الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها
2 ـ علم الأخلاق
يتكلّم هذا العلم عن السلوك الحسن والقبيح والصفات المقبولة وغير المقبولة وبعبارة أخرى عن الفضائل والرذائل.
وكذلك يتحدّث عن الأعمال الّتي ينبغي فعلها أو تركها، وعن الصفات الّتي ينبغي تنميتها أو تحجيمها.
إنّ علم الأخلاق يبحث أيضاً عن صفاتٍ كالكرم والبخل والشجاعة والجبن والتي يمكن تحصيلها أو إزالتها باختيارنا وإرادتنا أو الّتي يمكن السيطرة عليها والتحكم بها.
وكذلك يتعرّض هذا العلم للسلوك الاختياري الناشىء عن تلك الصفات الداخلية الّتي تحدّد مسيرنا واتجاهنا وبالتالي تقوية هذه الصفات المحرّكة أو تضعيفها.
ونتعرّف في هذا العلم إلى قواعد عامّة لتقييم الصفات والسلوكيات الاختيارية والتي على أساسها نقوم بتقدير وتقييم صفاتنا وأعمالنا الاختيارية وكذلك صفات وأعمال الآخرين.
أي أنّه وبناءً على هذه الأسس والقواعد الأخلاقيّّة يمكن الحكم على أيّ عملٍ أو صفة بأنه حسن أو قبيح، وكذلك أيهما الصحيح وأيهما الخطأ، وكذلك المقبول منهما وغير المقبول، وما ينبغي فعله منهما وما لا ينبغي كذلك، وكما ترى فإنّ جميع هذه الأمور مفيدة في الوصول إلى الهدف المنشود من الحياة. وبشكل مختصر يمكن القول إنّ علم الأخلاق هو ذلك العلم الّذي يتكلم عن قيمة الصفات والسلوكيات الاختيارية وضرورة1 وجودها عند الإنسان [4].
1- سوف نتكلّم في الفصل الثالث تفصيلاً عن مفهوم القيمة والضرورة بشكل عام وعن القيمة والضرورة في الأخلاق بشكل خاص. وقبل الوصول إلى تحقيق المراد منهما سوف نكتفي في بحوثنا الحالية بالمفهوم الارتكازي عندنا عن القيمة واللزوم الأخلاقيّين وبقليل من المسامحة نعبر عنهما بالحسن والقبيح وما يجب وما لا يجب.
19
15
الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها
3 ـ فلسفة الأخلاق
1 ـ 3. الأسئلة الأساسية في مجال الأحكام الأخلاقيّّة
تعرفنا حتى الآن إلى علم الأخلاق وأهميّته. لكن في الحقيقة هناك آراء ونظريات متعدّدة حول تعريف القيم والضرورات الأخلاقيّّة والتي تختلف فيما بينها في مجال تقييم الصفات والأفعال الاختيارية وضرورتها ولزومها. وها هنا ومن أجل تحصيل الهدف الهام الّذي نسعى إليه يجب علينا معرفة أيّ واحد نختار من بين هذه المذاهب الأخلاقيّّة:
ومجدّداً نعود إلى أحكامنا القيميّة والّتي قُبلت على أساس القواعد الأخلاقيّّة عندنا والّتي سوف نستفيد فيها من كلمات نظير: “الحسن” “القبيح” “يجب” و”لا يجب”.
وهنا نسأل: ما هو معنى هذه الكلمات بالدقّة؟ وأيّ شيء تُخبر؟ وهل الحسن والقبح صفتان واقعيّتان لأفعالنا وصفاتنا؟ وهل يمكن إثبات القواعد الأخلاقيّّة كما نُثبت القوانين الفيزيائية والقواعد الهندسية؟ وهل يمكن على أساسها تشييد مذهب أخلاقيّ قوي يمكن الدفاع عنه؟ وهل يمكن تقييم القواعد الأخلاقيّّة بناءً على ملاكات واقعيّة وثابتة أم أنّ مبنى تقييم هذه القواعد أمور متغيرة لا ثبات لها؟ وهل أنّ الأخلاق مطلقة أم أنها نسبية؟
وفي الحقيقة فإنّ تحقيق هذه الأسئلة والإجابة عنها لا يرتبطان بعلم الأخلاق [5]، لأنّ هذا العلم يفترض مسبقاً أنّنا نعرف معنى الحسَن والقبيح، وكذلك فإنّ هذا العلم يمتلك قواعد أخلاقيّّة خاصّة به ويمكن القبول بها، وإنّما نسعى نحن فقط إلى المعرفة التفصيلية بها.
إنّ علم الأخلاق يقدّم لنا جدولاً من الأفعال والصفات الحسنة والقبيحة، إلّا أنّه لا يأخذ على عاتقه بالضرورة لزوم الدفاع العقلاني عن جداوله، ولو كان هذا الأمر ضرورياً ولازماً فلا بد من الذهاب إلى علم آخر وطلب الإعانة منه [6].
20
16
الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها
2 ـ 3. ضرورة الإجابة عن الأسئلة السابقة
ما هي أهميّة وضرورة معرفة الإجابة عن هذه الأسئلة؟ أوليس علم الأخلاق كافياً لنا للقيام بالأعمال الحسنة والابتعاد عن الأعمال القبيحة والسيئة؟ أوليس كافياً لنا لامتلاك الصفات الفاضلة وتهذيب أنفسنا من الصفات الرذيلة؟ لأجل إدراك أهميّة الإجابة عن هذه الأسئلة سوف نتصوّر مرّة أخرى واقعة افتراضية:
في هذه الواقعة ليس لدينا أيّ اطلاع على الإجابة عن أيّ سؤال جديد أيّ أنّنا لا نعرف ما معنى الحسن وما معنى القبيح، ولا نعرف أنّ القواعد الأخلاقيّّة مطلقة أو نسبية، وهل أنّ أحكامنا القيميّة صحيحة أم لا، وكذلك لا نعرف أيّ واحد هو المقبول والمعتبر من بين المذاهب الأخلاقيّّة المختلفة، وأيضاً كما نحتمل أنّ القواعد الأخلاقيّّة تشبه البيانات العلمية بحيث يمكن إثباتها، وأنها مبينة للحقائق العلمية، كذلك نحتمل أنها مجرد بيان لأحاسيسنا الداخلية أو أنها ناشئة عن نوع من التوافق والعقود الاجتماعية – كما نشير إلى توضيحها في الفصول اللاحقة – وفي هذه الصورة لا يمكننا الاطمئنان بدقّة إلى ما نصدره من أحكام وقرارات، وفي النتيجة سوف نتردد فيما نختاره ونقرره وسوف نتهاون في حفظ وحماية قيمنا الّتي قبلناها، ومضافاً إلى ذلك فإنّه في مثل هذه الواقعة لن يكون معقولاً أنّ ندافع عن آرائنا وبالتالي إثبات صحة قراراتنا للآخرين.
إذا لم تكن القيم الأخلاقيّّة ذات ملاكات واقعيّة وثابتة لا تتغير، وكانت مبتنَية على السلائق الفردية أو الجمعية فحينئذٍ لن يكون مفيداً أيّ سعي فكري أو نظري لتحقيق الهدف المنشود من الحياة وتأمين الطرق الموصلة إلى هذا الهدف، وكذلك لن يكون مفيداً أيّ بحث وحوار لإثبات قيمنا المقبولة عندنا وردّ تلك القيم الّتي لا نقبلها.
وكذلك سوف يكون أيّ نوعٍ من الجهاد العملي في سبيل حفظ قيمنا المختارة وتوطيدها في المجتمع ومواجهة الغزو الثقافي والقيم المعارضة والمنحرفة أمراً غير معقول.
ومن ثمّ فإنّ هذه القيم إذا لم تكن ذات ملاكات ثابتة سيؤثر ذلك بشكل مباشر على
21
17
الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها
مقدار اطمئناننا في التشخيص الصحيح لهذه الملاكات في ميزان اهتمامنا بحفظ هذه القيم، ونشرها.
نعم من المقطوع به أنّ عامة الناس تمتلك مثل هذه القرارات والأحكام القيميّة ولديها إجاباتها عن مثل هذه الأسئلة وبالتالي تحكم بناءً على هذه الإجابات على الرغم من كونها مجملة أحياناً أو أنها لا تستند إلى علم خاص أو معرفة باصطلاحات ذلك العلم، ولذا فإنّنا نراهم يقبلون بتسرّعٍ بعض تلك الأحكام والقرارات أو يرفضونها كذلك.
إلّا أنّه ولأجل الاطمئنان والتأكّد من صحّة أحكامنا فإنّنا نحتاج حتماً إلى تحليلها بشكل علمي، وتأكيداً لذلك نقول إنّ عامة الناس يستدلّون لإثبات مراداتهم مع أنّه من الممكن عدم تعلّمهم قواعد الاستدلال في علم المنطق، إلّا أنّه وللاطمئنان على صحة الاستدلال وللحذر من الوقوع في فخ المغالطات لا بد لنا من الاطلاع بشكل علمي على قواعد الاستدلال في علم المنطق.
3 ـ3. فلسفة الأخلاق هي الجواب عن الأسئلة المذكورة
وكما أشرنا فإنّ علم الأخلاق يبتدىء عمله مع هذا الافتراض المسبق وهو امتلاكنا لإجابات – ورغم كونها إجمالية – عن تلك الأسئلة المذكورة، وهذا يعني أنّ البحوث المرتبطة بالإجابة عنها مقدّمة على بحوث علم الأخلاق، ولذا لو أردنا تقديم تحقيق هذه الإجابات ضمن علم مستقلٍ فإنّ مثل هذا العلم سيكون مقدّمة للدخول إلى علم الأخلاق لأنّه في الحقيقة يبحث عن أصوله ومبانيه وبالاصطلاح عن مبادىء علم الأخلاق.
وبناءً عليه فإنّ العلم الّذي يبحث عن مبادىء علم آخر يسمى “فلسفة” ذلك العلم ولذا يسمى العلم الّذي نبحث عنه بـ”فلسفة الأخلاق”1.
هذا ومن الواضح أنّ “الحسن” و”القبيح” و”القواعد الأخلاقيّّة” و”الواقعيّّة أو
1- Ethics or Moral Philosophy.
22
18
الفصل الأول: تعريف فلسفة الأخلاق ومكانتها
اللاواقعيّة في القيم والضرورات الأخلاقيّّة” وكذلك “ثبوت أو عدم ثبوت القواعد الأخلاقيّّة” و”الاطلاق والنسبيّة في الأخلاق” وأمثال هذه المفاهيم ليست أموراً حسية يمكن مشاهدتها، ولذا فإنّ المنهج التجريبي لن يكون مؤثّراً بشكل مباشر في حلّ مسائل هذا العلم [7].
وبناءً عليه فإنّ المنهج المتّبع في تحقيق هذا العلم سيكون منهجاً عقلياً.
فلسفة الأخلاق تحقيق فلسفيّ (عقليّ) حول المبادىء التصوريّة والتصديقيّة لعلم الأخلاق.
أي أنّه يبحث في هذا العلم من وجهٍ طرفٍ ما حول مفاهيم “الحسن”، “القبح”، “يجب” و “لا يجب” – والّتي يستفاد منها في التعابير الأخلاقيّّة – وارتباطها مع الواقعيّات، ومن وجهٍ آخر يحقق فيه حول الأصول المؤثّرة في قبول أو عدم قبول الأمور الأخلاقيّّة اللازمة أو في كيفية اختيار المذهب الأخلاقيّ المطلوب، كلّ ذلك بناءً على المنهج العقلي والاستدلالي.
الخلاصة
1 ـ الأحكام القيميّة موجودة في حياتنا اليومية، وتشير إلى هدفنا في الحياة، وتعتبر من العوامل المساهمة في قيامنا بالأعمال المختلفة وفي تحقيق هدفنا في الحياة.
2 ـ تنقسم العوامل المؤثّرة في قراراتنا للقيام بالأفعال الاختيارية إلى قسمين: العوامل الخارجية – كالثقافة والآداب والتقاليد الاجتماعية، والأصدقاء، والمعلمين ووسائل الإعلام ـ، والعوامل الداخلية نظير الصفات النفسانية.
23
19