تناول الأمين العام للعتبة العباسية المقدسة سماحة السيد أحمد الصافي خلال الكلمة التي ألقاها في حفل افتتاح مؤتمر العميد العلمي العالمي الثاني، والذي انطلقت فعالياته صباح اليوم الخميس (14ذو الحجة 1435هـ) الموافق لـ(9تشرين الأول 2014م) محورين مهمّين، الأول: عن المصطلح وتعريفه وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع، والثاني: حول إبراز مكنوننا التراثي بلغةٍ عصريةٍ محبّبةٍ مع المحافظة على جوهر الشيء.
وأضاف: “أهلاً وسهلاً بكم وأنتم في ضيافة العتبة العباسية المقدسة، ونحن أيضاً في ضيافتكم فكراً وأدباً وعلماً، ونسأله تبارك وتعالى أن تمتزج الضيافتان معاً حتى نصل الى تطبيق الشعار المبارك الذي رُفِع في هذه الدورة الثانية، وهو بالارتقاء، إن شاء الله تعالى يحصل الارتقاء -نلتقي لنرتقي- ولاشكّ أنّ الكلام والفكرة ستكون لكم والفائدة ستكون منكم، حتى نشترك سويةً، سواء كان في تأسيس شيءٍ أو الاستفادة من ماضٍ عتيدٍ عريق نحاول أن نظهره بحُلّةٍ أخرى،
ولاشكّ أنّه كلام طيب بل يطيب لنا دائماً أن نجلس مع الإخوة للاستفادة منهم والوقوف على بعض المشاكل التي تعيشها الأمة سواء في هذا الدور أو لعلّها في أدوار سابقة، ولكن لا زالت ظلال تلك المشاكل تحوم حولنا وواقعاً لنا كلّ الفخر والاعتزاز بكم جميعاً، ونسأله تعالى أن تستمرّ هذه اللقاءات بل حتى أنّ اللقاء بمجرد اللقاء نعتقد أنّ فيه فائدةً لأنّه يقرّب المسافات كثيراً”.
وأضاف: “في الواقع الدراسات الإنسانية ومنها مجلة العميد ومؤتمر العميد وهو معنيّ بالدرجة الأساس بالدراسات الإنسانية، والدراسات الإنسانية والفكرية تتفرّع منها مجموعة أفكار وبالنتيجة مجموعة مشاكل ليس من السهل أن تُحسم في جلسة واحدة بل في جلسات،
ولكن لو أردنا أن نقترب رويداً رويداً للتخلّص منها فلابدّ أوّلاً أن نشخّص المشكلة، إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يشخّص المشكلة فإنّه سيخوض في غمار معركة فكرية لا يعلم كيف دخلت له وإنّما استُدْرِج استدراجاً لها، والعالم والباحث لا يمكن أن يُستدرَج وإنما هو يَسْتدرج تحديد المصطلح وتحديد الأشكال،
والاسم باصطلاح المناطقة تعريف الاسم سواء كان للحدّ أو بالرسم التام هذا أمرٌ لابدّ منه بدءً ولابدّ لأيّ باحث من أن يحدّد اصطلاحه بشكلٍ دقيق، مسائل فكرية إنسانية لعبت خلال تأريخنا الإسلامي دوراً كبيراً سواءً كان في تقويم بعض الأشياء أو في إجهاض أخرى، بل أكثر من ذلك ذهبت المسألة أن تتعدّى من دور البحث العلمي الى مسألة الدم نتيجة الاختلاف في الاصطلاح خصوصاً”.
وأضاف: “إذا كانت الجهة تتمتّع بمميزات السلطة أو بقوة السلطة وكانت السلطة تتبنّى هذا الموقف فستتعامل مع الطرف الآخر معاملة قاسية جداً، وانتهت الى قتل واستشهاد كثير من العلماء على اختلاف المذاهب ووصلت الحالة من الاختلاف في المصطلح الى تبنّي جهةٍ لها المنعة والسلطة والجهة التي تتبنّى إذا كانت لها سلطة فستُمارس هذه السلطة في أقسى ما يمكن من سجن وقتل علماء،
ولا زالت بعض هذه الأفكار تدخل الينا نتيجة تشجيع بعض الجهات السياسية، وهي قد لا تكون بهذا العمق الفكري، ويحدثنا التاريخ عن مسألة خلق القرآن،
هل القرآن مخلوق؟
هل القرآن حديث؟
هل القرآن قديم؟
هذه المسألة أخذت منا الكثير وتفرّعت عنها مسائل خلافية كثيرة، والى يومنا بعض المصطلحات لم تحقّق بشكلٍ جيد والإنسان ممكن أن يقتل والطرف المقابل لا يعرف المصطلح الذي من أجله قد سفك هذا الدم، لاشكّ أنّ هذه مسألة خطرة فخطورة الجانب الفكري لا تقل خطورةً عن الجانب التكنولوجي أو الجانب الطبيعي الآخر للعلوم الطبيعية”.
وتابع الصافي: “هناك مشاكل لكن الجوانب الإنسانية والفكرية قد تكون مشاكلها أكثر، المرجوّ من الباحث أيّاً كان أن يكون موضوعياً، عندما يواجه مسألة محددة أن يكون موضوعياً في ذلك، إذا لم يتحدّد الاصطلاح بشكلٍ جيد لا يمكن أن يحكم، والسادة الأفاضل في غنىً عن القول أنّ تشخيص الموضوع هو مقدمة للحكم،
إنّ الإنسان إذا لم يكن الموضوع عنده واضحاً لا يُمكن أن يحكم، في الدراسات الإنسانية تدخل المسائل في العقيدة فقد يكفّر ذاك ويقرّب هذا بخلفية الباحث عندما يخرج عن الموضوعية، والموضوعية اليوم لعلّها تعنينا أكثر من الأمس، اليوم العالم تطوّر والإمكانات العلمية توفّرت وأصبحت بعض الأمور القاتلة بيد أفراد ليس فقط مقصورة على حكومات،
وهذه التربية تنعكس سلباً علينا، اليوم العالم الإسلامي يعاني من أزمة حقيقية لا يستطيع أن يخرج منها، ومن مشكلة واقعية يتحمّل بالدرجة الأساس من أسّس لها، وقعنا الآن في مصطلح رهيب نحن معاشر المسلمين كلّ الطوائف مصطلح (الشرك) وقعنا في هذا المصطلح بشكلٍ رهيب وأصبح اتّهام الآخر بأنّه مشرك أو يكفر أسهل شيء وكان هو من أصعب الأشياء، والقرآن الكريم قد أخبرنا وجاءت المدارس غذّت هذا المعنى وأصبح يتّهم الأخ الذي يُصلّي ويحجّ ويتوجّه الى قبلة الإسلام ويقرأ القرآن أصبح مشركاً بين عشيةٍ وضحاها، مَنْ يتحمّل هذه المسؤولية؟”.
أما المحور الثاني من كلمة السيد الصافي فبيّن فيه: “مسألة إبراز المكنون التراثي فنحن أمة كتبت وأمة تركت آثاراً وأمة مفكرة، فنحن أمام مسألة مهمة وهي إبراز مكنون ما عندنا، تراثُنا تراثٌ غنيّ وتراث عريق والأوائل كتبوا في أشياء إنسانية وعلوم كثيرة ولكننا نعجز عن إبرازها الى الآخرين،
المشكلة هناك تقصير في إبراز مكنون ما عندنا بلغةٍ عصريةٍ محببة مع المحافظة على جوهر الشيء، وأعتقد أنّ هذا من الواجبات العرفية، هناك كمٌّ هائل من العلماء المسلمين في كلّ المجالات وفي كافة أرجاء الوطن العربي، وهناك كنوز حقيقية موجودة لكن الجيل لا يعرفها ولم يقرأها، على العكس من الفكرة الغربية، فنحاول أن نبتهج بها وأن نندفع اليها،
فمسؤولية العلماء الأعلام والمفكرين أنّ هناك أفكاراً أكثر رصانة واقعية ودقة وأكثر ملائمة لمتطلبات العصر، لكن المشكلة في إبرازها، نحن مسؤولون مسؤولية حقيقية أمام التراث الكبير الذي خُلّف لنا، مسؤولون أن نبرزه ليحلّ المشاكل، هناك مشاكل عصية يمكن أن تحلّ وإذا حُلّت هذه المشاكل سنعرف أيّ أمة نحن، أمة قوية أمة منيعة أمة عصية على التمزيق، لكن شرط أن يتصدّى لذلك من يتصدّى،
مَنْ عنده منعة وقوة، سواء كان في جانب سياسي أو كان في جانب فكري مؤثر وهذه مسؤولية الأمة جمعاء بلا تحديد، لا مسؤولية هذا المذهب أو ذاك هذا التراث الذي نعتزّ به لابدّ من إبرازه ولو عملنا جذبةً حول التراث في العالم العربي لعلّ بعض هذا التراث ليس من مكنوناتنا وإنّما من حضارةٍ قبل حضارة الإسلام أصلاً، أمّا حضارتنا نحن التي بنيناها وحفرناها بدم ودمع وجهد فهي عرضة للضياع -والعياذ بالله-“.
مضيفاً: “لابدّ أن نؤسّس مركزاً لتراث هذه الرقعة الجغرافية وهذا ليس له علاقة بمذهب دون آخر، هذا حقّ الآباء الذين ذهبوا على الأبناء الحاضرين، ولعلّ الجيل القادم يحاسبنا مع توفّر الإمكانات والاهتمام، سيحاسبنا يقول: (يا ليت الآباء اهتمّوا)،
الدول الأخرى تعتزّ بحضارتها ونحن عندنا أكثر لكننا أمة قد قصّرت في تراثها، التراث الأصيل الحقيقي التراث الذي يحلّ لنا المشاكل وهذه المسؤولية أعتقد أنّها مسؤولية الجميع ولكن لا نطلبها من الآخرين غير المختصّين، تُطلب من الباحث من العالم والمفكّر لأن العالم حقيقةً يعلم أين يضع قدمه، وكيف يستنطق التاريخ والتراث حتى يحلّ مشاكل البلاد والعباد”.