آراء وتحليلات
الشهيد رئيسي والعراق.. بين زيارتين!
في التاسع من شهر شباط / فبراير من عام 2021، أي قبل أكثر من ثلاثة أعوام زار الشهيد السيد إبراهيم رئيسي العراق، وكان حينها يشغل منصب رئيس السلطة القضائية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وبشهادة وتقييم العديد من الساسة العراقيين وأصحاب الرأي، كانت تلك الزيارة مثمرة ومهمة للغاية، ليس لأنه كان متوقعًا ومنتظرًا أن يصبح رئيسي رئيسا للبلاد على ضوء الانتخابات الرئاسية المرتقبة في حينه بعد شهور قلائل فحسب، بل لأنه جاء وهو يحمل رؤية واضحة وعميقة لمعالجة حزمة من الإشكاليات والملفات الشائكة، سواء على صعيد العلاقات الثنائية بين بغداد وطهران، أو في إطار الوضع الإقليمي العام، والدور المفترض للبلدين في حلحلة أزمات المنطقة، وتقريب المواقف والتوجّهات بين الفرقاء.
صحيح أن الراحل السيد رئيسي زار بغداد قبل أكثر ثلاثة أعوام، بناء على دعوة رسمية تلقاها من نظيره العراقي في حينه، رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي فائق زيدان، إلا أن تلك الزيارة التي امتدت بضعة أيام، شهدت عشرات اللقاءات السياسية والشعبية، الرسمية وغير الرسمية، مع مختلف الشخصيات والفاعليات والنخب والفئات السياسية والدينية والاجتماعية العراقية، وتجاوزت الطابع البروتوكولي التقليدي، لتتّخذ طابعًا وديًا عفويًا في جانب كبير منه، ولترسم بالتالي انطباعات إيجابية لدى العراقيين عن الرئيس رئيسي، لا سيما كلماته المعبرة عن العلاقات والروابط الصميمية بين الشعبين العراقي والإيراني، التي قالها حينما زار موقع اغتيال الشهيدين القائدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد الدولي بعد وصوله إلى العراق مباشرة.
وبعدما تولى رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية عبر فوزه في الانتخابات التي جرت بعد شهور قلائل من زيارته للعراق، كان السيد رئيسي حريصًا دومًا على ترسيخ العلاقات بين البلدين الجارين على كلّ الصعد والمستويات، ولم يدّخر جهدًا في تقديم كلّ ما من شأنه معالجة المشاكل والأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي يعانيها العراق، والعمل على تفكيك القضايا العالقة بين بغداد وطهران. فضلًا عن تعزيز التعاون والتنسيق ضمن الفضاء الإقليمي العام لنزع فتيل التوترات وتطويق الأزمات فيه.
وبعد ثلاثة أعوام، كان من المقرر أن يتكرّر مشهد الزيارة التاريخية لرئيسي إلى العراق، وبالفعل بدأت التحضيرات والاستعدادات في طهران وبغداد، وكذلك في اربيل، منذ حوالي شهرين لإنجاح الزيارة التي كان مفترضًا أن تتم نهاية شهر أيار / مايو الجاري أو بداية شهر حزيران / يونيو المقبل.
فالوفود العراقية التي زارت طهران، والوفود الإيرانية التي زارت بغداد، ركزت على وضع وصياغة كلّ الترتيبات السياسية والفنية للزيارة، من حيث تهيئة مسودات مذكرات التفاهم والاتفاقيات التي كان من المرتقب ابرامها، وفقرات برنامج الزيارة في بغداد والنجف الاشرف وكربلاء المقدسة، إضافة إلى اربيل.
ولعل زيارة رئيس إقليم كردستان نيجرفان البارزاني الأخيرة لطهران مطلع الشهر الجاري، تمحورت في جانب منها حول أهمية وضرورة زيارة الرئيس رئيسي للعراق عمومًا ولإقليم كردستان على وجه الخصوص، لا سيما مع رغبة وتوجه الجانبين لإعادة العلاقات المتوترة نوعًا ما منذ عدة أعوام بينهما إلى مساراتها الصحيحة. بيد أن فاجعة سقوط مروحية السيد رئيسي ومرافقيه في محافظة اذربيجان الشرقية قبل خمسة أيام، والتي تسببت باستشهادهم جميعًا، قلبت الأمور رأسًا على عقب، وألغت كلّ ما تم التحضير والاعداد له.
رحيل السيد رئيسي، لا يعني بأي حال من الأحوال توقف المسير، فما أسس له الشهيد رئيسي وما سار عليه، وما كان مخطّطا أن يقوم به خلال زيارته للعراق، سيستمر ويتواصل، أولًا لأن هناك ثوابت ومحدّدات وسياسات وتوجهات، لا ترتبط أساسًا بأشخاص معينين، بقدر ما ترتبط بإرادات ونوايا وأهداف وغايات. وثانيًا، لأن إيران دولة مؤسسات، قد تتأثر بغياب ورحيل شخصيات بارزة وفاعلة ومؤثرة مثل الرئيس رئيسي والوزير حسين امير عبداللهيان وغيرهما، لكنّها لا تنهار ولا تسقط ولا تتلاشى، بل تواصل سيرها ومسيرها بواسطة الكثير من الكفوئين والمخلصين والحريصين والمضحين. وثالثًا، لأن تعزيز وتطوير وتمتين العلاقات مع العراق حكومة وشعبًا، يحظى باهتمام القيادة الإيرانية العليا، ويعد أولوية أساسية بالنسبة لها نظرًا للعديد من القوسم المشتركة، والمصالح المتبادلة، والتحديات المتشابهة.
وإذا كان القدر لم يمهل السيد رئيسي للمجيء إلى العراق، فإن هناك من سيأتي ليكمل ما بدأه وعمل عليه هو وغيره من القيادات والشخصيات الإيرانية على امتداد عقدين من الزمن.