کتاب المحجة البيضاء 1
ساعتين مضت
طرائف الحكم
8 زيارة
بسمه تعالى و له الحمد، و الصلاة على نبيّه و آله.
كان في هواجس ضميري أن أعقد جريا على ما تداول اليوم فصلا في أوّل هذا الكتاب القيّم الفخم، و أسبح في لجج هذا البحر اللّجيّ، و أبسط القول في أبحاثه الرّجراجة بالحقائق، غير أنّي قصير الباع لم أهتد إلى ما يهمّ بيانه سبيلا، و بينما كنت أغدو و أروح في فجوة الخيال نجز طبع الجزء الأوّل من الكتاب، فأخذت كراريسه بيدي و ساقني الحظّ السعيد إلى دار شيخنا الأكبر، علم العلم الخفّاق، رجل التحقيق و البحث و التنقيب، سماحة الحجّة المجاهد مولانا الأميني صاحب كتاب «الغدير» الأغرّ، فسألني عمّا بيدي فجرى ذكر الكتاب و أعربت عمّا في خلدي، فقال: قد ركبت الصعب المصعب، و إنّما يركب الصعب من لا ذلول له، و من المستساغ أن نجنح في عرفان مبلغ الكتب من الصحّة و السقم، و ما لها من القيمة في سوق الاعتبار إلى مقياس كلّي يوزن به كلّ كتاب و هو الفارق الوحيد بين «إحياء العلوم» و تهذيبه «المحجّة البيضاء» فارتجيت بيان ذلك، فتصفّح المطلب و أملى عليّ ما هذا لفظه حرفيّا:
إنّ سعادة الإنسان، و حياته الرّوحيّة، و قيمته في سوق الاعتبار إنّما أنيطت بأصول و دعائم، و معارف و معالم متّخذة من الكتاب و السنّة، و الدّعوة النبويّة هي الّتي تتكفّل بتلكم الغايات، و توجّه البشر إلى الحياة السعيدة، و الإنسانيّة السامية، و الفوز مع الأبد، و البعثة النبويّة الخاتمة بها تتمّ مكارم الأخلاق، و تعرف مسالك السعادة، و تحدو إلى سبل السلام، و مهيع السعد الخالد، و لا يتأتّى شيء من ذلك بالمزاعم، و لا يتطرّق إليه بالوهم و الخيال.
و الناسك الجاهل كالعالم المتهتّك قاصم الظهر، لا يهتدي إلى السعادة و الشقاوة
سبيلا، حتّى يولّي وجهه شطر الحقيقة، و ينحو نحوها، و لا تقرب عليه الخطوة، بل تقع منه في مرمى سحيق، و يخاف عليه الوبال، و هو منقاد بأهوائه و ميوله و شهواته السائدة، يخلق له الجهل ماهيّة مزعومة تجاه الحقيقة الراهنة، و يزحزحه عن مناهج السعد، و لا يرمي برأيه الشواكل، و لا يصيب وجوه الصواب، و هو يحسب أنّه يحسن صنعا، فينهمك في غمرة الشقاء، و تستعبده نفسه طيلة حياته إلى آخر نفس لفظه.
و العلم يهدي إلى الحقّ، و يعبّد طريق الصدق، و يتوطّد أصول السعد، و يدلّ على الصراط الواضح، و يدعو إلى المحجّة البيضاء، و يحدو إلى المنهج القويم، و يقود إلى جدد الصّدق و العدل، و يرى الناسك خاتمة الأمور ناصعة الجبين، سافرة الوجه، واضحة المعالم.
و الطريق الوحيد إلى السعادة مع الخلود هو ما مهّده النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمّته و عبّده بوصيّته المتعاقبة المكرّرة حينا بعد حين، و آونة بعد أخرى من استخلافه كتاب اللّه و عترته أهل بيته، و لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض. فمن اتّبعهما فقد اهتدى و أدرك رشده، و من حاد عنهما فقد ضلّ و هلك.
و هذا هو الباب المفتوح بمصراعيه الّذي منه يؤتى، ليس إلّا. و هذا هو باب مدينة العلم فحسب. فمن أراد المدينة فليأت الباب. فهنالك الحقيقة و الطريقة و الحكمة و الفقه و العرفان و الرواية و الدراية و العلم و الأدب و الفضيلة. و قد صدّق الخبر الخبر،
خبر أنا مدينة العلم و عليّ بابها
، أنا دار الحكمة و عليّ بابها،
أنا دار العلم و عليّ بابها،
أنا مدينة الفقه و عليّ بابها،
أنا ميزان العلم و عليّ كفّتاه،
أنا ميزان الحكمة و عليّ لسانه،
عليّ باب علمي، و مبيّن لأمّتي ما أرسلت به من بعدي، إلى أمثالها الكثير الطيّب.
و حرصا على صلاح الملإ الدّيني، و رغبة في الصالح العام، و شرها في نجح الأمّة و تسييرها إلى ما يحمد عقباه
كان مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام يعرب عن بعض ما أوتي به أهل بيته الطاهر و لم يؤت به أحد من العالمين بقوله: نعم: آل محمّد هم عيش العلم، و موت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، و ظاهرهم عن باطنهم، و صمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ، و لا يختلفون فيه، هم دعائم الإسلام،
و ولائج الاعتصام، بهم عاد الحقّ في نصابه، و انزح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدّين عقل وعاية و رعاية، لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل.
و بقوله: نحن شجرة النبوّة، و محطّ الرسالة، و مختلف الملائكة، و معادن العلم و ينابيع الحكم، ناصرنا و محبّنا ينتظر الرحمة، و عدوّنا و مبغضنا ينتظر السطوة.
و بقوله: نحن الشعار و الأصحاب، و الخزنة و الأبواب، و لا تؤتى البيوت إلّا من أبوابها، فمن أتاها من غير أبوابها سمّي سارقا.
و بقوله: فيهم كرائم القرآن، و هم كنوز الرحمن، إن نطقوا صدقوا و إن صمتوا لم يسبقوا.
و بقوله: هم موضع سرّه، و لجأ أمره، و عيبة علمه، و موئل حكمه، و كهوف كتبه، و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، و أذهب ارتعاد فرائصه.
و بقوله: لا يقاس بآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هذه الأمّة أحد، و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدّين، و عماد اليقين.
و بقوله: نحن أهل بيت النبوّة، و موضع الرسالة، و مختلف الملائكة، و عنصر الرحمة، و معدن العلم و الحكمة.
و بقوله: أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا؟ كذبا و بغيا علينا، أن رفعنا اللّه و وضعهم، و أعطانا و حرمهم، و أدخلنا و أخرجهم، بنا يستعطى الهدى، و يستجلى العمى، إنّ الأئمّة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم.
و بقوله: فأين يتاه بكم؟ و كيف تعمهون و بينكم عترة نبيّكم؟ و هم أزمّة الحقّ، و أعلام الدّين، و ألسنة الصدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن.
و بقوله: قد ركزت فيكم راية الإيمان، و وقفتكم على حدود الحلال و الحرام، و ألبستكم العافية من عدلي، و فرشتكم المعروف من قولي و فعلي، و أريتكم كرائم الأخلاق من نفسي، فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر، و لا يتغلغل إليه الفكر.
هذا غيض من فيض، فالسعيد الصدق، و الإلهيّ الصادق، و الأخلاقي الناجع الناصح الناجح، و السالك العارف الصحيح، و الحكيم البصير الناقد النابه، و الناسك الصالح من اتّبع آل اللّه، و اقتفى أثرهم، و حذا حذوهم، و لبّى دعوتهم، و اتّخذ بسيرتهم و اقتدى بهديهم.
ص6
2025-11-22