كتاب معرفة الله – السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني قدّس سرّه
14 يوم مضت
زاد الاخرة
34 زيارة
الله عاشق ما سواه، وما سوي الله عاشقه
أَعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمَ
بِسْـمِ اللَهِ الـرَّحْمَنِ الـرَّحيم
وَصَلَّي اللَهُ علی سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
وَلَعْنَةُ اللَهِ علی أعْدَائِهِمْ أجْمَعينَ مِنَ الا´نَ إلی قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَهِ العَليِّ العَظِيمِ
تفسير آية: «یَاأَيُّهَا الإنسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلی’ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ»
قَالَ اللَهُ الحَكِيمُ فِي كِتَابِهِ الكَرِيمِ:
یَاأَيُّهَا الإنسَـانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلی’ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ.
(الآية 6، من السورة 84: الانشقاق)
قال أُستاذنا الاعظم آية الحقّ والعرفان العلاّمة الطباطبائيّ أعلي الله مقامه في تفسير هذه الآية الكريمة:
«قال الراغب: الكَدْحُ السعي والعناء انتهي. ففيه معني السير، وقيل: الكدح جهد النفس في العمل حتّي يؤثّر فيها انتهي وعلي هذا فهو مُضَمّن معني السير، بدليل تعدِّيه بإلی، ففي الكدح معني السير علی أيّ حال.
وقوله: فَمُلَـ’قِيهِ عطف علی كَادِحٌ، وقد بيّن به أنّ غاية هذا السير والسعي والعناء هو الله سبحانه بما أن له الربوبيّة، أي أنّ الإنسان بما) أنّه عبد مربوب ومملوك مُدَبَّر، ساعٍ إلی الله سبحانه بما) أنّه ربّه ومالكه المُدَبِّر لامره، فإنّ العبد لا يملك لنفسه إرادة ولا عملاً، فعليه أن لا يريد ولا يعمل إلاّ ما أراده ربّه ومولاه وأمره به، فهو مسؤول عن إرادته وعمله.
ومن هنا يظهر أوّلاً أنّ قوله: إِنَّكَ كَادِحٌ إلی’ رَبِّكَ يتضمّن حجّة علی المعاد، لما عرفت أنّ الربوبيّة لا تتمّ إلاّ مع عبوديّة، ولا تتمّ العبوديّة إلاّ مع مسؤوليّة، ولا تتمّ مسؤوليّة إلاّ برجوع وحساب علی الاعمال، ولا يتمّ حساب إلاّ بجزاء.
وثانياً: أنّ المراد بملاقاته انتهاؤه إلی حيث لا حكم إلاّ حكمه، من غير أن يحجبه عن ربّه حاجب.
وثالثاً: أنّ المخاطب في الآية هو الإنسان بما) أنّه إنسان، فالمراد به الجنس، وذلك أنّ الربوبيّة عامّة لكلّ إنسان». [1]
قد أثبت أعاظم حكماء الإسلام أنّ بين ربّ العزّة وبين مخلوقاته نوعاً من الجذب والانجذاب يُعَبَّر عنه ب العشق.
ولا جَرَمَ أنّ حبّ الله لمخلوقاته هو الذي أوجدها وألبس كلّ واحد منها (كلٌّ حسب إمكانيّته واستعداده وماهيّته المتفاوتة) لباس الوجود والبقاء، ووصف كلاّ منها بصفاته حسب ما يتناسب معه. إنّ هذا هو الحبّ الذي أعطي العالَم كيانه وبقاءه وديمومته، بِدءاً بالافلاك ومروراً بالارض والذرّة إلی الدُّرّة، وجَعْلها كلّها موجودات تتحرّك نحوه وتشقُّ طريقها إلیه.
وكذا حال حياتنا ومعيشتنا في حركتنا نحو الله، فهي تمضي قدماً في ذلك بواسطة ذلك الحبّ والعشق الذي أوجده الله عزّ وجلّ في الخلقة والفطرة. وعلي هذا فإنّ كلّ موجود من الموجودات الإمكانيّة يجد طريقه إلی الاستمرار في حياته وبقائه علی أساس وأصل ذلك الحبّ للمحبوب، وهكذا يستمدّ قانون التجاذب (الجذب والانجذاب) استمراريّته بين جميع المخلوقات السفليّة (الدنيا) والعوالم العُلويّة.
إنّ هذا التجاذب المستقرّ في كلّ موجود وبشكل معيّن، هو السبب في تكوين وإنشاء تلك الحركة المُتَّجِهة نحو المبدأ الاعلي عبر مدارج ومعارج متباينة، وهو السبب في ذلك الحبّ الذي يدفع بجميع العاشقين إلی التحرُّك باتّجاه ذلك المحبوب والسير نحوه بوساطة ذلك الحبّ، من دون حجاب أو من وراء حجاب علی السواء. وكلّ ما في الامر أنّ الموجودات الضعيفة والماهيّات السفليّة تتعرّض خلال سيرها لتأثير شديد من قِبَل قوي أشدّ منها نظراً لصفة المحدوديّة الموجودة في وجودها، وهو ما يتسبّب في فَنائها هناك. وطبقاً للقاعدة القائلة: (الاقرب فالاقرب)، فإنّ أيّ موجود عالٍ هو غاية السير عند الموجود والمعلول الادني منه، حتّي يصل إلی ذات الحقّ والمُصَدِّر المطلق، والذي هو الموجود الاوّل العظيم اللامتناهي في عالم العوالم، حيث يفني فيه وتتحقّق عند ذاك عمليّة التحابب والتعاشق بين الحقّ سبحانه وتعإلی وبين ذلك الموجود.
وقد عُبِّرَ في هذه الآية الشريفة الكريمة عن تحرُّك الإنسان نحو هذا المحبوب ذي الجمال والمعشوق صاحب الجلال، وهو الهدف النهائيّ والمقصد الرئيسيّ، ب الكدح.
ومعني ذلك) أنّه يتوجّب علی الإنسان ـ وهو أشرف المخلوقات استعداداً أن يُوصِلَ ذاته ونفسه إلی الفَناء التامّ بالفعل.
فنالك مَن حالفهم الحظّ ووصلوا، وهنالك من أضاعوا استعدادهم وضيّعوا عدّتهم، وفشلوا في أن يجدوا مأمناً وأمناً في حرم أمنه، وعجزوا عن الاستقرار في ظلّه، ولم يفلحوا في اجتياز موانع الصراط والدخول إلی حضرة جلاله، وسيلتقي كلّ منهم به ويتلاقي معه وسيصلون إلی محبوبهم الحقيقيّ من وراء ألف حجاب، وعندها سيوقنون بأ نّه هو وحده غاية مرادهم وحبيب قلوبهم، وكلّ ما في الامر، أ نّهم في دنيا الشهوات الدنيّة التي أعشت عيونهم، لم يروا جلاله، وها هم، يصلون بعد الحُجب لملاقاة ربّهم عزّ وجلّ.
الرجوع الی الفهرس
«رسالة العشق» لابن سينا: الله تعإلی وجميع الموجودات الإمكانيّة عشّاق
ذَكرَ الشيخ بهاء الدين العامليّ في كشكوله:
«للشيخ الرئيس أبي علی ابن سينا رسالة في ذكر العشق[2] تحت عنوان «رسالة العشق»، وفيها يتوسّع في مقالته ويقول بأنّ العشق لا يختصّ بالإنسان وحده، بل بجميع الكائنات، من الفلكيّات والعناصر، والموإلید الثلاثة (المعادن والنباتات والحيوانات) مجبولة عليه بالفطرة، وهي منقوشة في ذاتها وماهيّتها» [3]. انتهي كلام الشيخ البهائيّ رحمة الله عليه.
وتبدأ الرسالة بالعبارة التإلیة:
بِاسْمِكَ اللَهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، سَأَلْتَ أسْعَدَكَ اللَهُ يَا عَبْدَ اللَهِ الفَقِيهَ المُعْصِرِيَّ ! أَنْ أَجْمَعَ لَكَ رِسَالَةً تَتَضَمَّنُ إيضَاحَ القَوْلِ فِي العِشْقِ علی سَبِيلِ الإيجَازِ فَأَجَبْتُكَ إلی آخرها.
وقد نظّم هذه الرسالة في سبعة فصول وهي:
الاوّل: في ذكر أنّ العشق يسري في كلّ ذات.
الثاني: في ذكر العشق في الجواهر البسيطة غير الحيّة، علی سبيل المثال، الهيولي، والظواهر، والمعادن، وكلّ جماد.
الثالث: في ذكر العشق في الموجودات والاشياء التي تمتلك القوّة المغذّية.
الرابع: في ذكر العشق في الموجودات الحيوانيّة، لسبب أ نّها تمتلك قوّة حيوانيّة.
الخامس: في ذكر العشق في الظرفاء والفتيان في قبال حسان الوجوه.
السادس: في ذكر العشق في النفوس المتأ لّهة.
السابع: وهو فصل يختتم به الكتاب بالمراجعة والاستنتاج.
وهذه الرسالة استدلإلیة، ومطالعتها من قبل ذوي الرأي لا تخلو من فائدة.
وقد تحدّث مفصّلاً في الفصل الخامس، وهو بعنوان «عِشْقُ الظُّرَفَاءِ وَالفِتْيَانِ[4] لِلاوْجُهِ الحِسان»، واستدلّ بالحديث الشريف للنبيّ صلّي الله عليه وآله وسلّم: اطْلُبُوا الحَوَائِجَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ [5]، وعدّد أوجه الحلال والحرام، عقلاً وشرعاً، موضّحاً بأنّ الشريعة الإسلاميّة الغرّاء قد أوصدت باب العشق المذموم، وذلك بالاستدلال العقليّ، وبالمقابل، قد فتحت باب العشق الممدوح علی مصراعيه [6].
الرجوع الی الفهرس
بيان العشق في النفوس المتأ لّهة في «رسالة العشق» لابن سينا
ويستطرد في بحثه عشق النفوس المتأ لّهة، حتّي يصل إلی المقطع الذي يقول فيه:
«الا´ن، أصبح واضحاً، بأنّ العلّة الاُولي، هي مصدر كلّ الخيرات، ولا مسبّب لهذه العلّة؛ وعليه، فهذه العلّة (الله) هي الخير المطلق، استناداً لمحض ذاته المقدّسة، وكذلك، بالقياس إلی جميع الموجودات، وذلك، لا نّه هو حبل بقاء المخلوقات ودوامها.
وهذه المخلوقات، هائمة ومشتاقة إلی كمال العلّة الاُولي، وبهذا، يكون هو الخير المطلق، بكلّ الاعتبارات وعلي جميع الاوجه.
وقد قلنا من قبل إنّ من أدرك خيراً هام فيه بلا إرادة منه، ولهذا، فالعلّة الاُولي، هي المعشوق بالنسبة إلی النفوس المتأ لّهة، ولانّ كمال هذه النفوس، الإنسيّ منها والملائكي، هو تصوّر تلك النفوس للمعقولات كلٌّ حسب قدرته (من باب التشبّه بذات الخير المطلقة) حتّي تصدر عنها أفعال عادلة من قبيل الفضائل البشريّة، وعلي مثال تحريك النفوس الملائكيّة للجواهر العُلويّة السائلة. إنّ بقاء الموجودات في عالم الكون والفساد (هو من باب التشبُّه بذات الخير المطلقة) والتقرُّب له والاستفادة من كماله وفضيلته والانتفاع بها. وعلي هذا فقد بات واضحاً أنّ الخير المطلق هو معشوق هذه النفوس، ولذا سُمِّيت تلك النفوس بـ «المتأ لّهة» لسبب نسبتها وتشبّهها به وحبّها له؛ وهذا العشق وذلك الحبّ ثابتٌ ومتأصّل في تلك النفوس المتصفة بـ التَّأَلُّه، غير زائل عنها».
حتّي يصل إلی قوله:
«أصبح واضحاً بأنّ وجود الحقّ، وهو الخير المطلق، هو المعشوق الحقيقيّ للنفوس الإنسيّة والملائكيّة».
ويقول في الفصل الختاميّ:
«نريد في هذا الفصل، الخروج بعدّة استنتاجات:
أوّلاً: كما ذكرنا سابقاً، أنّ جميع الموجودات في هذا الكون، هي في الحقيقة، عاشقة وتوّاقة إلی الخير المطلق، بفعل العشق [7] الغريزيّ، وهذا الخير المطلق متجلٍّ لعشّاقه، ولكنّ هذا التجلّي مختلف بحسب درجات هذه الموجودات، حيث إنّهم كلّما ازدادوا تقرّباً من الخير المطلق، عظم تجلّيه لهم، والعكس بالعكس.
ثانياً: أنّ الخير المطلق والعلّة الاُولي، يميل انسجاماً مع كرمه ورحمته الذاتيّتين إلی أن يشمل بلطفه جميع الكائنات.
ثالثاً: وجود كلّ الموجودات هو انعكاس لهذا اللطف من لدن الخير المطلق.
أما وقد تمّ توضيح هذه المسألة بشكل إجمإلیّ، الا´ن نقول: بأنّ في تركيب آحاد هذه الموجودات عشق غريزيّ لاجل استحصال كمالها الذاتيّ، وكمالها هو نفسه الخير الذي أشرنا إلیه.
إذاً، فسبب وقوع كلّ الخيرات، هو ذلك المعشوق الحقيقيّ لكلّ الموجودات، والذي عبّرنا عنه بالعلّة الاُولي، فهي معشوق كلّ الموجودات، وإذا كان هناك من حُرِم معرفته، وجهل وجوده، فهذا الجهل لا ينفي العشق الغريزيّ في الموجودات، لانّ كلاّ وراء كماله الذاتيّ، وحقيقة الكمال ـ الذي هو الخير المطلق ـ تلك العلّة الاُولي، والتي تتجلّي لكلّ الموجودات، بحسب ذاتها، إلاّ أن يكون محجوباً بذاته عن التجلّي، فيلزم أن يستتر، فلا ينعم أيّ من الموجودات من فيض وجوده.
إذا كان تجلّي الخير الاوّل هو بتأثير الغير، فيجب إذاً أن تكون الذات المتعإلیة، والمنزّهة عن كل النقائص، واقعة تحت تأثير الغير أيضاً، وهذا محال، بل الخير الاوّل يتجلّي بحسب الذات، وحجب تجلّيه عن بعض الذوات، هو لقصور وضعف في هذه الذوات ليس إلاّ.
وبعبارة أُخري:كلّ نقص وعيب، يكون من جانب القابل، وليس من جانب الفاعل، وإلاّ فذاته المقدّسة متجلّية بحسب الذوات».
ويستطرد في قوله حتّي يصل إلی:
«الثاني: أنّ الموجود المتهيّي لان ينعم باللطف الإلهيّ، هو موجود ذو نفس إلهيّة، علی الرغم من) أنّه في البدء، ومصداقاً للا´ية الكريمة عَلَّمَهُ و شَدِيدُ الْقُوَي’ وجد بتأثير الفعل الفعّال، ومن موقع القوّة، وأمدّته من موقع التصوّرات ورتبة التعقّلات، ولكن، ما أن يصل إلی حدود الفعليّة، وينعم بنعمة القرب من الحقّ تعإلی، حتّي يعلو ويسمو إلی مراتب أعلي من ذلك. حيث يقول الملك المقرّب من الله في هذا المقام: لَوْ دَنَوْتُ أَنْمُلَةً لاَحْتَرَقْتُ.
ويتابع قائلاً:
«لذا، فقد أصبح واضحاً بأنّ اللطف الإلهـيّ والخير المطلق، هو سبب نشـأ كلّ الموجودات، وعلّة وجودها، فلولا هذا اللطف الإلهيّ، ما لبـس مخلوق لباس الوجود، وأنّ الحقّ تعإلی بوجوده، عاشق لوجود جميع المعلولات، لانّ جميع المعلـولات كما أسـلفنا، انعكاس لنـور لطفه، ولانّ عشق العلّة الاُولي، هو أطهر العشق، فيكون مَن فاز بلطفه هو المعشوق الحقيقيّ، وهذا اللطف، هو مراد النفوس المتأ لّهة، وهي نفسها، معشوقات العلّة الاُولي، ونستشف من كلمات الائمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ما يلي:
قال الله تعإلی: أيّاً من عبادي كانت له الاوصاف الفلانيّة، وعشقني، عشقته أنا أيضاً، لانّ الحكمة الإلهيّة تقتضي أن لا يهمل أو يعطّل شيء يحوي جملة فضائل، وهذه الفضائل، متأصّلة في ذاته، وإن لم يصل بفضيلته إلی حدّها الاقصي، وعليه، فالخير المطلق، بمقتضي حكمته الذاتيّة، هو عاشق؛ عاشق لمن لبس الكمال، وإن لم يكن أقصي الكمال… وَإذَا بَلَغْنا هَذَا المَبْلَغَ فَلْنَخْتِمِ الرِّسَالَةَ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. [8]
2025-02-07