاد؟ لا بدّ أنّ العمّ قد اشتبه أو لعلّني أنا اشتبهتُ في السّماع. لا أعلم، لعلّهم قادمون لإجراء مقابلة تلفزيونيّة أو ما شابه. لكن، إن كانوا قد أتوا لأجل إجراء مقابلة عاديّة فلماذا اضطرب العمّ إلى هذا الحدّ وانقلبت حاله؟!
يا إلهي! إنّه أمر لا يُصدّق! هذا الشخص الّذي دخل من الباب وراح يُسلّم علينا فرداً فرداً ويسأل عن الأحوال، هذا الّذي بارك لنا حلول عيد ميلاد السيّد المسيح، هذا الذي جلس خلف طاولة الضيافة وراح يتأمّل بصورة وارطان، هو نفسه رئيس الجمهورية السيّد الخامنئي!
يتأمّل السيّد الخامنئي في صورة وارطان ويُحدّق العمّ وزوجته وجميعنا فيه هو. عجباً كم أنّ وجهه عن قربٍ مضيءٌ ويجذب الأنظار!
 
 
 
222

186

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 بعدما اكتفى قلبه من التأمّل في صورة وارطان، بدأ السيّد الخامنئي حديثه بهذه الكلمات.

– إن شاء الله يكون هذا الشهيد العزيز مصدر فخركم أنتم وكلّ عائلتكم. كما هو مصدر فخر لنا نحن. إن شاء الله تقرّ أعينكم أنتم وهذه السيّدة وسائر أفراد عائلتكم الكريمة ويمنّ الله عليكم بسرور القلب ويُعطيكم الأجر الكثير. نحن نفتخر بكم وبهذا الشاب وبأمثاله الّذين دافعوا عن وطنهم وعن استقلالهم وعن بلدهم وعن بيوتهم.
في ذاکرتي عدّة خواطر بارزة جدّاً عن السيّد الخامنئي. إحداها ترتبط بالأشهر القليلة الفائتة حين حصل الانفجار في صلاة جمعة طهران. لقد تابعت مشاهد الحادثة على شاشة التلفاز، وقد طغى عليّ الشعور بالزهو لأنّ لدينا رئيس جمهوريّة شجاعًا كهذا!
في ذلك اليوم، كان هو إمام صلاة الجمعة وكان يخطب في الناس. عندما انفجرت القنبلة وصل ضغط انفجارها وحرارتها إلى منبر الصّلاة نفسه. كان حشد الناس قد هاج واضطرب وكاد جمع الصلاة يتضعضع، حين علا فجأة صوت المكبّر معلناً أنّ “رئيس جمهورية إيران الإسلاميّة سوف يواصل خطبته”. 
لا يعلم إلاّ الله ما انتابني من سرور وفخر جرّاء تلك الشجاعة التي أظهرها السيّد الخامنئي في عزمه على مواصلة خطبته في تلك الأوضاع. لقد واصل كلامه بوجهٍ مغموم
 
 
 
223

187

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 ولكن بكلام راسخٍ وثابت. وعندما شاهد الناس قوّته وصلابته هدؤوا وتلملموا وكأنّ الانفجار لم يحصل بالقرب منهم قبل قليل!

يسأل السيّد الخامنئي عن تاريخ وكيفيّة استشهاد وارطان، ويوضح العم غبريال:
– منذ خمسة عشر يوماً، استشهد في جزيرة مجنون1 على أثر إصابته بشظية قذيفة. أحضروا جثمانه بسرعة.
بعد ذلك يُثني السيّد الخامنئي على العمّ وزوجته لشجاعتهما وقوّتهما وتربيتهما لابن شجاع مثلهما كوارطان:
– هؤلاء الأبناء، هؤلاء الشباب، هؤلاء الرجال العظماء باتوا أساس استقلال بلدنا. ولو أنّهم لم يكونوا موجودين لما أمكن أن يُحفظ استقلال البلد وعمرانه وعزّته. إنّ حقّ هؤلاء على الناس عظيمٌ جدّاً، ليس فقط على جيل اليوم، بل لهم حقّ كبيرٌ على تاريخنا أيضاً. وليس هم فقط، أنتم الآباء والأمّهات أيضاً لكم حقٌّ مماثل. الشهداء هم الخطّ الأماميّ وأنتم الخطّ الخلفيّ الداعم. أنتم وهذه السيّدة لو لم تمتلكوا القوّة والشجاعة والصبر والتحمّل، لو كنتم ضعفاء لما أمكن أن توجد مثل هذه القدرة في هؤلاء الشباب، إنّها قوّتكم الّتي أمدّتهم بالقدرة وعظمتكم الّتي دفعتهم إلى الميدان. وبناءً عليه، فحقّكم في أعناق هذا الشعب وهذا البلد، حقّ عظيم جدّاً.
كلّما مرّ على حضور السيّد الخامنئي وقتٌ أكثر، تبدّلت أجواء الغمّ والحزن في المنزل. وكلّما تحدّث أكثر ارتاح وجه العمّ وزوجته وازداد إشراقًا. 
يقول “السيّد” لزوجة عمّي:
– أُحبّ كثيراً أن أسمع منكم عن شعوركم وعن كيفيّة إطلاعكم على خبر شهادة ولدكم العزيز.
تحاول زوجة عمّي أن تنطق، لكنّ الغصّة تخنقها وتمنعها الدموع في عينَيْها.
 

1- جزيرة عند ملتقى نهرَيْ دجلة والفرات بالقرب من البصرة في العراق. تمّ الاستيلاء على هذه الجزيرة في فترة الحرب من قِبَل القوّات الإيرانيّة خلال عمليّات خيبر، وقد سعى الجيش العراقي لاستعادتها بكلّ ما أمكنه حتى باستخدام الأسلحة الكيميائيّة. استشهد في هذه الجزيرة عدّة قادة كبار من الحرس الثوري الإسلاميّ أمثال الحاج محمد إبراهيم همت قائد فرقة طهران وحميد باكري قائد فرقة تبريز.
 
224

188

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 عندما أرجعوا جثمان وارطان من الجبهة تمكّنت امرأة عمّي أن تنظر إلى وجهه للحظة. وكأنّها كلّما أرادت أن تتحدّث عنه تستذكر تلك اللحظة حينما وقفت أمام جثمانه و… .

يرى السيّد الخامنئي زوجة عمّي في هذه الحالة فيُغيّر موضوع الكلام، ويسأل عمّي عن شغله وعن عدد أولاده.
– عندي ثلاثة أولاد آخرين، ابنتان وصبي.
– أسأل الله أن يحفظ لك أبناءك الثلاثة الباقين بسلامة وعزّة، إن شاء الله يوفّقون في كلّ حياتهم.
يُشير السيّد الخامنئي إلى جمعنا نحن الواقفين حولهم لنستمع إليهم، ويقول بكلّ لطف:
– أيّتها السيّدات لماذا أنتنّ واقفات، تفضّلن اجلسن.
عندما أُقارن هذا السلوك المحبّب من السيّد الخامنئي بتلك الخطابات الحاسمة، لا أفهم أنّ شجاعته وصلابته وقوته هي حقيقةٌ1 لها رقيقةٌ عبارة عن المحبة والرحمة واللّطف بلا حدود.
ثم يسأل: لا بدّ أنّكم من الأقارب؟
يُبادر زوجي إدموند للجواب: نعم، سيّد!
– حسناً فعلتم أن لم تَدَعوهم في وحدتهم.
 

1- بمعنى أنّ هذه الحقيقة تُخفي في باطنها الرحمة والمحبّة.
 
 
 
225

189

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 – إنّه تكليفنا يا سيّد. هذا أقلّ ما يُمكن أن نقوم به.

– نعم. فعلاً هذا تكليف، خاصّة في هذه الأيّام التي هي أيام عيد وسنة جديدة. بالتأكيد هذا العمل أكثر ضرورة وأوجب.
يُكمل السيّد الخامنئي كلامه العذب والجذّاب والمحبّب حول علاقة المسلمين ومحبّتهم لحضرة النبيّ عيسى والشهداء المسيحيّين في صدر المسيحية. كلامه بالنسبة إليّ كان جديداً ولافتاً جدّاً، وصادراً أيضاً على لسان عالم الدِّين ورئيس جمهورية بلدي. 
– هذا العمل الّذي يقوم به اليوم شهداؤكم يُعادل ذلك العمل الّذي قام به شهداء المسيحيّة في الصدر الأول للمسيحيّة. شهداء المسيحيّة هم شهداؤنا أيضاً؛ ليسوا خاصّين بكم فقط. عيسى المسيح هو نبيّنا أيضاً، المسلمون يعترفون بعيسى ويقبلون به نبيّاً. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تتحدّث حول عيسى، ونحن نعتبره نبيّ الله المقرّب. لقد واجه شهداء صدر المسيحيّة كفر ذلك الزمان، رغم الضغوط الّتي مارسها عليهم أباطرة الروم عبدة الأصنام واليهود المتسلّطون على منطقة بيت المقدس وبلاد الشام وما حولها. وقد قاوم شهداء المسيحيّة كلّ هذه المحن. في ذلك اليوم لم يكن المسيحيّون قادرين على إبراز عقائدهم، وبقيت الأناجيل حتى مئة وخمسين سنة تقريباً تنتقل من صدر إلى صدر. لم يكن أحدٌ يمتلك جرأة كتابتها أو حمل نسخة مكتوبة منها. كانوا مضطّرين خوفاً من اليهود والمشركين أن يقرؤوا آيات الإنجيل في الأقبية والأماكن المخفيّة، وقد قُتل منهم عددٌ كثير، رجال ونساء وحتّى أطفال. 
كان الجنود الروم يأتون إلى القِلاع والقرى، يقتحمون البيوت ويقتلون النساء والأطفال. مارسوا الوحشيّة إلى هذا الحدّ، ولكنّ المسيحيّين قاوموا. وكانت النتيجة أنّكم أنتم بعد ألفَيْ سنة مسيحيّون! لقد مرّ ألفا سنة على ذلك الزمان وما زال المسيحيّون موجودين إلى اليوم. عالم المسيحيّة اليوم هو بهذا الوسع وبهذا الانتشار بسبب تلك التضحيات. ولو لم تكن تلك التضحيات لما بقيت المسيحيّة إلى هذا العصر. واليوم أيضاً، تستطيع هذه التضحيات التي يُقدّمها شعبنا أن تُبقي هذه الثورة حيّة وتحفظ عزّة بلدنا. ولهذا، فهؤلاء الشهداء لهم قيمة عظيمة، ونحن نفتخر بكم، بهذه السيّدة، بهؤلاء الأبناء، أنتم مصدر فخرنا.
 
 
 
 
226

190

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 عندما يُقرّر السيّد الخامنئي المغادرة، يكون جوّ الحزن قد اختفى من المنزل، ولا أثر للغم والغصّة على الوجوه. وعند التوديع ينظر في وجه عمّي وزوجته ويقول:

– اسمحا لي أن أُقدّم لكما هذا التذكار لحفظ ذكرى الشهداء.
يُقدّم تذكاراً لعمّي الذي كان قد جلس إلى جانبه أوّلاً: تفضّلوا.
ثم تذكاراً آخر يُقدّمه لزوجة عمّي: هذا أيضاً لكم أيّتها السيّدة.
ثم يُسلّم علينا جميعاً بدفءٍ وحميمية ويُغادر!
لقد طار النوم من عيني كطائر حلّق بعيداً. ومع أنّ الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل، لكن لا قدرة لي على النوم، أروح وأجيء في الغرفة من دون قصد وبلا توقّف. لا تزول من أمام ناظري مشاهد ما جرى منذ عدّة ساعات في منزل العمّ غبريال. 
عجيبة كانت تلك الليلة! أساساً لم أكن لأُصدّق أنّ رئيس الجمهورية… 
بمجرّد أن ودّعنا “السيّد” الخامنئي وغادر، وبشكل تلقائي بدأتُ أُردّد بيت شعر لحافظ، بيتاً جميلاً من الشعر يُشبه كثيراً حادثة الليلة؛ وكأنّ حافظاً قد كتب هذا البيت خصّيصاً لأجل زيارة رئيس الجمهورية لمنزل عمّي غبريال الليلة! وذلك البيت هو: 
ثقل الغمّ الذي قد أضنى قلوبنا          بعث الله إليه نَفَس عيسى فبدّله
أفتح الدفتر الذي يحوي مختاراتي الشعرية وأُقلّب أوراقه حتى أصل إلى صفحة بيضاء. أحمل قلمي وأبدأ بملء تمام الصفحة بذلك البيت الشعري نفسه. وكلّما كتبتُه أكثر، وقرأته أكثر، ازددتُ له عشقاً…
 
 
 
 
227

191

الرواية الثّانية عشرة: النَفَس العيسويّ

 أنت أتيت وانطلقت قصة المشاعر

نما لفينيق1 القلب من نار عشقك ريش جديد
لم نعد نشكو من الألم ونار الفراق
بمجيئك باتت ليلة يلدا2 هذه سَحَراً
الأمّ وإن كانت هرمت بانتظار ابنها
والأب وإن خنقته غصّة الحزن
فإنّ ابتسامتك الدافئة قد أنست الغمّ
وحلّت شمس وجهك الوضّاء مكان القمر
ثقل الغمّ الذي قد أضنى قلوبنا
بعث اللّه إليه نَفَس عيسى فبدّله
 
 

1- طائر الفينيق أو ققنوس، طائر أسطوري كثير الألوان والألحان، يعيش ألف عام وعند اقتراب وفاته يجمع حطباً كثيرًا ويجلس فوقه ويبدأ بالنواح حتى تشتعل النار بالحطب فيحترق ويتولّد من رماده طائر جديد. 
2- ليلة يلدا هي أطول ليالي السنة (ليلة 21 كانون الأول من كل سنة) وهي كناية عن الانتظار الطويل. وتحوّلها إلى سحر كناية عن قرب انتهائها لقرب السحر من وقت الفجر.
 
 
 
 
228

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...