الرئيسية / الاسلام والحياة / شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١

شرح نهج البلاغة – ابن أبي الحديد – ج ١

تلميذه، وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا، مثل كثير مما سبق.
وأما الرأي والتدبير: فكان من أسد الناس رأيا، وأصحهم تدبيرا، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار. وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث. وإنما قال أعداؤه: لا رأي له، لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه. وقد قال عليه السلام: لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يكن.
ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب.
وأما السياسة: فإنه كان شديد السياسة، خشنا في ذات الله، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به. وأحرق قوما بالنار، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي، وقطع جماعة وصلب آخرين.
ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان، وفي أقل القليل منها مقنع، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه.
* * * فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله، والرئيس المقتفى أثره.
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها،

(٢٨)

حاملا سيفه، مشمرا لحربه، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها! كان علي سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر.
وما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها: ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنفوا في ذلك كتبا، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه، وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي، انه سمع من السماء يوم أحد:
لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكة، قالوا:
قل أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسميه الشيخ.
وفي حديث عفيف الكندي، لما رأى (1) النبي صلى الله عليه وآله يصلى في مبدأ الدعوة، ومعه غلام وامرأة، قال: فقلت للعباس أي شئ هذا؟ قال: هذا ابن أخي، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام – وهو ابن أخي أيضا – وهذه الامرأة، وهي زوجته. قال: فقلت: ما الذي تقولونه أنتم؟ قال: ننتظر ما يفعل الشيخ – يعني أبا طالب. وأبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا، وحماه وحاطه كبيرا، ومنعه من مشركي قريش، ولقي لأجله عنتا عظيما، وقاسى بلاء شديدا، وصبر على نصره والقيام بأمره. وجاء في الخبر أنه لما توفى أبو طالب أوحى إليه عليه السلام وقيل له: اخرج منها، فقد مات ناصرك.
وله مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين، وأخاه جعفر ذو الجناحين، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: ” أشبهت خلقي وخلقي ” فمر يحجل
(١) الخبر في أسد الغابة ٣: ٤١٤ مع اختلاف في الرواية.
(٢٩)

فرحا. وزوجته سيدة نساء العالمين، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة، فآباؤه آباء رسول الله، وأمهاته أمهات رسول الله، وهو مسوط بلحمه ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم، إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبى طالب، وأمهما واحدة، فكان منهما سيد الناس، هذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر وهذا الهادي!.
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله.
ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا به، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون. وقد قال هو عليه السلام: أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس، وصليت قبل صلاتهم.
ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا. وإليه ذهب الواقدي، وابن جرير الطبري، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب ” الاستيعاب ” (1).
ولأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد، وجب أن نختصر ونقتصر، فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه، وبالله التوفيق (2).
(١) الإستيعاب لابن عبد البر النمري القرطبي ٢: ٤٥٧.
(٢) وانظر ترجمته وأخباره أيضا في أسد الغابة ٤: ١٦ – ٤٠، والاستيعاب ٢: ٢٥٦ – ٢٧٤، والإصابة ٤: ٢٦٩ – ٢٧١، وإنباه الرواة ١: ١٠ – ١٢، وتاريخ الاسلام للذهبي ٢: ١٩١ – ٢٠٧، وتاريخ بغداد ١: ١٣٣ – ١٣٨، وتاريخ أبي الفدا ١: ١٨١ – ١٨٢، وتاريخ الطبري ٦: ٨٨ – ٩١، وتاريخ ابن كثير ٧: ٣٣٢ – ٣٦١، و ٨: ١ – ١٣، وتذكرة الحفاظ ١: ١٠ – ١٣، وتهذيب الأسماء واللغات ١: ٣٤٤ – ٣٤٩، وتهذيب التهذيب ٧: ٣٣٤ – ٣٣٩، وحلية الأولياء ١: ٤٩ – ٥١، وصفة الصفوة ١: ١١٩ – ١٤٤، وطبقات ابن سعد ٦: ٦، وطبقات القراء لابن الجزري ١: ١٤٦ – ٥٤٧، ومروج الذهب ٢: ٤٥ – ٥٠، والمعارف ٨٨ – ٩٢، ومعجم الأدباء ١٤: ٤١ – ٥٠، ومعجم الشعراء ٢٧٩ – ٢٨٠، ومقاتل الطالبيين 24 – 45، والنجوم الزاهرة 1: 119 – 120.
(٣٠)

شاهد أيضاً

في بيان..الحرس الثوري يؤكد ان الرد على تهديدات الأعداء سيفوق تصوراتهم وسيكون اشد صرامة عما حدث سابقا

خلد البيان ذكرى وأسماء وذكرى شهداء الثورة الإسلامية والدفاع المقدس الأبرار، وخاصةً القادة والجنرالات الشهداء ...