كمال الدين وتمام النعمة 2
3 ساعات مضت
الاسلام والحياة
6 زيارة
الخليفة قبل الخليفة ١
اما بعد فانَّ الله تبارك وتعالى يقول في محكم كتابه: « وإذ قال ربّك للملئكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفة – الاية » (2)
فبدأ عزّ وجلّ بالخليفة قبل الخليقة، فدلَّ ذلك على أنَّ الحكمة في الخليفة أبلغ من الحكمة في الخليقة، فلذلك ابتدأ به لانّه سبحانه حكيم، والحكيم من يبدء بالاهمِّ دون الأعمِّ، وذلك تصديق قول الصادق جعفر بن محمّد عليهماالسلام حيث يقول:
« الحجّة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق » ولو خلق الله عزّ وجلّ الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرضهم للتلّف، ولم يردع السّفيه عن سفهه بالنوع الذي توجب حكمته من اقامة الحدود وتقويم المفسد. واللّحظة الواحدة لا تسوغ الحكمة ضرب صفح عنها (3)،
إنّ الحكمة تعمُّ كما أن الطاعة تعمُّ، ومن زعم أن الدنيا تخلو ساعة من إمام لزمه أن يصحح مذهب البراهمة في إبطالهم الرسالة، ولو لا أنَّ القرآن نزل بأنَّ محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم خاتم الانبياء لوجب كون رسول في كلَّ وقت، فلمّا صح ذلك لارتفع معنى كون الرَّسول بعده وبقيت الصورة المستدعية للخليفة في العقل،
وذلك أنَّ الله تقدس ذكره لا يدعو إلى سبب إلّا بعد أن يصور في العقول حقائقه، وإذا لم يصوّر ذلك لم تتّسق الدعوة ولم تثبت الحجّة، وذلك أنَّ الاشياء تألف أشكالها، وتنبو عن أضدادها. فلو كان في العقل إنكار الرُّسل لما بعث الله عزّ وجلّ نبيّاً قط.
مثال ذلك الطبيب يعالج المريض بما يوافق طباعه، ولو عالجه بدواء يخالف طباعه أدّى ذلك ألى تلفه، فثبت أن الله أحكم الحاكمين لا يدعو إلى سبب إلّا وله في
__________________
(1) العنوان هنا وما يأتي في المقدمة منا أضفناها تسهيلا للباحثين.
(2) البقرة: 30.
(3) يعنى عن اقامة الحدود.
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 5
العقول صورة ثابتة، وبالخليفة يستدلُّ على المستخلف كما جرت به العادة في العامة والخاصة، وفي المتعارف متى استخلف ملك ظالماً استدلَّ بظلم خليفته على ظلم مستخلفه وإذا كان عادلاً استدل بعدله على عدل مستخلفه، فثبت أنَّ خلافة الله توجب العصمة ولا يكون الخليفة إلّا معصوماً.
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 6
وجوب طاعة الخليفة
ولمّا استخلف الله عزّ وجلّ آدم في الأرض أوجب على أهل السماوات الطاعة له فكيف الظنُّ بأهل الأرض، ولمّا أوجب الله عزّ وجلّ على الخلق الايمان بملائكة الله وأوجب على الملائكة السجود لخليفة الله، ثمَّ لمّا امتنع ممتنع من الجنِّ عن السّجود له أحلَّ به الذل والصغار والدِّمار، وأخزاه ولعنه إلى يوم القيامة،
علمنا بذلك رتبة الامام وفضله، وانَّ الله تبارك وتعالى لمّا أعلم الملائكة أنّه جاعل في الأرض خليفة أشهدهم على ذلك لان العلم شهادة فلزم من ادَّعى أنَّ الخلق يختار الخليفة أن تشهد ملائكة الله كلّهم عن آخرهم عليه، والشهادة العظيمة تدلُّ على الخطب العظيم كما جرت به العادة في الشاهد فكيف وأنّى ينجو صاحب الاختيار من عذاب الله وقد شهدت عليه ملائكة الله أوّلهم وآخرهم، وكيف وأنى يعذّب صاحب النصِّ وقد شهدت له ملائكة الله كلهم.
وله وجه آخر وهو أنَّ القضية في الخليفة باقية إلى يوم القيامة، ومن زعم أنّ الخليفة أراد به النبوَّة فقد أخطأ من وجه، وذلك أنّ الله عزّ وجلّ وعد أن يستخلف من هذه الاُمّة (الفاضلة) خلفاء راشدين كما قال جلَّ وتقدَّس:
« وعد الله الّذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئا » (1) ولو كانت قضية الخلافة قضية النبوّة أوجب حكم الاية أن يبعث الله عزّ وجلّ نبيا بعد محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وما صح قوله: « وخاتم النبيّين » (2) فثبت
__________________
(1) النور: 55.
(2) الاحزاب: 40.
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 7
أنَّ الوعد من الله عزَّ وجلَّ ثابت من غير النبوَّة وثبت أنَّ الخلافة تخالف النبوَّة بوجه وقد يكون الخليفة غير نبيِّ ولا يكون النبيُّ إلّا خليفة.
وآخر: هو أنَّه عزَّ وجلَّ أراد أن يظهر باستعباده الخلق بالسجود لآدم عليهالسلام نفاق المنافق وإخلاص المخلص كما كشفت الأيّام والخبر عن قناعيهما أعني ملائكة الله والشيطان، ولو وكل ذلك المعنى – من اختيار الامام – إلى من أضمر سوءا لما كشفت الأيّام عنه بالتعرُّض، وذلك أنَّه يختار المنافق من سمحت نفسه بطاعته والسجود له، فكيف وأنّى يوصل إلى ما في الضمائر من النفاق والاخلاص والحسد والدَّاء – الدَّفين.
ووجه آخر: وهو أنَّ الكلمة تتفاضل على أقدار المخاطب والمخاطَب، فخطاب الرَّجل عبده يخالف خطاب سيّده، والمخاطب كان الله عزَّ وجلَّ، والمخاطَبون ملائكة الله أوَّلهم وآخرهم، والكلمة العموم لها مصلحة عموم كما أنَّ الكلمة الخصوص لها مصلحة خصوص، والمثوبة في العموم أجل من المثوبة في الخصوص كالتوحيد الّذي هو عموم على عامّة خلق الله يخالف الحجَّ والزَّكاة وسائر أبواب الشرع الّذي هو خصوص فقوله عزَّ وجلَّ:
« وإذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة » دلَّ على أنَّ فيه معنى من معاني التوحيد لما أخرجه مخرج العموم، والكلمة إذا جاورت الكلمة في معنى لزمها ما لزم أختها إذا جمعهما معنى واحد، ووجه ذلك أنَّ الله سبحانه علم أنَّ من خلقه من يوحده ويأتمر لامره، وأن لهم أعداء يعيبونهم ويستبيحوا حريمهم، ولو أنَّه عزَّ وجلَّ قصر الايدي عنهم جبراً وقهراً لبطلت الحكمة وثبت الاجبار رأساً (1)،
وبطل الثواب والعقاب والعبادات، ولمّا استحال ذلك وجب أن يدفع عن أوليائه بضرب من الضروب لا تبطل به ومعه العبادات والمثوبات فكان الوجه في ذلك إقامة الحدود كالقطع والصلب والقتل والحبس وتحصيل الحقوق كما قيل: « ما يزع السّلطان أكثر
__________________
(1) في بعض النسخ « لبطلت الحكمة وتنيه الاختيار ». وفي بعضها « وفائدة الاختيار » وفي بعضها « وتب الاختيار ».
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 8
ممّا يزع القرآن » (1)
وقد نطق بمثله قوله عزَّ وجلَّ: « لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله » (2)
فوجب أن ينصب عزَّ وجلَّ خليفة يقصر من أيدي أعدائه عن أوليائه ما تصحُّ به ومعه الولاية لانّه لاولاية مع من أغفل الحقوق وضيّع الواجبات ووجب خلعه في العقول.
جلَّ الله تعالى عن ذلك، والخليفة اسم مشترك لانّه لو أنَّ رجلاً بنى مسجداً ولم يؤذِّن فيه ونصب فيه مؤذِّنا كان مؤذِّنه، فأمّا إذا أذن فيه أياما ثم نصب فيه مؤذنا كان خليفته، وكذلك الصورة في العقول والمعارف متى قال البندار: (3)
هذا خليفتي كان خليفته على البندرة لا على البريد والمظالم، فكذلك القول في صاحبي البريد والمظالم، فثبت أنَّ الخليفة من الاسماء المشتركة، فكان من صفة الله تعالى ذكره الانتصاف لاوليائه من أعدائه، فوكل من ذلك معنى إلى خليفته فلهذا الشأن استحقَّ معنى الخليفة دون معنى أن يتّخذ شريكاً معبوداً مع الله سبحانه، ولهذا من الشأن قال الله تبارك وتعالى لابليس: « يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت » ثمّ قال: عزَّ وجلَّ « بيدي أستكبرت » (4)
وذلك أنَّه يقطع العذر ولا يوهم أنَّه خليفة شارك الله في وحدته، فقال: بعد ما عرفت أنَّه خلق الله ما منعك أن تسجد، ثمّ قال: « بيدي أستكبرت » (5)
واليد في اللغة قد تكون بمعنى النعمة وقد كان الله عزَّ وجلَّ عليه نعمتان حوتا نعما (6)
كقوله عزَّ وجلَّ « وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة » (7)
وهما نعمتان حوتا
__________________
(1) أي ما يمنع الحاكم أكثر مما يمنع القرآن.
(2) الحشر: 13.
(3) البندار – بضم الميم -: من بيده ديوان الخراج، ويقال لمحمد بن بشار البصري: « بندار » لانه جمع حديث أهل بلده.
(4) سورة ص: 75 وتمامها « أم كنت من العالين ».
(5) يعنى الباء في قوله « بيدى » ليست متعلقة بخلقت حتى تكون اليد بمعنى القدرة، بل متعلقة بفعل متأخر هو قوله « استكبرت ». أقول: وفيه مالا يخفى لان الهمزة للاستفهام بقرينة « أم » وشأنها الصدر وعليه فلا يصح أن يكون ما قبلها معمولا لما بعدها كما حقق في محله، وفي حديث عن الرضا عليهالسلام قال: يعني بقدرتي وقوتي.
(6) في بعض النسخ « جرتا نعما » وكذا ما يأتي.
(7) لقمان: 20.
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 9
نعماً لا تحصى، ثمّ غلّظ عليه القول بقوله عزَّ وجلَّ: « بيديَّ استكبرت » كقول القائل بسيفي تقاتلني وبرمحي تطاعنني، وهذا أبلغ في القبح وأشنع، فقوله عزَّ وجلَّ:
« وإذ قال ربّك للملئكة إنّي جاعل في الأرض خليفة » كانت كلمة متشابهة أحد وجوهها أنَّه يتصور عند الجاهل أنَّ الله عزَّ وجلَّ يستشير خلقه في معنى التبس عليه ويتصوَّر عند المستدلَّ إذا استدل على الله عزَّ وجلَّ بأفعاله المحكمة وجلالته الجليلة أنَّه جلَّ عن أن يلتبس عليه معنى أو يستعجم عليه حالٌ فانّه لا يعجزه شيء في السماوات والارض والسبيل في هذه الاية المتشابهة كالسبيل في أخواتها من الايات المتشابهات أنّها تردُّ إلى المحكمات ممّا يقطع به ومعه العذر للمتطرِّق إلى السفه والالحاد.
فقوله: « وإذ قال ربّك للملئكة إنّى جاعل في الأرض خليفة » يدلُّ على معنى هدايتهم لطاعة جليلة مقترنة بالتوحيد، نافية عن الله عزَّ وجلَّ الخلع والظلم وتضييع الحقوق وما تصحُّ به ومعه الولاية، فتكمل معه الحجّة، ولا يبقى لاحد عذر في إغفال حق.
واخرى أنَّه عزَّ وجلَّ إذا علم استقلال أحد من عباده لمعنى من معاني الطّاعات ندبه له حتّى تحصل له به عبادة ويستحقُّ معها مثوبة على قدرها ما لو أغفل ذلك جاز أن يغفل جميع معاني حقوق خلقه أوَّلهم وآخرهم، جلَّ الله عن ذلك. فللقوَّ ام بحقوق الله وحقوق خلقه مثوبة جليلة متى فكّر فيها مفكر عرف أجزاءها إذ لا وصول إلى كلّها لجلالتها وعظم قدرها، وأحد معانيها وهو جزءٌ من أجزائها أنَّه يسعد بالامام العادل النملة والبعوضة والحيوان أوَّلهم وآخرهم بدلالة قوله تعالى: « وما أرسلناك إلّا رحمة للعالمين » (1).
ويدل على صحة ذلك قوله عزَّ وجلَّ في قصة نوح عليهالسلام: « فقلت استغفروا ربّكم أنَّه كان غفّاراً * يرسل السماء عليكم مدرارا – الآية » (2). ثمَّ من المدرار ما ينتفع به الانسان وسائر الحيوان، وسبب ذلك الدُّعاة إلى دين الله والهداة إلى حق الله، فمثوبته على أقداره، وعقوبته على من عانده بحسابه. ولهذا نقول: إنَّ
__________________
(1) الانبياء: 107.
(2) نوح: 10 – 12.
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 10
الامام يحتاج إليه لبقاء العالم على صلاحه.
وقد أخرجت الاخبار التي رويتها في هذا المعنى في هذا الكتاب في باب العلّة الّتي يحتاج من أجلها إلى الامام.
كمال الدين وتمام النعمة – صفحة 11
2025-10-28