٩ ـ اعتماد المنهج المعكوس والانتفاء الكيفي والتفسير الاختياري للنصوص.
وهذا المنهج يقوم على تبييت فكرة مسبقة ثم يجيئون بوقائع ونصوص تؤيدها ويستبعدون ما دون ذلك.
ومن هؤلاء المستشرق «كيتاني» الذي وضع رأيه وأفكاره في السيرة قبل الشروع فيها فاستعان لذلك بكل خبر ضعيف وعده حجة وبنى عليه حكمه.
وقد أشار لهذا المنهج «ايتين دينيه» في كتابه (الشرق كما يراه الغرب) حيث يقول : (لقد أصاب الدكتور سنوك هير غونجه بقوله : إن سيرة محمد الحديثة تدل على أن البحوث التاريخية مقتضي عليها بالعقم إذا سخرت لأي نظرة أو رأي سابق).
ومن أصحاب المنهج الانتقائي «لامانس» المستشرق الفرنسي ، وقد تمثل هذا واضحا في معالجته لبعض القضايا التاريخية عارضا لها على أفكاره ومعتقداته الخاصة دون أن يعبأ بالموضوعية.
ومنهم كذلك (بروكلمان) الذي لا يشير إلى دور اليهود في تأليب الأحزاب على المدينة. ولا إلى نقض بني قريظة عهدها مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حيث أظهر هذا بقوله : (ثم هاجم المسلمون بني قريظة الذي كان سلوكهم غامضا على كل حال) (١).
١٠ ـ المنهج التأثري المنطلق من رواسب تنصيرية كنسية ، أو من خلفيات علمانية ، أو من رواسب يهودية.
وهذه في معظمها يستخدمها الفكر السياسي الاستعماري لمصالحه القومية وقلما نجد قضية هامة عولجت متحررة من ذات الباحث وأفكاره السابقة.
__________________
(١) الإسلام والمستشرقون ص ١٢١ ـ ١٢٢.
ومثال هذا في دراسات المستشرقين وكتاباتهم كثير منها :
زعمهم أن الدين الإسلامي : دين سيف ، وأنه أقيم على سفك الدماء ، وأنه دين الهمجية والإجرام ، إلى غير ذلك من التهم التي لفقها للإسلام أعداؤه من اليهود والنصارى.
في حين أنهم يظهرون النصرانية بأنها دين الرحمة والمحبة والتسامح وبأنها تبغض البغضاء والقتال.
ومن بين هؤلاء المستشرقين «هربرت جوتشالك» في كتابه (الإسلام قوة عالمية متحركة) (١).
ومن ذلك ما ذكره المستشرق «مايور» كما نقله عن «مارجليوث» [أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان ، فلا يبعد أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد مارس هذا الفن حتى نبغ فيه].
هذا الكلام غير العلمي يدل على مقدار تحكيم الهوى ونزعة العداء في أقوالهم المليئة بالافتراءات والتخيلات الملقاة على كواهلها. والكل يعرف أن أمر العربية وأساليبها البلاغية كان أهل البادية يتقنونها سليقة لا تعلما.
ومن ذلك مهاجمة «جولد تسيهر» وافتراؤه على الإمام «الزهري» واعتباره وضاعا للأحاديث حيث اتهمه بوضع حديث «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» (٢) وحجته في ذلك أن الزهري وضعه لعبد الملك بن مروان ليصرف الناس عن مكة والمدينة إلى المسجد الأقصى. مع أن كتب الجرح والتعديل كلها أجمعت على صدق هذا الإمام الجليل وأمانته وورعه (٣) ومع أن الزهري لم يلق «عبد الملك» إلا بعد سنوات من مقتل «ابن الزبير».
__________________
(١) انظر الإسلام في الفكر الأوربي ص ٧٦.
(٢) مسند الإمام أحمد ٢ / ٢٣٤.
(٣) الاستشراق والمستشرقون ص ٤٦.
١١ ـ رد معطيات السيرة وغيرها من القضايا الإسلامية إلى أصول نصرانية أو يهودية.
وكان من بين هؤلاء المستشرقين «كلير تسدال» في كتابه (مصادر الإسلام) الذي حاول إظهار الإسلام من مصادر شتى على رأسها اليهودية والنصرانية.
و «قسيس إنجليكاني» في كتاب له من سلسلة «بنجوين» الذي زعم أن الإسلام صورة غير محكمة أو مشوهة للمسيحية.
وكذلك «ولفرد كانتول سمت» الذي حاول جاهدا أن يوضح نقاط التشابه بين الإسلام والنصرانية و «جولد تسيهر» الذي سلك هذا المسلك في كثير من كتبه ، وغير هؤلاء المستشرقين كثير (١).
١٢ ـ المنهج التلقائي شبه العفوي : كان منهج بعضهم في البحث الاتفاق المسبق والتعاون الجماعي على ترويج الأكاذيب عن الإسلام ، والتاريخ الإسلامي ، وإضفاء صفة العلمية على هذه الأكاذيب ، واستعماله بطريقة تلقائية شبه عفوية ، بحيث تبدو وكأنها حقائق بديهية ، وحتى ينشغل المسلمون بها وبموقف الدفاع انشغالا دائما يمنعهم من اتخاذ موقف البناء ، أو الهجوم على النصرانية واليهودية.
فمن هذه الأكاذيب :
تشويه مكانة المرأة في الإسلام ، وحقيقة تعدد الزوجات في حياة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ والجهاد وقضية انتشاره بالسيف والعنف ـ بزعمهم ـ ، وبأن الإسلام دين لا دولة ، وأنه دين يتعدد بتعدد شعوبه ، وأن عقيدته تجلب الحيرة للمسلم كما زعم ذلك «رينان» .. إلخ (٢).
١٣ ـ من مناهجهم اعتماد الطابع العلمي الوضعي والرؤية المحدودة للقضايا الإسلامية.
__________________
(١) الإسلام والمستشرقون ص ١١٩.
(٢) العقل المسلم في مرحلة الصراع الفكري ـ د. عبد الحليم عويس ، مكتبة الفلاح ص ١٨.
إن اعتماد هذا المنهج عند بعض المستشرقين أوقعهم في كثير من الأخطاء ، فمن هؤلاء المستشرقين «فلهاوزن» وعدد من رفاقه الذين اعتبروا الحركة الإسلامية إقليمية لأهل مكة فقط وأنها لم تنتقل للمرحلة العالمية ـ في العصر المدني ـ إلا بعد أن أتاحت لها الظروف لذلك ، ولم يكن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليفكر بذلك من قبل.
وقد رد «سيرتوماس أرنولد» هذه الدعوى بقوله : (من الغريب أن ينكر بعض المؤرخين أن الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون دينا عالميا برغم هذه الآيات البينات ..) (١).
١٤ ـ استنباط الأمر الكلي والقواعد الكبرى من الحوادث الجزئية والمسائل الفرعية ، فنتج عن ذلك أخطاء جسيمة ، ومفارقات عجيبة من ذلك ما بنى عليه بعض المستشرقين على وجود بعض الكلمات في القرآن المتشابه ببعض اللغات الأخرى على أن القرآن ليس عربيا ومصدره لغات وديانات شتى.
وكذلك كان من وراء مزاعمهم هذه إيجاد فجوة بين بيان القرآن وبين لغة الكتابة العربية لتستعجم الألسنة ، ولينقطع الطريق لفهم الإسلام.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف توالت دعوات المستشرقين لعدم التمسك بهذه اللغة وعدم اعتبارها مقدسة ؛ فدعوا للعاميات وللكتابة بالحروف اللاتينية وترك الإعراب زعما أن ذلك أيسر على الأجنبي في تعلم العربية.
وكان منهم المستشرق الفرنسي «ماسينيون» والمستشرق «مارجليوث» البريطاني اليهودي و «وليم ويلكوكس» ، و «ويلمور» ، وغيرهم كثير (٢). وقد تبنى هذه الدعوة من أبناء العربية مجموعة من تلاميذ الاستشراق ـ سبق أن ذكرت بعضهم ـ وكزعم أن تأخر كتابة السنة كان سببا لإضعاف الثقة فيها فدخلها الوضع والكذب.
__________________
(١) الإسلام والمستشرقون ص ١٢٩.
(٢) الإسلام والمستشرقون ـ عدد خاص صادر عن ندوة العلماء لكنهو في الهند ص ٨٣ ـ ٩١.
١٥ ـ تضخيم الأخطاء الصغرى والتصرفات الشخصية ، وجعلها تطغى على ساحة صورة تاريخ المسلمين ، وطمس الصور الرائعة المشرقة في هذا التاريخ.
من ذلك محاولة تضخيم ما حصل من فتن وحروب بين الصحابة وخروج بعض الفرق عن طريق مذهب أهل السنة ذاكرين دوافع لها في قمة الغرابة والاستهجان.
والمعروف أن مثل هذه الهفوات أمر لا تخلو منه أمة من الأمم لأن هذا من طبيعة البشر. ولكنه الحقد الدفين والعداء السافر الموجه لهذا الدين.
١٦ ـ النفي الكيفي وإثارة الشكوك في معطيات السنة والتاريخ الإسلامي وخاصة السيرة النبوية.
لقد غالى المستشرقون في كتاباتهم في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي كثيرا ، وأثاروا كثيرا من الشكوك حولهما ومن الغريب أن بلغ بهم الأمر إثارة الشك في اسم الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجوده حسدا وحقدا على هذا الدين. وقد أشار «درمنغهم» إلى هذه المسألة فقال : (من المؤسف حقا أن غالى بعض هؤلاء المتخصصين ـ من أمثال موير ، ومارجليوث ، ونولدكه ، وشبرنجر ، ودوزي ، وكيتاني ومارسين ، وغويم ، وجولد تسيهر ، وغود فروا ، وغيرهم ـ في النقد أحيانا فلم تزل كتبهم عامل هدم على الخصوص ، ومن المحزن ألا تزال النتائج التي انتهى إليها المستشرقون سلبية ناقصة ، ولن تقوم سيرة على النفي ، ومن دواعي الأسف أن كان الأب «لامانس» الذي هو من أفضل المستشرقين المعاصرين من أشدهم تعصبا ، وأنه شوه كتبه الرائعة الدقيقة وأفسدها بكرهه للإسلام ونبي الإسلام ، فعند هذا العالم اليسوعي أن الحديث إذا وافق القرآن كان منقولا عن القرآن فلا أدري كيف يمكن تأليف التاريخ إذا اقتضى تطابق الدليلين لتهادمهما بحكم الضرورة بدلا من أن يؤيد أحدهما الآخر (١)؟!
__________________
(١) الإسلام والمستشرقون ص ١٢٥ ـ ١٢٦.
ومن أمثلة ذلك رد بعض المستشرقين كل ما لم يرد في القرآن من أحداث السيرة ، كان منهم :
«ولفنسون» الذي رد صحة الرواية التي بينت سبب محاربة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإجلائه لبني النضير وهي محاولتهم اغتياله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وحجة هذا المستشرق أن هذه الرواية لم يرد ذكرها في القرآن الكريم.