الرئيسية / من / قصص وعبر / ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمد – كمال السيد

ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُهُ أحمد – كمال السيد

04

الحبيب الآخر
وتمرّ الايّام عصيبة، ويسدد القدر سهماً آخر إلى قلبٍ ذاق مرارة الصبر حتّى غدا كالشّهد، والصبر سلاح الأنبياء.
ودّعت خديجة زوجها.. رحلت بعيداً بعد أن خلّفت لديه فتاة لم تر الأرض لها نظيراً… فاطمة، لكأنها حوراء قادمة من السماء.
كبرت فاطمة في زمن الحرمان.. في زمن الحصار.. في زمن اليُتم، لهذا نشأت نحيلة القوام كغُصنٍ كسير. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحةً حزينة.. مُفعمة بالصمت.. تُفكّر.. تتأمّل وتنطوي على نفسها في استغراق يُشبه صلاة الأنبياء.
نشأت فاطمة في زمن الجَدب.. فغدا عودُها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور. بدت أكبرَ من سنّها. لتنهض بالحمل.. لتملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل أُمّها. نهضت سيّدة صغيرة.. أُمّا رؤوماً لوالدها الذي أضحى وحيداً.

* * *

العُروج
اشتدّت عذابات الأرض، تكاثفت الظلمات، وبدت النجوم البعيدة قلوباً تنبض على وَهَن، ورسول السماء وحيد في الأرض.. الأرض التي أُريدَ لها أن تتطهّر من أدران الشيطان، فآن لجبريل أن يهبط إلى الأرض، آن للروح المكين أن يغمر بشفّافيته مادّة الطبيعة.. يمسّها ويبثّ فيها روح القدس، كما آن للإنسان أن يعرج.. أن يلج الملكوت؛ من أجل هذا كان محمّد صلّى الله عليه وآله على ميعاد مع جبريل.. ومع البُراق.
وانطلق محمّد صلّى الله عليه وآله في رحلة مُثيرة، رحلة عبر الفضاء والزمن.
عرج رسول الله إلى السماوات يتخطّى مدارات الكواكب وآلاف النجوم.. يخترق جدران الزمن ليرى الآيات..
بدت الأرض صغيرة.. ضئيلة.. زيتونة.. مشحونة الحوادث..
طاف رسول الله عوالم الملكوت في رحلة مثيرة خارج حدود الزَّمَكان.. حتّى إذا عاد إلى كوكب الحوادث الأرض المثقلة بالخطايا، عاد أقوى من كلّ جبابرة الأرض.. عاد قوّياً كالزوبعة.. طاهراً كقطرات الندى.. ثابتاً كالجبال.. عاد إنساناً سماويّاً.. أو كائناً أرضياً مسّته السماء فإذا هو ينبوع نور.

* * *

إلى الطائف
وخرج رسول الله مع زيد بن حارثة إلى الطائف.. إلى قرية غير القرية الظالم أهلها..
يالَعذاب الأنبياء.. عشرة أيّام يدور في أحيائها يدعو الناس إلى النور القادم من السماوات… ولكن..
قهقه المَترَفون!
ـ أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟!
ـ انظروا إلى هذا النبيّ!
قال رسول الله:
ـ اذن اكتُموا عَلَيّ لا تسمع بذلك قريش.
الخفافيش تكره النور.. تحقد على الشمس.. تشعر بالموت إذا أشرق فجر جديد، من أجل هذا حقد سادة الطائف.. أرادوا ان يُطفئوا الشموع.. النجومَ، الشمس والقمر.. أغرَوا سفهاءهم بهذا الرجل المكيّ، فإذا أزقّة الطائف تمطر حجارة رعناء. مضى رسول الله يتفادى الحجارة والسخرية، وكانت تصيبه في قدميه ورأسه.. حتّى وصل جنّة من كُروم وأعناب.
الظلال الوارفة.. والسكينة.. والصمت. دفعت بالرسول المكيّ أن يتفيّأ ظلال كرمةٍ في تلك الجنّة الأرضية.
كان البُستان لرجلَين من مكّة، هما: عُتبة وشَيبة، وكان معهما غلام نصراني اسمه عدّاس.
كانا ينظران إليه… يتأملاّن وربّما يتساءلان: لِم اختار محمّد طريق العذاب كل هذه السنين ؟!
اتّجه رسول السماء إلى السماء وقال بخشوع:
ـ اللهمّ إنّي أشكو إليك ضعفي.. وقلّةَ حيلتي، وهَوَاني على الناس.. يا أرحم الراحمين..
أنت ربُّ المستَضعَفين.. وأنت ربّي.
إلى مَن تَكِلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني؛ أم إلى عدوّ ملّكتَه أمري ؟
إن لم يكن بكَ عَلَيّ غضبٌ فلا أُبالي.. ولكن عافيتك أوسعُ لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقَت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة.. من أن تُنزل بي غضبَك، أو يحلّ علَيّ سخطك.
قال أحدهما:
ـ احمل إليه قطفاً من هذا العنب.
حمل النصراني طبقاً من العنب ومضى إلى الرجل الشريد.
مدّ النبيّ يده وقال:
ـ بسم الله..
تساءل عَدّاس بشيء من الدهشة:
ـ إنّ هذا كلام ما يقوله أهل هذه البلدة.
قال رسول الله:
ـ مِن أي بلد أنت ؟
أجاب عداس:
ـ أنا نصراني من اهل « نَينوى » (9).
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله:
ـ قرية الرجل الصالح يونس بن مَتّى.
تصاعدت دهشة عَدّاس:
ـ وما يدريك ما يونس بن مَتّى ؟!
ـ ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبيّ.
لو قُدّر للمرء أن يحضر ذلك اللقاء في ظلال تلك الكرمة لسمع دويّ الانهيارات في أعماق « عدّاس ». إنّه أمام رجل يتخطّى أعمدة القرون ليلتحم بقافلة الانبياء.. قافلة تسير على اسم الله.. من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد.
وعاد الشريد إلى مكّة؛ ليبلّغ رسالات الله إلى قرية هي أُمّ القرى.

* * *

يثرب
لم تكن مدينة يثرب التي تقع شمال مكّة وتفصلها مسافة 450 كيلومتراً سوى مجموعة من المنازل والمزارع والحصون تنهض في بقعة خصبة نسبياً، تبلغ مساحتها 32 كيلومتراً مربّعاً تقريباً.. تحيط بها التلال و « الحرّات » (10).
يقع شمالَها جبلٌ صغير هو جبل أُحد، وجبل « عير » في الجنوب الغربي منها، كما ينبسط بَقيع الفرقد في شرقها، وترقد جنوبَها قريةٌ صغيرة هي قرية « قباء » لا تبعد عنها سوى ثلاثة كيلومترات.
كان العمالقة أوّل من سكنها فبنوا فيها الحصون وزرعوا النخيل، ثمّ نزح إليها فيما بعد « بَنو قَيلة » وهم تجمّع قبليّ يضم قبيلتَي الأَوس والخزرج. ويعود مصدر هذا النزوح إلى اليمن، وبالتحديد إلى القبائل العربية في الجنوب.
وكانت قبيلتا « قُرَيظة » و « بني النَّضير » قد سبقتا هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، حيث سكنتا المنطقة الخصبة من تلك الأرض، وهناك قبيلة يهودية ثالثة أقلّ شأناً هي قبيلة بنو قَيْنقاع.
وقد كان لليهود في الجزيرة العربية نفوذ قويّ يستند إلى كيانهم السياسي في الدولة الحِمْيَرية الثانية في اليمن، وما لبث هذا النفوذ أن تضاءل بعد الغزو الحَبَشيّ لليمن والقضاء على الدولة الحِميرية، فيما ظل نفوذهم الاقتصادي على قوّته.
ظلّت يثرب تعيش بسلام وصفاء مدّة طويلةً نسبياً إلى أن دبّ الخِلاف بين قبيلتي الأَوس والخَزْرَج. وكان اليهود يُذْكُون روح التنافس بين الإخوة، إلى أن تحوّلت العلاقة إلى عِداء سافر وتَناحُر، ثم اشتعال الحروب و « الأيّام » (11).
وأقصى ما استفاده عرب يثرب من اليهود، هو تقبّلهم لفكرة النبوّة ورسالات السماء، إضافة إلى ذلك فقد كان اليهود أنفسهم يبشّرون ويُنذرون جيرانهم بظهور نبيّ جديد قد أطلّ زمانه؛ وهذا ما ساعد على انهيار الوثنيّة بسرعة في هذه المدينة.
وفي هذه الظروف بدأ أوّل اتّصال لعرب يثرب بسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله.

* * *

وادي العَقَبة
كان رسول صلّى الله عليه وآله ينشط ببثّ دعوته في الحجّ حيث القبائل العربية تتدفّق صوب مكّة.
في وادي العَقَبة كان أول لقاء بين رسول الله وبين أفراد من قبيلة الخزرج.. كانوا ستة أشخاص.. تحمّسوا جميعاً للدين الجديد، ورأوا في سيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله الشخصيّة الوحيدة التي يمكن أن تُنقذ مدينتهم من أخطار النزاع القَبَليّ، ومشاعر الثأر المتأججة.
وانطلق اليثربيّون إلى مدينتهم يبشّرون برسالة السماء، وأضحى اسم محمّد صلّى الله عليه وآله على الشفاه.
وفي موسم الحجّ التالي عاد خمسة منهم، ومعهم سبعة آخرون فيهم ثلاثة من قبيلة الأَوْس.
وفي وادي العقبة أيضاً التقى النبيّ صلّى الله عليه وآله الوفد اليثربيّ وعرض على أفراده دعوة السماء، وقد أسفر اللقاء عن إسلام أفراد الوفد، ثمّ بيعتهم على مبادئ الدين الجديد، وقد عُرفت هذه البيعة ببيعة النساء (12).
ورأى النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يُرسل مع الوفد رجلاً من أصحابه هو مصعب بن عُمَير الذي سمّاه مصعب الخير.
ولقد كان لشخصيّة هذا الصحابي وحماسه وأدبه وأُسلوبه الهادئ الرصين، الأثرُ الكبير في انتشار الإسلام في منازل يثرب، فلم يبق منزل فيها إلاّ واعتنق أحد أفراده الدين الجديد.
حتّى إذا حلّ موسم الحجّ، إذا عشرات الرجال والنساء ينطلقون إلى مكّة للقاء الرسول.
رتّب مصعب موعد اللقاء في ظروف بالغة السرّية، فقد كانت قريش تراقب بدقّة تحرّكات النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتنظر بعين القلق إلى لقاءاته مع القبائل العربية الوافدة للحجّ.
غمر الليل مكّة وضواحيها، وخَيّم صمت مهيب، وكان على رجال يثرب الذين أدَّوا مناسك الحجّ أن يتظاهروا بالنوم لكي لا يشعر أحد بما عزموا عليه.
انتصف الليل ونام الجميع، وانسلّ المسلمون فُرادى وجماعات، فيما ظلّ مُشركو يثرب يَغُطّون في نوم عميق.
وفي وادي العقبة اجتمع ستّة وسبعون شخصاً، منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وثلاث نساء.
وبعد انتظار قصير جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله ومعه عمّه العباس بن عبدالمطلب.
ولقد وجد رسول الله في أهل يثرب حماساً للإسلام فريداً، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر مراسم البيعة الخالدة لآخر الأنبياء في التاريخ.
وفي جوّ مثير تلا رسول الله آيات من القرآن الكريم، ثمّ قال:
ـ أُبايعُكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
وهذا أقصى ما يُمكن التعبير عنه في الدفاع حتّى الموت.
وتقدم رجال يثرب ونساؤها للبيعة، ليكون هذا اللقاء في تلك الليلة مُنعطَفاً مهمّاً في تاريخ الإسلام.
عاد أهل يثرب إلى مضاجعهم، لم يشعر بهم أحد، وانطوت تلك الليلة المثيرة بسلام.

* * *

الهجرة
رافقت الهجرة الحياةَ البشرية منذ فجر التاريخ وحتّى يومنا هذا، وكانت وما تزال وستبقى ظاهرةً اجتماعية لها ما يبرّرها أبداً، وهي إذا بدت مجرّد احتجاجٍ هادئ ضدّ الظلم والقهر، فإنّها تُعدّ حَدَثاً كبيراً جداً، وبدايةً لفصل جديد في حياة الإنسان أو الشعب المهاجر.
لقد تصاعد الظلم في مكّة حتّى لم يَعُد محتَملاً، وأضحت حياة تلك المجموعة البشرية التي آمنت برسالة السماء أمراً لا يُطاق، وكان رسول الله يسعى جاهداً في صُنع مستقبلٍ أفضل لأتباعه، فكانت الهجرة إلى الحبشة حلاًّ مؤقّتاً إلى أن تمّ لِقاء العقبة.
ففي غمرة الظلام والوادي القريب من مكّة.. انفتحت كُوّة للأمل والخلاص، عاد النبيّ المطارَد إلى قريته يُبشِّر أتباعه المقهورين قائلاً:
ـ إنّ الله جعل لكم إخواناً وداراً تأنسون بها.
وهكذا بدأ فصل جديد في حياة الإسلام، وشهدت تلك الليالي المريرة المُفعَمة بالخوف والقلق والأمل رجالاً يفرّون من وطنهم.. من الأرض التي أنجبَتْهم وقضوا فيها أيّام صباهم. ووقفت قريش بكلّ جبروتها عاجزة أمام هذه الظاهرة الخطيرة، وبدأ المجتمع المكيّ يهتزّ بشدّة، وكانت الآلهة والمعادلات والمصالح تتأرجح بعُنف.

* * *

المؤامرة
ورأى أبو جهل وأبو سفيان وأُميّة وكلّ الرؤوس القرشية التي ساءها ظهور الإسلام، أنّ أفضل الحلول في هذه الظروف هو تصفية محمّد والتخلّص منه.
وإذا كان للتكتّلات القَبَلية، وثقل بني هاشم الاجتماعي دوره في حماية رسول الله طَوال هذه السنين من القتل، فإن إشراك القبائل في اغتياله سيجعل من بني هاشم عاجزين عن مواجهتها، ثمّ التخلّي عن فِكرة الثأر.
وهكذا سوّلت لأبي جهل نفسُه ووُلدت المؤامرة.
وكانت المؤامرة من الخطورة بمكان أن هبط جبريل من السماء:
ـ وإذ يَمْكُرُ بِكَ الّذين كَفَروا لِيُثْبِتوك أو يَقتُلوك أو يُخرِجُوك ويَمْكُرون ويَمْكُر اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكرين .
غمر الليل مكّة.. ملأ أزقّتها بظلمة ثقيلة، وبدت النجوم وهي تومض من بعيد قلوباً خائفة.
كان أبو جهل يعبّ خمرته منتشياً بفكرته.. ستبقى مكّة تتحدّث في أنديتها وتُشيد بفِطنته.

* * *

الفداء
وفي تلك اللحظات المثيرة والمؤامرةُ على وشك التنفيذ، دخل فتى الإسلام عليّ أبواب التاريخ، في واحدة من أكثر قصص الفداء إثارةً ودرامية.
أن يصمد الرجال في المعارك يقاتلون حتّى النَّفَس الأخير، فتلك شجاعة فريدة تدعو إلى الإعجاب.. ولكن أن يقدّم المرء نفسَه للموت تتخطّفه سيوفٌ وخناجر، فهذا ما لا يمكن أن تستوعبه أبجديّةٌ ما، مهما بلغت من دقّة التعبير وأداء المعنى.
همس عليّ وهو يُصغي إلى حديث رجلٍ عاش معه أكثر من عشرين سنة:
ـ أوَ تَسلَم يا رسول الله إن فديتُك بنفسي ؟
ـ نعم، بذلك وعدني ربّي.
كان عليّ حزيناً، فمكّة تلك القرية الظالم أهلُها تتآمر على قتل انسانٍ بعثته السماءُ لخلاص الأرض، ولكنّ حزنه سُرعان ما تحوّل إلى فرحة كبرى.
تقدّم الفتى بخُطى هادئة إلى فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله والْتَحَف ببُردته ينتظر السيوف التي ستمزّقه.. وستتدفّق دماؤه نقيّة طاهرة ترسم فوق الثرى قصّة رائعة من قصص الفداء.. ورقد عليّ في فِراش النبي، فيما انطلق الشريد صوب الجنوب قاصداً يثرب.

* * *

الطريق إلى يثرب
كانت خطّة النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يتوجّه جنوباً، نحو جبل ثور؛ ليختبئ فيه عدّة أيّام ريثما تُعَدّ وسائط النقل وتيأس قريش من إلقاء القبض عليه، كما انّ مبيت عليّ في فراشه قد أسهم كثيراً في تأخير اكتشاف المتآمرين لنبأ هجرته.
وفي ظروفٍ بالغة السرّية اشترى عليّ عليه السّلام بعيرَين: للنبي صلّى الله عليه وآله وصاحبه أبي بكر؛ كما تمّ الاتّفاق مع دليل الصحراء عبدالله بن أُريقط. وبالرغم من بقاء الدليل على وثنيّته، فقد كان رجلاً أميناً وثق به النبيّ.
استيقظت قريش على دويّ المفاجأة، وتصرّف زعماؤها بهستيريّة عنيفة، فقد انطلقت فرسان الدوريّات يبحثون في الأودية، كما وُضعت جوائز مُغرية لمن يدلّ على الشريد أو يُدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه. وبالرغم من إدراكهم بأنّ لدى بعض الأفراد معلومات مهمّة، لكنهم فشلوا في انتزاعها.
لقد كانت قريش واثقة تماماً من إلقاء القبض على محمّد، فقد اهتدى خُبراء الأثر إلى منطقة تحوم حولها الشكوك، بل إنّهم وصلوا إلى جبل ثور حيث اختبأ صلّى الله عليه وآله وصاحبه في أحد أغواره.
وهنا تدخّلت السماء لتحمي آخر الرسالات في التاريخ.
تسلّق أحدُهم إلى الغار ليرى ما فيه ومَن فيه، ثمّ سرعان ما عاد إلى أصحابه.
ـ ماذا هناك ؟
ـ لا شيء.
ـ والغار ؟
ـ رأيت في فم الغار نسيج العنكبوت، وأحسب أنها نَسَجتْه قبل ميلاد محمّد… ورأيت عُشّاً فيه حمامتان وأغصاناً متشابكة لا يمكن للمرء أن يدخل الغار إلاّ بإزالتها.
ـ إذن لم يدخله أحد.
ـ نعم لم يصله إنسان.
وكان رسول الله يُصغي إلى الحوار، فهتف في أعماق قلبه:
ـ الحمد لله. وغمرت السكينة قلبه.

* * *

الرحلة
وفي الموعد المقرر جاء الدليل يقود بعيرَين، وذلك بعد ثلاثة أيّام قضاها رسول الله في الغار.
تقع يثرب في الشمال من مكّة، ومع هذا فقد اتجه رسول الله جنوباً إلى جبل ثور إمعاناً في تغطية رحلته بالسرّية الكاملة.
وكان على الدليل أن يتّجه نحو ساحل البحر الأحمر وسلوك طريق بعيد عن طريق القوافل.
كانت رحلة شاقّة.. وتمرّ سبعة أيّام والنبي يقطع سهول تِهامة في صيف ملتهب، وفي طريق بالغة الصعوبة، حتّى إذا بدت مضارب بني سَهم، تنفّس النبيُّ الصُّعَداء، فقد مرّ الخطر ولن تستطيع قريش أن تفعل شيئاً.
في الثاني عشر من شهر ربيع الأول وصل قرية قُبا، في ضواحي يثرب.
وفي قُبا أمضى صلّى الله عليه وآله أربعة أيّام مترقّباً وصول ابن عمّه عليّ بن أبي طالب.
وعندما حلّ يوم الجمعة يمّم الرسول صلّى الله عليه وآله وجهَه شَطر المدينة وكان آلاف السكان ينتظرون طلعته البهية.
في تلك اللحظات المهيبة عندما تُغيّر المدن أسماءها (13)، وفي يوم 16 ربيع الاول الموافق 20 / أيلول سنة 622م وصل النبي صلّى الله عليه وآله يثرب في لحظة تاريخية خالدة، فلقد هبّ أهل المدينة عن بِكرة أبيهم لاستقبال آخر الأنبياء في التاريخ.
وخرجت فتيات المدينة يُنشدن أناشيد الفرح، وهنّ يلمحن من بعيد ركب المُهاجِر يجتاز ثنيّات الوداع.
وفي تلك اللحظات المفعمة بمشاعر الأمل والفرحة واللقاء بدأ التاريخ الهجريّ، وتبلورت نواة المجتمع الإسلام.
فلم تمض أيّام قلائل حتّى كتب النبيّ صلّى الله عليه وآله أوّل وثيقة تُعلن ولادة الأمّة الإسلامية ككيان مستقلّ له هويّة:
بسم الله الرحمن الرحيم
« هذا كتابٌ من محمّد النبيّ نبيّ المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
انّهم أُمّة واحدة من دون الناس.. » (14).
ولقد تضمّن الإعلانُ بُنوداً غايةً في الدقّة والنظام، كشفت عن شخصية الرسول قائداً وزعيماً لدولة كبيرة فيما بعد.
وعندما تم الانتهاء من بناء المسجد في قلب المدينة، أصغى المجتمع الجديد لصوتٍ ينساب كنهر هادئ.. صوت عذب يدعو المسلمين إلى الصلاة والتوجّه نحو الله الخالق الباري الكريم.
صوت يعلن أن لا أكبر من الله شيء، وأنّه وحده لا إله سواه، ولا معبود غيره. وأن الصلاة هي لحظة الاتصال للشكر على ما أنعم، وأن الحمد له والثناء عليه وحده.

شاهد أيضاً

قصيدة تلقى قبل أذان الصبح في حضرة الإمام الحسين عليه السلام في شهر رمضان المبارك

  أشرب الماءَ وعجّل قبل َأن يأتي الصباح  أشربَ الماءَ هنيئا أنهُ ماءٌ مباح أشربَ ...