تفسير الميزان : السيد الطباطبائي
يومين مضت
القرآن الكريم
28 زيارة
الذي أشير إليه بقوله: (والذين يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك) فالمراد بالايمان بالغيب في مقابل الايمان بالوحي والايقان بالآخرة، هو الايمان بالله تعالى ليتم بذلك الايمان بالأصول الثلاثة للدين، والقرآن يؤكد القول على عدم القصر على الحس فقط ويحرص على اتباع سليم العقل وخالص اللب.
وقوله سبحانه: وبالآخرة هم يوقنون، العدول في خصوص الاذعان بالآخرة عن الايمان إلى الايقان، كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة الذي لا يجامع نسيانها، دون الايمان المجرد، فان الانسان ربما يؤمن بشئ ويذهل عن بعض لوازمه فيأتي بما ينافيه، لكنه إذا كان على علم وذكر من يوم يحاسب فيه على الخطير واليسير من أعماله لا يقتحم معه الموبقات ولا يحوم حوم محارم الله سبحانه البتة قال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) ص – 26. فبين تعالى: ان الضلال عن سبيل الله انما هو بنسيان يوم الحساب، فذكره واليقين به ينتج التقوى.
وقوله تعالى: أولئك على هدى من ربهم، الهداية كلها من الله سبحانه، لا ينسب إلى غيره البتة الا على نحو من المجاز كما سيأتي إن شاء الله، ولما وصفهم الله سبحانه بالهداية وقد قال في نعتها: (فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره): الانعام – 125، وشرح الصدر سعته وهذا الشرح، يدفع عنه كل ضيق وشح، وقد قال تعالى:
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر – 9، عقب سبحانه ههنا أيضا قوله: أولئك على هدى من ربهم، بقوله: وأولئك هم المفلحون الآية.
(بحث روائي) في المعاني عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب، قال: من آمن بقيام القائم عليه السلام انه حق.
أقول: وهذا المعنى مروي في غير هذه الرواية وهو من الجرى.
(٤٦)
وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) قال: ومما علمنا هم يبثون.
وفي المعاني عنه عليه السلام: في الآية: ومما علمناهم يبثون، وما علمناهم من القرآن يتلون.
أقول: والروايتان مبنيتان على حمل الانفاق على الأعم من انفاق المال كما ذكرناه.
(بحث فلسفي) هل يجوز التعويل على غير الادراكات الحسية من المعاني العقلية؟ هذه المسألة من معارك الآراء بين المتأخرين من الغربيين، وان كان المعظم من القدماء وحكماء الاسلام على جواز التعويل على الحس والعقل معا، بل ذكروا ان البرهان العلمي لا يشمل المحسوس من حيث إنه محسوس، لكن الغربيين مع ذلك اختلفوا في ذلك، والمعظم منهم وخاصة من علماء الطبيعة على عدم الاعتماد على غير الحس، وقد احتجوا على ذلك بان العقليات المحضة يكثر وقوع الخطأ والغلط فيها مع عدم وجود ما يميز به الصواب من الخطأ وهو الحس والتجربة المماسان للجزئيات بخلاف الادراكات الحسية فانا إذا أدركنا شيئا بواحد من الحواس اتبعنا ذلك بالتجربة بتكرار الأمثال، ولا نزال نكرر حتى نستثبت الخاصة المطلوبة في الخارج ثم لا يقع فيه شك بعد ذلك، والحجة باطلة مدخولة.
اولا: بأن جميع المقدمات المأخوذة فيها عقلية غير حسية فهي حجة على بطلان الاعتماد على المقدمات العقلية بمقدمات عقلية فيلزم من صحة الحجة فسادها.
وثانيا: بأن الغلط في الحواس لا يقصر عددا من الخطأ والغلط في العقليات، كما يرشد إليه الأبحاث التي اوردوها في المبصرات وسائر المحسوسات، فلو كان مجرد وقوع الخطأ في باب موجبا لسده وسقوط الاعتماد عليه لكان سد باب الحس أوجب والزم.
(٤٧)
وثالثا: ان التميز بين الخطأ والصواب مما لا بد منه في جميع المدر كات غير أن التجربة وهو تكرر الحس ليست آلة لذلك التميز بل القضية التجربية تصير إحدى المقدمات من قياس يحتج به على المطلوب، فانا إذا ادركنا بالحس خاصة من الخواص ثم اتبعناه بالتجربة بتكرار الأمثال تحصل لنا في الحقيقة قياس على هذا الشكل: ان هذه الخاصة دائمي الوجود أو اكثري الوجود لهذا الموضوع، ولو كانت خاصة لغير هذا الموضوع لم يكن بدائمي أو اكثري، لكنه دائمي أو اكثري وهذا القياس كما ترى يشتمل على مقدمات عقلية غير حسية ولا تجريبية.
ورابعا: هب ان جميع العلوم الحسية مؤيدة بالتجربة في باب العمل لكن من الواضح ان نفس التجربة ليس ثبوتها بتجربة أخرى وهكذا إلى غير النهاية بل العلم بصحته من طريق غير طريق الحس، فالاعتماد على الحس والتجربة اعتماد على العلم العقلي اضطرارا.
وخامسا: ان الحس لا ينال غير الجزئي المتغير والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلية وهي غير محسوسة ولا مجربة، فان التشريح مثلا انما ينال من الانسان مثلا افرادا معدودين قليلين أو كثيرين، يعطي للحس فيها مشاهدة ان لهذا الانسان قلبا وكبدا مثلا، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقل أو يكثر وذلك غير الحكم الكلي في قولنا: كل انسان فله قلب أو كبد، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحس والتجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتم لنا ادراك كلي ولا فكر نظري ولا بحث علمي، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحس في مورد يخص به كذلك التعويل فيما يخص بالقوة العقلية، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلية والمدرك لهذه الأحكام العامة، ولا ريب ان الانسان معه شئ شأنه هذا الشأن، وكيف يتصور ان يوجد ويحصل بالصنع والتكوين شئ شأنه الخطأ في فعله رأسا؟ أو يمكن ان يخطئ في فعله الذي خصه به التكوين؟
والتكوين انما يخص موجودا من الموجودات بفعل من الافعال بعد تثبت الرابطة الخارجية بينهما، وكيف يثبت رابطة بين موجود وما ليس بموجود أي خطأ وغلط؟
واما وقوع الخطأ في العلوم أو الحواس فلبيان حقيقة الامر فيه محل آخر ينبغي الرجوع إليه والله الهادي.
(٤٨)
(بحث آخر فلسفي) الانسان البسيط في أوائل نشأته حين ما يطأ موطأ الحياة لا يرى من نفسه إلا أنه ينال من الأشياء أعيانها الخارجية من غير أن يتنبه انه يوسط بينه وبينها وصف العلم، ولا يزال على هذا الحال حتى يصادف في بعض مواقفه الشك أو الظن، وعند ذلك يتنبه: انه لا ينفك في سيره الحيوي ومعاشه الدنيوي عن استعمال العلم لا سيما وهو ربما يخطئ ويغلط في تميزاته، ولا سبيل للخطأ والغلط إلى خارج الأعيان، فيتيقن عند ذلك بوجود صفة العلم (وهو الادراك المانع من النقيض) فيه.
ثم البحث البالغ يوصلنا أيضا إلى هذه النتيجة، فان ادراكاتنا التصديقية تحلل إلى قضية أول الأوائل (وهى ان الايجاب والسلب لا يجتمعان معا ولا يرتفعان معا) فما من قضية بديهية أو نظرية الا وهي محتاجة في تمام تصديقها إلى هذه القضية البديهية الأولية، حتى انا لو فرضنا من أنفسنا الشك فيها وجدنا الشك المفروض لا يجامع بطلان نفسه وهو مفروض، وإذا ثبتت هذه القضية على بداهتها ثبت جم غفير من التصديقات العلمية على حسب مساس الحاجة إلى اثباتها، وعليها معول الانسان في انظاره واعماله.
فما من موقف علمي ولا واقعة عملية إلا ومعول الانسان فيه على العلم، حتى أنه انما يشخص شكه بعلمه أنه شك، وكذا ظنه أو وهمه أو جهله بما يعلم أنه ظن أو وهم أو جهل هذا.
ولقد نشأ في عصر اليونانيين جماعة كانوا يسمون بالسوفسطائيين نفوا وجود العلم، وكانوا يبدون في كل شئ الشك حتى في أنفسهم وفي شكهم، وتبعهم آخرون يسمون بالشكاكين قريبوا المسلك منهم نفوا وجود العلم عن الخارج عن أنفسهم وافكارهم (ادراكاتهم) وربما لفقوا لذلك وجوها من الاستدلال.
منها: أن أقوى العلوم والادراكات (وهي الحاصلة لنا من طرق الحواس) مملوءة
(٤٩)
خطأ وغلطا فكيف بغيرها؟ ومع هذا الوصف كيف يمكن الاعتماد على شئ من العلوم والتصديقات المتعلقة بالخارج منا؟
ومنها: انا كلما قصدنا نيل شئ من الأشياء الخارجية لم ننل عند ذلك الا العلم به دون نفسه فكيف يمكن النيل لشئ من الأشياء؟ إلى غير ذلك من الوجوه.
والجواب عن الأول: أن هذا الاستدلال يبطل نفسه، فلو لم يجز الاعتماد على شئ من التصديقات لم يجز الاعتماد على المقدمات المأخوذة في نفس الاستدلال، مضافا إلى أن الاعتراف بوجود الخطأ وكثرته اعتراف بوجود الصواب بما يعادل الخطأ أو يزيد عليه، مضافا إلى أن القائل بوجود العلم لا يدعي صحة كل تصديق بل انما يدعيه في الجملة، وبعبارة أخرى يدعي الايجاب الجزئي في مقابل السلب الكلي والحجة لا تفي بنفي ذلك.
والجواب عن الثاني: أن محل النزاع وهو العلم حقيقته الكشف عن ما ورائه فإذا فرضنا أنا كلما قصدنا شيئا من الأشياء الخارجية وجدنا العلم بذلك اعترفنا بأنا كشفنا عنه حينئذ، ونحن إنما ندعي وجود هذا الكشف في الجملة، ولم يدع أحد في باب وجود العلم: انا نجد نفس الواقع وننال عين الخارج دون كشفه، وهؤلاء محجوجون بما تعترف به نفوسهم اعترافا اضطراريا في أفعال الحياة الاختيارية وغيرها، فإنهم يتحركون إلى الغذاء والماء عند احساس ألم الجوع والعطش، وكذا إلى كل مطلوب عند طلبه لا عند تصوره الخالي، ويهربون عن كل محذور مهروب عنه عند العلم بوجوده لا عند مجرد تصوره، وبالجملة كل حاجة نفسانية ألهمتها إليهم احساساتهم أوجدوا حركة خارجية لرفعها ولكنهم عند تصور تلك الحاجة من غير حاجة الطبيعة إليها لا يتحركون نحو رفعها، وبين التصورين فرق لا محالة، وهو ان أحد العلمين يوجده الانسان باختياره ومن عند نفسه والاخر انما يوجد في الانسان بايجاد أمر خارج عنه مؤثر فيه، وهو الذي يكشف عنه العلم، فاذن العلم موجود وذلك ما أردناه.
واعلم: أن في وجود العلم شكا قويا من وجه آخر وهو الذي وضع عليه أساس العلوم المادية اليوم من نفي العلم الثابت (وكل علم ثابت)، بيانه: ان البحث العلمي
(٥٠)
2025-08-04