الرئيسية / زاد الاخرة / الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

الحجاب النوراني والحجاب الظلماني

حجاب الظلمة: هو التوجه إلى اللذات والشهوات الحيوانية والآمال والميول النفسانية والنظر إلى الماهيات الامكانية والتوجه إلى الذات والخلق من الجهة الخلقية، بينما الحجاب النوراني نوعان: احدهما سبحات وانوار الجلال مما اشير إليها في هذا الحديث وباقي أنوار الجمال. 

لكن أنواع ذلك الجلال هو اشراقاتي وهو لفرط العظمة والنورانية واللانهائية، يبعد عنها العاشق بعتاب «لن تراني»  ويدع المعشوق بقهر «يحذركم الله نفسه»، فالعاشق في حمى الحيرات ومن تلك الاشواق، يرى العارف نفسه أبداً في بُعد وفراق ويعتبر مقام الوصال ممتنعاً عليه. 

وأنوار الجمال لتلك الاشراقات التي تؤمل العاشق بالوصال وتجعل العارف يترنم بـ «وصلك منی نفسي ولقاؤك قرة عيني» ويدعو بنداء {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ}[1]، ثم يدعوه إلى مشاهدة جماله في مرآة الآفاق والأنفس قائلاً «لا يسعني ارضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن»، ويجعل مرآة قلب العارف العاشق مظهراً للجمال المتوحد. 

والحاصل ان العارف يصاب إثر اشراق الجلال بحالة اليأس من الوصال وحال الدهشة والخوف والحيرة والبعد عن الحضرة، أي الجلال ويحصل باشراق الجمال مقام وصل وانس وقرب وشهود، ذاك الحسن الذي ليس له مثال آخر، ماسكاً يد العاشق مستقدماً اياه من بيداء الحيرة إلى محل خلوة الوصال، لكن مقتضى ذلک أن لكل جلال  جمال؛ فلا يزال لكل هجر لطف لذلك المعشوق وسبحات الجلال تلك واشراق العظمة التي تطرد العاشق عن المعشوق وتقيمه على نار الفراق، في ذلك الاحراق أيضاً يأخذ لطفه بيد العاشق لسحبه إلى جنة اللقاء وفردوس الشهود، اذ العارف السالك انما يرى نفسه بمنتهى البعد و الجوی عن المعشوق الحقيقي حين يكون قد حصل على كمال القرب، لذا ففي كل هجر لطف وفي كل جلال جمال ومع كل منع عطاء وان منعه، وتحذيره وردعه هو في حقيقته وباطنه عطاء ورأفة ودعوة من قبله. 

ومقصود سلطان الحقيقة من ذلك هو لعله ان من يشتاق إلى سر سر العالم ويعشق شهود حقيقة حقائق الوجود، فإنما يتمكن من نيل هذا المراد حينما تدفع سبحات جلال وانوار واشراقات الجمال الإلهي، الستار عن قلبه، كي يلقي العاشق عن نفسه حجة الآنية ويرفع ستار الاغيار والانانية والتظاهر وهو ما يستر عين النظر إلى الحقيقة، كي تتضح الحقيقة، نظر إلى وجه الشاهد المقصود بعين القلب غير المحجوب بالظلمة، لكن دون اشارة حسية أو عقلية، اذ ان تلك الذات التي لا محل لها بسيطة متفردة فوق لا تناهي الوجود ومنزهة عن الجسم والجسمانيات، فالاشارة الحسية الخاصة بالاجسام تستحيل بالنسبة إليه واذ لا ماهية له بل صرف الوجود، لذا تمتنع بالنسبة له الاشارة العقلية المختصة بالمعاني والماهيات الكلية، وبما أن تعينه وتشخصه عن ذاته المقدسة وبينونته على الخلق بينونة  وصفية لا عزلية، فلا تميز وتعين له وليس مقدوراً اطلاقاً الاشارة إلى ذات غيب الغيوب الروحية والمعنوية ايضاً في مقام روح السر الخفي وأخفى؛ اذ كل ما أشار إليه بالحس أو العقل أو الروح يكون متميزاً محدوداً وتحيطه في تلك الاشارة الحسية والعقلية، بيد أن الله محيط بكل شيء، إذن فحيث تنكشف للعارف السالك إلى الله الانوار والاشراقات الإلهية ونظر إلى الله سبحانه وتعالى من باطن؛ من مطاوي جلال وجمال حجب القهر واللطف بعين القلب، هذا الشهود هو عين الوصال وعين الفراق وهو مع انه عين المعرفة عجز عن المعرفة، اذ المشاهدة بنحو لا يمكن معها مع تحقق الشهود أي اشارة حسية وعقلية وروحية وغير ذلك وفي الحقيقة ان العارف يدرك بالشهود فناء في المدارك ويتجلى عن نفسه بالكلية ويوجد بالحق، كي يرى الرفيق بعين الرفيق و هنا طلب كميل من بحر العرفان وموج الفناء ذلك ان يوضح أكثر. 

قال(ع): الحقيقة محو الموهوم مع صحو المعلوم. 

 المحو يعني افناء الشيء أو اعدام اثار شيء، الموهوم في المصطلح يعني ما تدركه قوة الوهم ولعل المراد هنا مطلق ادراك القوى الباطنة من خيال ووهم وعقل. 

والصحو بمعنى التنبه والخروج من السكر إلى الوعي، والمعلوم هنا بمعنى الواقع والمتحقق واليقين وثابت الهوية والحاصل الذات؛ ومقصوده(ع) من هذه العبارة ان العارفين والعشاق الإلهيين الذين هم سلّاک ديار الحقيقة ومسافري اقليم القدس، عليهم اغلاق عين وهم النظر إلى الكثرة وان يفتحوا عين القلب الناظرة إلى الله؛ اذ ان طالب وصال المعشوق الحقيقي ومشتاق جمال الشاهد الازلي، انما يصل إلى شهود حسن الكل ذاك عندما يلقي ستار وهم العالم عن عين البصيرة ويحرق شهود معشوقه العالم والعالمين بنار العشق ويرى الجميع وهماً فانين في الحق، كي يسفر المعلوم والمشهود وهو الحقيقة، عن وجهه، فيشاهد جمال الحق الآخذ بالقلب؛  بعد محو حجب الموهوم؛ اذ ما دام ستار الموهوم حجاب عين القلب، فبصر البصيرة محروم والسالك متوقف في محل الاوهام وهو حمى عتبة الحقيقة أو محضر سلطان العزة وينشغل بمشاهدة مظاهره ويفتتن بشؤون تجلياته، لذا لا يبتدى له الحسن الاعظم الأتم الإلهي الذي هو خارج عن حجب الجسم والروح وستار الصورة والمعنى، وان طالب اللقاء بدون محو الموهوم وبالانشغال بالنعمة، لن يوفق للقاء المنعم. 

هنا حيث على الجميع ان يعلم، ان المقصود من بعثة رسل الحق(ص) ومن بسط السياسات الإلهية، وحكمة وضع الاحكام وأنواع العبادات، تزكية وتصفية النفس وتهذيب الروح وإيجاد والأنس والحب للنوع الانساني، وايضاً ان المقصود من رسالة الأنبياء باقامة آثار الروح المعنوية والصفاء والوفاء والحقيقة وكذلك ان مراد اولئك الاجلاء تعلم الاخلاق والاداب ونشر العلوم والمعارف الربانية، كما وان هذه البرامج لاستكمال الروح وان الهدف النهائي أيضاً الوصول إلى هذا المقام وهو ان يصبح خلق الله عارفين به اولاً، وثم وبالسير والسلوك العلمي والعملي ان يصلوا إلى مراتب معرفة الله العليا، إلى حيث محو الموهوم وهو عبارة عمّا سوى الله ويوفقوا إلى كشف شهود كل الجمال، الحق والحقيقة، تلك الحقيقة التي هي منتهى آمال العارفين. 

ازداد مع ذلك عطش شوق «كميل» وطلب شرح المقصود، فقال(ع): هتك الستر الغلبة السر، أي تمزيق الستار والقاؤه واظهار المخفي بالحجاب، الستر بمعنى الحجاب وكل ساتر، السر بمعنى الامر المخفي والمغطى وما هو يخفى على الافكار والادراك. 

لعل مقصوده(ع) ان طالب مقام الحقيقة ووصل وشهود حضرة الاحدية، يزيح اولاً بغلبة العشق كل ستار واي مانع من امام نظر العقل الوهمي ويمزق حجب العقل النورانية فضلاً عن ظلمانية الوهم يمزق ذلك كله ولا يتوقف في أي مرحلة عن السير إلى الله ويتجاوز كل حجاب نور وظلمة خلقي ووصفي، كي يستغرق سير الاحدية روحه ويقهر ويغلب كل مشاعره وقواه الادراكية. 

ويوفق عبر غلبة سر الحق على باطن العارف، إلى شهود الحقيقة، بينما العارف تتعطل في الفناء الشهودي جميع مداركه الحسية والعقلية بسبب مشاهدة نور تجلي وجه الله ويذهل عن نفسه ويرتفع عن وسوسة المشاعر الحسية يصاحب القلب وكل القوى الادراكية، الی حد  الصعق[2] كي ينال اشراق انوار الجمال والجلال الإلهي بدون جهة واشارة وكيفية و هکذا هو حال غلبة سر الله على قلب العارف وعلى جميع قواه الادراكية بعد ادراك الحقيقة وفي هذا الحال يکون الشاهد الحقيقي «فإذا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الّذي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الّذي يُبْصِرُ بِهِ وَلِسانَهُ الّذي يَنْطِقُ بِهِ وَيَدَهُ التي يَبْطِشُ بها»[3] يسفر عن وجهه، وحيث أن القهر والغلبة والاستيلاء الكامل هو للسر الإلهي على باطن وظاهر العارف، فيفنى على نفسه ويشاهد وجه الحقيقة عياناً بعين الحق تعالى. 

إذن فما لم تغادر كل فكرة وصورة القلب بغلبة سر الله وتتعطل جميع المدارك والحواس البشرية وما لم يندك جبل إنّية العارف بل و يحترق، لم يطلع السالك بعد على الحقيقة والحقيقة الصرفة تلك ولم يلج بعد إلى محل الوحدة ذاك. 

ما دامت باقية بقايا الوجود، كيف يصفى من الكدر قدح الشهود. 

ما دامت علاقة النفس والبدن قائمة، كيف يزيح البرقع عن وجهه مقصود الكل. 

ما دام الغبار يغطي عين الروح، كيف يمكن النظر الى وجه الحبيب عياناً. 

مرة أخرى كميل ظمآن ينشد الحقيقة يطلب من ذلك العظيم شرحاً، فيقول(ع): «جذب الاحدية لصفة التوحيد» الحقيقة: جذب عشق الاحدية قلب العارف نحو جانب اقليم التوحيد. 

الجذب في اللغة يعني السحب و النقل من مكان إلى آخر والسير السريع وغير ذلك. 

وصفة التوحيد تعني تطهّر العارفين السالكين من أي شائبة شرك خفي وجلي؛ ومن أي التفاتة غير التوجه إلى الله، وفراغ القلب تماماً من كل ما عدا عشق وشهود الحق تعالى ومشاهدة ذلك الحسن المطلق. 

إذن فمعنى الكلام المتلألئ لبحر العرفان اللامحدود؛ ذاك ان الحقيقة إنما سيدركها من قد اجتذبه عشق الاحدية إلى عالمه وجرده عن أي توجه إلى عالم كثرته وسحبه الوحداني الجهة شطر كعبة المقصود. 

وفي العبارة إشارة إلى أنّ المحبة والعشق وجذبة مقام الاحدية باللطف الخاص الازلي، ما لم تشمل أهل السلوك، فلن يتيسّر بلوغ هذا المقام بمجرد السعي والجد والاجتهاد، بل ليس في المقدور  في أي مرحلة بلوغ شيء بمجرد الجد والاجتهاد، دون لطف وعناية الحق تعالى. 

إذن فقد اطلع ذلك العظيم كميل علی السر الإلهي بأن الوصول إلى مقام الحقيقة وهو منتهى مقصد السالكين في طريق الله، انما يتيسر بجذب الاحدية العارف وما لم تدع جذبة المعشوق الخفية تلك، العاشق، فلن يضع العاشق قدماً في ب

جادّة الوصال وعشق المعشوق اذ يجيز للعاشق اللقاء، ويحدث في المرحلة الثانية عشق العاشق، والعاشق  ما لم يمر بمراتب العشق وما لم يطوي  مقامات العاشق، فلن يبلغ اطلاقاً مقام الوصال ولن يسمح له ان يطرق مقر خلوة الشهود و الخلاصة ان حب الحق للخلق وجذبة عشقه التي هي اثر عشقة لذاته، المبدأ الأول لعشق العاشق، ثم العشق والشوق يتسبب في سيره وصعوده إلى حيث الشهود. 

مرة أخرى أراد كميل وقد أهاجه الشوق والحماس؛ وطلب منه(ع) ايضاحاً اكثر، فقال(ع): نور يشرق من صبح الازل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره. أي أن تلك الحقيقة التي تسأل عنها، النور الإلهي الذي أشرق في صبح الازل على هياكل التوحيد، أي على الماهيات التي لا وجود لها، هي ووجودها آية وحدة الحق. 

والمراد من صبح الازل، لعله عالم العناية الازلية وعالم الربوبية والنظام الرباني المقصود، إذن فالمراد من شروق نور الحق وشمس حقيقة الوجود واشراق المعشوق المطلق على هياكل التوحيد، ظهور آثار التجلي في مظاهره و مجالاته وبعبارة أخرى، المراد من تجلي نور الحق في الماهيات الامكانية، ظهور الاشياء، وجميع المراتب من ذات وذاتيات الماهيات والجواهر والاعراض؛ المجرد والمادي والبسيط والمركب والملك والملكوت من صبح ازل وجه الله و (أنا الله). 

ولذلك الوجود التام فوق التمام؛ العالم بمنزلة المرآة؛ والانسان الذي انطوی في وجوده كل عالم الخلقة بالوحدة والبساطة، مرآة أخرى في مقابل وجه الله الذي قال سبحانه في القرآن:

{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآْفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ}[4]. 

اذن فالعالم والإنسان نور ظهور الحقيقة العينية، وهو شاهد حضرة الربوبية بعين الشهود. 

والمراد من هياكل التوحيد الحقائق العقلية والارواح الكلية والنفوس القدسية الذين هم وحدهم المطلعون على هذا المعنى بالعلم والشهود ولعل المراد من ذلک جميع ا لاشياء باعتبار الربوبية وتدلّي الاشياء ارتباطاً بالحق تعالى، اذ: 

وفي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد[5]. 

 ومن الممكن ان المراد هم الافراد الذين من نفوس الأنبياء والاولياء القدسية، وهم مظهر وجه الله، نعم، انهم هياكل التوحيد ومظهر الاثار ومظهر التوحيد وخليفة الله والرحمة للعالمين. 

كلامه(ع) قد بلغ هذا الموضع، إذ طلب كميل ـ عاشق مظهر الرب ـ  منه اشراقاً آخر، حيث سمع جواباً: «اطف السراج فقد طلع الصبح». اطفأ تماماً مصباح أنيتك والشهود، والتوجه والطلب والإرادة والاشتياق، وانفس كل ما عدا الله حينما تطلع عليك شمس المعرفة وصبح الحقيقة ويضئ قلب العارف بنورها. 

نعم، عند ما يرى العارف ببصيرة الباطن، شمس وجود الحق والاشراق الإلهي الاعظم التام فوق التمام، وشاهد ذلك النور الساطع الباهی الانور الاشد اللامتناهي، بعين القلب، تختفي سائر الانوار الضعيفة، وجوده هو وجودات العالم الظلية الفقرية، يختفي كل ذلك عن نظره تماماً وفي مقابل تلك الشمس الاعظم الانور ينطفئ شمع وجوده المحدود المخلوق وأنيته. 

النظر الذي رأى فيه هو بصفاء القلب، الله، فوالله، لن يرى بعد ذلك نفسه ولا غير. 

افتح عين الحيرة لترى جمال الحبيب، اذ قد احرق برق الغيرة اجنبة عقلنا ووعينا. 

قلل البحث بمصباح العقل عن اللا اثرية، بشأن الشمس المشرقة اين تكون السهى. 

وجه الحبيب لن تراني تراه من الف ستار، إن ازحت أنت عن مرآة القلب ما سواه. 

 نعم، إنطفأ كميل إلى الابد، حيث كان مؤهلاً لأن يطلع على الحقيقة وينال المعشوق[6]. 

إلى هنا تم بحد الامكان ايضاح كلمة العارف ـ التي وردت في متن رواية الإمام الصادق(ع) ـ والعرفان ومقامات سير وسلوك العارفين وقواعد السير والسلوك إلى الله والآن نقوم بإيضاح أصل الرواية واول اجزائها هو الخوف وهو من اصول حال العارفين، طالباً من الله تعالى المدد بهذا الخصوص اذ بغير مدده لن يتحقق أي برنامج ايجابي. 

ازمة الامور طُراً بيده،         والكلُّ مستمدّة من مدده[7]. 

 


[1]- البقرة 2: 186. 
[2]- الصعق: الاغماء. 
[3]- الكافي: 2/352، باب من آذى المسلمين واحتقرهم، حديث 7. 
[4]- فصلت 41: 53. 
[5]- أسرار التوحيد، محمد منور. 
[6]- الحكمة الإلهية: 69، بتلخيص وتصرف قليل في العبارات. 
[7] ـ ملا هادي السبزواري. 

 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...