تفسير الميزان : السيد الطباطبائي
4 ساعات مضت
القرآن الكريم
6 زيارة
في هذه الآيات يوجب القطع بان هؤلاء المؤمنين و (شأنهم هذا الشأن) فيهم بقية بعد لو تمت فيهم كانوا من الذين أنعم الله عليهم، وارتقوا من منزلة المصاحبة معهم إلى درجة الدخول فيهم ولعلهم نوع من العلم بالله، ذكره في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة – 11. فالصراط المستقيم أصحابه منعم عليهم بنعمة هي ارفع النعم قدرا، يربو على نعمة الايمان التام، وهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم. ثم انه تعالى على أنه كرر في كلامه ذكر الصراط والسبيل، لم ينسب لنفسه أزيد من صراط مستقيم واحد، وعد لنفسه سبلا كثيرة فقال عز من قائل: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) العنكبوت – 69. وكذا لم ينسب الصراط المستقيم إلى أحد من خلقه إلا ما في هذه الآية (صراط الذين أنعمت عليهم الآية) ولكنه نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: (قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة) يوسف – 108. وقال تعالى (سبيل من أناب إلي) لقمان – 15. وقال: (سبيل المؤمنين) النساء – 114. ويعلم منها: ان السبيل غير الصراط المستقيم فإنه يختلف ويتعدد ويتكثر باختلاف المتعبدين السالكين سبيل العبادة بخلاف الصراط المستقيم كما) يشير إليه قوله تعالى: (قد جائكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بأذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة – 16، فعد السبل كثيرة والصراط واحدا وهذا الصراط المستقيم اما هي السبل الكثيرة واما أنها تؤدي إليه باتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيها.
وأيضا قال تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) يوسف – 106.
فبين ان من الشرك (وهو ضلال) ما يجتمع مع الايمان وهو سبيل، ومنه يعلم أن السبيل يجامع الشرك، لكن الصراط المستقيم لا يجامع الضلال كما قال: ولا الضالين.
والتدبر في هذه الآيات يعطى ان كل واحد من هذه السبل يجامع شيئا من النقص أو الامتياز، بخلاف الصراط المستقيم، وان كلا منها هو الصراط المستقيم لكنه
(٣١)
غير الآخر ويفارقه لكن الصراط المستقيم يتحد مع كل منها في عين انه يتحد مع ما يخالفه، كما يستفاد من بعض الآيات المذكورة وغيرها كقوله: (وان اعبدوني هذا صراط مستقيم) يس – 61. وقوله تعالى: (قل انني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا) الانعام – 161. فسمى العبادة صراطا مستقيما وسمى الدين صراطا مستقيما وهما مشتركان بين السبل جميعا، فمثل الصراط المستقيم بالنسبة إلى سبل الله تعالى كمثل الروح بالنسبة إلى البدن، فكما ان للبدن أطوارا في حياته هو عند كل طور غيره عند طور آخر، كالصبي والطفولية والرهوق والشباب والكهولة والشيب والهرم لكن الروح هي الروح وهي متحدة بها والبدن يمكن ان تطرء عليه أطوار تنافي ما تحبه وتقتضيه الروح لو خليت ونفسها بخلاف الروح فطرة الله التي فطر الناس عليها والبدن مع ذلك هو الروح أعني الانسان، فكذلك السبيل إلى الله تعالى هو صراط المستقيم إلا ان السبيل كسبيل المؤمنين وسبيل المنيبين وسبيل المتبعين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو غير ذلك من سبل الله تعالى، ربما اتصلت به آفة من خارج أو نقص لكنهما لا يعرضان الصراط المستقيم كما عرفت ان الايمان وهو سبيل ربما يجامع الشرك والضلال لكن لا يجتمع مع شئ من ذلك الصراط المستقيم، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده، والجميع على الصراط المستقيم أو هي هو.
وقد بين الله سبحانه هذا المعنى، أعني: اختلاف السبل إلى الله مع كون الجميع من صراطه المستقيم في مثل ضربه للحق والباطل في كلامه، فقال تعالى: (انزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) الرعد – 17. فبين: ان القلوب والافهام في تلقي المعارف والكمال مختلفة، مع كون الجميع متكئة منتهية إلى رزق سماوي واحد، وسيجئ تمام الكلام في هذا المثل في سورة الرعد، وبالجملة فهذا أيضا نعت من نعوت الصراط المستقيم. 32 وإذا تأملت ما تقدم من نعوت الصراط المستقيم تحصل لك ان الصراط المستقيم
(٣٢)
مهيمن على جميع السبل إلى الله والطرق الهادية إليه تعالى، بمعنى ان السبيل إلى الله إنما يكون سبيلا له موصلا إليه بمقدار يتضمنه من الصراط المستقيم حقيقة، مع كون الصراط المستقيم هاديا موصلا إليه مطلقا ومن غير شرط وقيد، ولذلك سماه الله تعالى صراطا مستقيما، فان الصراط هو الواضح من الطريق، مأخوذ من سرطت سرطا إذا بلعت بلعا، كأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه ولا يدفعهم عن بطنه، والمستقيم هو الذي يريد ان يقوم على ساق فيتسلط على نفسه وما لنفسه كالقائم الذي هو مسلط على أمره، ويرجع المعنى إلى أنه الذي لا يتغير أمره ولا يختلف شأنه فالصراط المستقيم ما لا يتخلف حكمه في هدايته وايصاله سالكيه إلى غايته ومقصدهم قال تعالى: (فاما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما) النساء – 174. اي لا يتخلف أمر هذه الهداية، بل هي على حالها دائما، وقال تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون وهذا صراط ربك مستقيما) الانعام – 126. أي هذه طريقته التي لا يختلف ولا يتخلف، وقال تعالى: (قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) الحجر – 42. أي هذه سنتي وطريقتي دائما من غير تغيير، فهو يجري مجرى قوله: (فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) الفاطر – 42.
وقد تبين مما ذكرناه في معنى الصراط المستقيم أمور.
أحدها: ان الطرق إلى الله مختلفة كمالا ونقصا وغلائا ورخصا، في جهة قربها من منبع الحقية والصراط المستقيم كالاسلام والايمان والعبادة والاخلاص والاخبات، كما أن مقابلاتها من الكفر والشرك والجحود والطغيان والمعصية كذلك، قال سبحانه (ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون) الأحقاف – 19.
وهذا نظير المعارف الإلهية التي تتلقاها العقول من الله فإنها مختلفة باختلاف الاستعدادات ومتلونة بألوان القابليات على ما يفيده المثل المضروب في قوله تعالى:
(٣٣)
(انزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها الآية).
وثانيها: انه كما إن الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل، فكذلك أصحابه الذين مكنهم الله تعالى فيه وتولى أمرهم وولاهم أمر هداية عباده حيث قال: (وحسن أولئك رفيقا) النساء – 71. وقال تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) المائدة – 55. والآية نازلة في أمير المؤمنين علي صلى الله عليه وآله وسلم بالاخبار المتواترة وهو عليه السلام أول فاتح لهذا الباب من الأمة وسيجئ تمام الكلام في الآية.
وثالثها: إن الهداية إلى الصراط يتعين معناها بحسب تعين معناه، وتوضيح ذلك أن الهداية هي الدلالة على ما في الصحاح، وفيه ان تعديتها لمفعولين لغة أهل الحجاز، وغيرهم يعدونه إلى المفعول الثاني بإلى، وقوله هو الظاهر، وما قيل: ان الهداية إذا تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها، فهي بمعنى الايصال إلى المطلوب، وإذا تعدت بإلى فبمعنى إرائة، الطريق مستدلا بنحو قوله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) القصص – 56. حيث ث إن هدايته بمعنى ارائة الطريق ثابتة فالمنفى غيرها وهو الايصال إلى المطلوب قال تعالى: (وهديناهم صراطا مستقيما) النساء – 70. وقال تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى – 52.
فالهداية بالايصال إلى المطلوب تتعدى إلى المفعول الثاني بنفسها، والهداية بإرائة الطريق بإلى، وفيه ان النفي المذكور نفي لحقيقة الهداية التي هي قائمة بالله تعالى، لا نفي لها أصلا، وبعبارة أخرى هو نفي الكمال دون نفي الحقيقة، مضافا إلى أنه منقوض بقوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون: (يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) غافر – 38. فالحق انه لا يتفاوت معنى الهداية باختلاف التعدية، ومن الممكن ان يكون التعدية إلى المفعول الثاني من قبيل قولهم دخلت الدار.
وبالجملة فالهداية هي الدلالة وارائة الغاية بإرائة الطريق وهي نحو ايصال إلى المطلوب، وانما تكون من الله سبحانه، وسنته سنة الأسباب بإيجاد سبب ينكشف به المطلوب ويتحقق به وصول العبد إلى غايته في سيره، وقد بينه الله سبحانه بقوله: (فمن
(٣٤)
يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الانعام – 125. وقوله: (ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء) الزمر – 23. وتعدية قوله تلين بإلى لتضمين معنى مثل الميل والاطمينان، فهو ايجاده تعالى وصفا في القلب به يقبل ذكر الله ويميل ويطمئن إليه، وكما أن سبله تعالى مختلفة، فكذلك الهداية تختلف باختلاف السبل التي تضاف إليه فلكل سبيل هداية قبله تختص به.
وإلى هذا الاختلاف يشير قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) العنكبوت – 69. إذ فرق بين ان يجاهد العبد في سبيل الله، وبين أن يجاهد في الله، فالمجاهد في الأول يريد سلامة السبيل ودفع العوائق عنه بخلاف المجاهد في الثاني فإنه إنما يريد وجه الله فيمده الله سبحانه بالهداية إلى سبيل دون سبيل بحسب استعداده الخاص به، وكذا يمده الله تعالى بالهداية إلى السبيل بعد السبيل حتى يختصه بنفسه جلت عظمته.
ورابعها: ان الصراط المستقيم لما كان أمرا محفوظا في سبل الله تعالى على اختلاف مراتبها ودرجاتها، صح ان يهدي الله الانسان إليه وهو مهدي فيهديه من الصراط إلى الصراط، بمعنى أن يهديه إلى سبيل من سبله ثم يزيد في هدايته فيهتدي من ذلك السبيل إلى ما هو فوقها درجة، كما أن قوله تعالى: إهدنا الصراط (وهو تعالى يحكيه عمن هداه بالعبادة) من هذا القبيل، ولا يرد عليه: ان سؤال الهداية ممن هو مهتد بالفعل سؤال لتحصيل الحاصل وهو محال، وكذا ركوب الصراط بعد فرض ركوبه تحصيل للحاصل ولا يتعلق به سؤال، والجواب ظاهر.
وكذا الايراد عليه: بأن شريعتنا أكمل وأوسع من جميع الجهات من شرائع الأمم السابقة، فما معنى السؤال من الله سبحانه أن يهدينا إلى صراط الذين أنعم الله عليهم منهم؟ وذلك أن كون شريعة أكمل من شريعة أمر، وكون المتمسك بشريعة أكمل من المتمسك بشريعة أمر آخر ورائه، فان المؤمن المتعارف من مؤمني شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (مع كون شريعته أكمل وأوسع) ليس بأكمل من نوح وإبراهيم عليهما السلام مع كون شريعتهما أقدم وأسبق، وليس ذلك إلا ان حكم الشرائع والعمل بها غير حكم الولاية الحاصلة من التمكن فيها والتخلق بها، فصاحب مقام التوحيد الخالص وان كان من أهل الشرائع السابقة أكمل وأفضل ممن لم يتمكن من مقام التوحيد ولم تستقر
(٣٥)
2025-05-04