إضاءات إسلامية
ذكرتُ هناك أنّ بعض مقدمات هذا الكلام صحيح تامّ، وبعضها ناقص مبتور. وإنّ ما ذكر بشأن وجود الدليل لكل حكم من الأحكام صحيح، وهو عين ما ذكره علماء الإسلام من أنّ لكلّ حكم شرعي حكمة خفيّة،
ذكرتُ هناك أنّ بعض مقدمات هذا الكلام صحيح تامّ، وبعضها ناقص مبتور. وإنّ ما ذكر بشأن وجود الدليل لكل حكم من الأحكام صحيح، وهو عين ما ذكره علماء الإسلام من أنّ لكلّ حكم شرعي حكمة خفيّة، وكما يقول علماء الفقه والأصول: “إنّ الأحكام تابعة لسلسلة من المصالح والمفاسد الواقعية”.
أي إذا حرّم الإسلام شيئًا فلوجود مفسدة فيه، ماديّة كانت أم روحيّة، شخصيّة كانت أم اجتماعيّة، ففي كل الأحوال إنّ علّة التحريم وجود الضرر. وبعبارة أخرى، إنّ التحريم التعبّدي لم يُشرّع اعتباطًا بل لوجود حكمة لا نعرفها. وهذا ما يتّفق عليه علماء مدرسة أهل البيت جميعهم. أمّا علماء الجمهور كالأشاعرة، فإنهم لا يقولون بهذه حيث لهم أفكارهم الخاصّة بهم، وهي بلا شكّ أفكار خاطئة قد أضرّت الإسلام والمسلمين كثيرًا. وبما أنّ توحيدهم ناقص، فإنّهم يرون أنّ الله أرفع شأنًا من أن يُشرّع حكمًا لمصلحة معيّنة، وهذه الصفة لا تنطبق عليه بل تنطبق على الإنسان؛ لأنّ الله أرفع من ذلك كلّه،
وحاشاه أن يأمر بشيء أو ينهي عنه لمصلحة معينة أو علّة محدّدة، علمًا أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام قد سئلوا نفس السؤال حول صحّة تلك الاعتقادات، فأجابوا بالسلب – وكما هو معلوم – فإنّ عقيدتهم هي أنّ الله لا يشرّع أو يخلق شيئًا إلّا بحكمة ومصلحة، وتقتضي سنّة العدل الإلهي أن يكون عادلًا في التكوين، وفي التشريع، وعلى هذا الأساس اعتبر العدل أحد أصول الدّين.
إذًا قولكم – أيّها القائلون – إنّ الإسلام لم يحرّم شيئًا إلّا لعلّة صحيح، وإن اتّفق معكم فيه، إذ لم يحرّم أو يُنجّس لحم الكلب مثلًا إلّا لمصلحة، ولا بدّ من وجود شيء فيه يضرّ الإنسان اقتضى تحريمه، ولكن ليس من حقّنا الخوض في تلك المصلحة أو العلّة، كما لا يمكننا التقصّي عنها.
إنّ الحديث الّذي يتداول حول هذه الأشياء في واقعنا المعاصر هذا اليوم، لم يكن له وجود في عصر صدر الإسلام. ولكن هناك موضوع آخر ينبغي التنبيه له وهو: أنّنا لو فرضنا أنّ مجتهدًا يحصل عنده الاطمئنان بأنّ الإسلام قد حرّم لحم الخنزير بسبب وجود تلك الجرثومة الّتي تمّ اكتشافها هذا اليوم، ويفتي بحلّية أكل لحمه، فإنّنا لا نطيعه هنا، ولا نتّفق معه في فتواه، إذ يجب أن يكون المجتهد متمرّسًا، لأنّه يمكن أن تكون في الشيء المحرّم عشرات الأخطار الّتي لم يكتشف العلم إلا واحدًا منها، وما زالت بقيّة الأخطار على حالها.
فعلى سبيل المثال، نجد أنّ العلم قد اكتشف مادة البنسلين، وبيّن فوائدها بالشكل الّذي جعل الناس يقبلون عليها، وبعد سنين عدّة تبيّن أنّ في هذه المادة أضرارًا، أو لا يُسمح بإعطائها لكلّ المرضى على الأقلّ، فالعلم هنا قد اكتشف جانبًا من هذه المادة، وبقي الجانب الآخر منها غامضًا، فمتى يحصل الاطمئنان لدى المجتهد أنّ سبب تحريم الإسلام للحم الخنزير هو وجود تلك الجرثومة فقط؟ ولو قلنا إنّه قد تعجّل لأصبنا كبد الحقيقة؛ لأنّه لو سئل فيما إذا كان يجزم بعدم اكتشاف العلم لشيء جديد آخر مضرّ في الخنزير بعد عشرين سنة، فما عساه أن يقول؟ وما يدريك لعلّ صفات بعض الحيوانات تكمن في لحومها، بحيث إذا تناول أحد ذلك اللّحم، فإنّ تلك الصفات تنتقل إليه! ومن صفات الخنزير أنّه قذر للغاية. وورد في الحديث أنّ من الصفات المعنويّة لهذا الحيوان أنّه يذهب الغيرة، ومن الطبيعي –
كما تعلمون – أنّ لكل حيوان صفات معنويّة تخصّهُ، فمثلاً يتّصف الكلب بالوفاء في حين يفتقد الخنزير هذه الصفة، ولا تتوفّر فيه أبدًا. وعندما سئل الإمام الرضا عليه السلام عن الحكمة من تحريم لحم الخنزير؛ أجاب “لأنّه يذهب الغيرة”. وهذا ما نلاحظه عند الأوروبيّين، إذ بدت عليهم – بكل وضوح –
أعراض تناول هذا اللّحم إذاً، فالإنسان الذي يجزم بفلسفة الأحكام ولا يرى غيرها مصرًّا على أنّها هي لا غير ناضج وغير واعٍ. ومثالنا على ذلك الخمر المحرّم في كافّة الشرائع السماويّة، فربّما يقول القائل: إنّه قد حرّم لضرره على الكبد والقلب، لكنّ التجارب أثبتت أنّ الإنسان لو تناول قليلًا منه فإنّه ليس مضرًّا فحسب، بل نافع ومفيد. وبناءً على هذا، فقليله حلال و كثيره حرام. وهذا هو تخبّط آخر،
والمطلوب هو التأنّي في الحكم والتقويم بالنسبة إلى هذه المسائل. وهناك بعض الأشخاص كانوا يقولون: إنّ الحكمة من تحريم الخمر هي لأنّه يزيل العقل، ونحن عندنا استعداد إلى الحدّ الّذي لو تناولنا أيّ مقدار منه فإنّه لا يسكرنا، فيكون – على هذا الأساس – حلالًا لنا وحرامًا على غيرنا . وهذا – لعمري – هو البعد الحقيقيّ عن جادّة الصواب، إذ لعلّ هناك آلاف الحكم الّتي أدّت إلى تحريم الخمر ونحن غافلون عنها، أو لم ندركها إلى حدّ الآن، هذا أولًا، وثانيًا: إنّ الشيء المحرّم – ولو لم يكن هناك ضرر في ذرّة واحدة من ذرّاته – يبقى محرّمًا على الإطلاق، وينبغي ابتعاد الناس عنه.
الإسلام ومتطلّبات العَصر (الشهيد مرتضى مطهّري)، مركز نون للتأليف والترجمة