حظيت معارك تحرير مدينة الفلوجة العراقية التابعة لمحافظة الانبار، والتي لاتبعد عن العاصمة بغداد أكثر من خمسين كيلومتر، بأهتمام واسع من قبل مختلف وسائل الاعلام العراقية والعربية والاجنبية، لاسيما الرئيسية منها التي تمتاز بسعة الانتشار وكثرة المشاهدة.
وقد اتخذ هذا الاهتمام الاعلامي الواسع منحى سلبيا واضحا، منطلقا من تزييف للحقائق من جانب، ومن جانب اخر تهويل وتضخيم للاخطاء والسلبيات، ومن جانب ثالث اضفاء الصبغة الطائفية على المعركة، وكأنها بين “ميليشيات” شيعية ومكون اجتماعي سني.
واذا كان ثمة ما هو غريب في الامر، فانه يتمثل في ذلك الضخ الاعلامي الممنهج والمبرمج بين وسائل اعلام ذات هويات ومساحات وتوجهات ومرجعيات مختلفة، حتى يبدو وكأن الامر مدروس بدقة وعناية فائقة.
والصورة الاعلامية الماثلة امامنا اليوم بكل تشوهاتها، لاتختلف كثيرا عن الصورة التي رسمتها وسائل الاعلام ذاتها لعمليات تحرير مدينة تكريت وعمليات تحرير مدن ومناطق اخرى، تمت بمشاركة قوات الجيش والحشد الشعبي وابناء العشائر، وحتى قوات البيشمركة الكردية.
قنوات فضائية، مثل الشرقية والبغدادية والتغيير، والجزيرة والعربية وفوكس نيوز و(CNN) و(BBC)، وصحف ورقية والكترونية مثل الشرق الاوسط وايلاف، ووكالات خبرية ومواقع على شبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، ناهيك عن اعداد كبيرة من الحسابات الشخصية وغير الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، كلها حشدت وعبأت امكانياتها وماكينتها الاعلامية لكي تكرس وترسخ في ذهن المتلقي جملة قضايا تجعله في النهاية يخرج بنتيجة مفادها ان معركة تحرير الفلوجة من عصابات “داعش” الارهابية معركة باطلة استهدفت ابناء المكون السني اكثر مما استهدفت “داعش”.
ومن بين ابرز القضايا التضليلية التي عملت عليها وسائل الاعلام المشار اليها، وغيرها ممن يدور في فلكها وينفذ ذات الاجندات:
الادعاء بان قوات الحشد الشعبي التي شاركت في عمليات تحرير الفلوجة ارتكبت انتهاكات لحقوق الانسان هناك، من قبيل تخريب البيوت ودور العبادة، وقتل المدنيين الابرياء، ومصادرة ممتلكاتهم.
واذا كان قد حصل شيء من هذا القبيل، فانه لايتعدى كونه سلوكيات وممارسات فردية، لاتعكس سياسات وتوجهات رسمية، وقد اعترف واقر قادة ميدانيون وزعماء سياسيون بحصول ذلك، بيد انهم في ذات الوقت اكدوا ان مثل تلك السلوكيات والممارسات تعد مرفوضة ومدانة وينبغي ملاحقة ومحاسبة مرتكبيها.
مع العلم ان كل الحروب والمعارك، سواء كانت خارجية بين دول، او داخلية بين مكونات وجماعات عرقية وقومية ومذهبية، تشهد تجاوزات وانتهاكات، وقد يكون من الصعب بمكان ضبط ايقاع الانفعالات والسلوكيات الفردية بالكامل.
الملاحظ، ان وسائل الاعلام “المغرضة” -ان صح التعبير- راحت تختلق وتهول وتضخم الوقائع والاحداث ضد الحشد الشعبي، وتقلل وتهون من اثر جرائم تنظيم “داعش” التي تمثلت بأحتجاز الاف الناس كدروع بشرية، وهدم البيوت على رؤوس ابنائها، وسلب ونهب الممتلكات، وسبي النساء.
وهذا الاسلوب والمنهج النفاقي، ليس جديدا على وسائل اعلام اعتمدت وتعمدت دوما قلب الحقائق وتزييفها، وتصوير الحق باطلا والباطل حق.
رغم ان قوات الحشد الشعبي لم تكن وحدها في الميدان، وانما كان هناك قوات الجيش، وجهاز مكافحة الارهاب، والحشد العشائري، والشرطة الاتحادية، وهذه تمثل طيفا واسعا من الناحية الاجتماعية، ولاتحمل هوية اجتماعية معينة، الا ان وسائل الاعلام “المغرضة” صورت الامر وكأن الحشد الشعبي وحده في الميدان، وحتى لو كان ذلك فعلا، فهي تتجنب الحديث عن الانتصارات المتحققة على يديه، والتي افضت الى تطهير قرى ومناطق عديدة في محيط مدينة الفلوجة من عصابات “داعش”، بينما تنقل صورا ومشاهد لاناس مقتولين، او منارة مسجد مهدمة، او اناس نازحين محرومين من المأوى والمأكل والمشرب، وتدعي ان الحشد الشعبي، او بحسب تسميتها “الميليشيات الشيعية” هي التي قامت بهذه الاعمال ، علما ان من يدقق بامعان، يكتشف ان الكثير من تلك الصور تعود لاماكن واحداث بعيدة تماما عن الفلوجة، وفي اوقات سابقة انكشف زيف ادعاءات بعض وسائل الاعلام من خلال تغطياتها المفبركة لجانب من المعارك ضد “داعش” في سوريا والعراق.
حرصت وسائل الاعلام “المغرضة” على تصوير الدور الايراني بالكبير والخطير، من خلال الحديث عن وجود عدد كبير من القيادات العسكرية الايرانية في الفلوجة، وحضور الجنرال قاسم سليماني الى جانب القادة العسكريين العراقيين، لاسيما قادة الحشد الشعبي، مع تسليط الاضواء كثيرا على تصريحات تحذيرية من الدور الايراني، لساسة ودبلوماسيين وعسكريين عرب واجانب، ولعل ابرزهم السفير السعودي في العراق المثير للجدل ثامر السبهان.
ومن خلال ذلك سعت وسائل الاعلام “المغرضة” الى ترسيخ حقيقة معينة في ذهن المتلقي، مفادها ان ايران هي التي تدير وتوجه معارك الفلوجة، والانتصار في تلك المعارك يعني ان ايران ستثبت موطيء قدم لها هناك، وبالتالي ستتمدد خارج حدود المكون الشيعي، الذي تدعي انها تدافع عنه. وهذا مايثير حفيظة دول عديدة تعد نفسها مرجعيات وزعامات اساسية للمكون السني، مثل السعودية وتركيا وقطر والامارات وغيرها.
بطريقة او بأخرى تحاول وسائل الاعلام المشار اليها، الايحاء بأن تنظيم “داعش” الارهابي يتملك امكانيات وقدرات وخبرات عسكرية، وان هزيمته في معركة ما لاتعني نهايته، بل انه يمكن ان يستعيد قوته ويعوض خسائره في مواقع اخرى، فمثلا عندما ينكسر في العراق وسوريا، فأنه يفرض وجوده بدرجة اكبر في ليبيا وغيرها، وحتى تصوير النزعة الاجرامية لـ”داعش”، يمكن ان يراد منها اظهار قسوته المفرطة، لادخال الرعب والفزع في نفوس المدنيين من ابناء المدن والمناطق المرتهنة تحت سطوته او المهددة من قبله، وهذا احد اساليب الحرب النفسية التي تتعمد بعض الاطراف استخدامها لكسر الروح المعنوية لدى الخصم.