المحور الأوّل: الإعداد الروحي العامّ
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها * وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾ (الشمس: ٩ و١٠).
حديثنا في مستهلّ هذه الدورة المباركة في هذا الشهر الكريم في هذا البلد الكريم(١) سيكون عن الإعداد الروحي بلحاظ زمن الظهور، إذ يراد التعرّض لجملة من المواضيع المرتبطة بالإعداد الروحي للمؤمن الذي ينتظر الفرج ويهيّئ نفسه لنصرة الإمام المهدي (عليه السلام).
الإعداد الروحي للمؤمن تارةً يُنظر إليه كجهد ضروري لكلّ مؤمن بهدف الوصول إلى الكمال والرقي بشكل عامّ، وأخرى بما هو مقدّمة من مقدّمات التهيّؤ للظهور، الإعداد الروحي هو تعبير آخر عن التزكية التي ذكرها القرآن الكريم: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها﴾,
فالتزكية بشكل عامّ هي هدف مقدَّس لكافّة المؤمنين, وكلّ إنسان مؤمن، وهو في أيّ مرحلة من مراحل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) شهر رمضان المبارك من العام (١٤٢٦هـ)، في البلدة الطيّبة النجف الأشرف على مشرّفها آلاف التحيّة والسلام.
الإعداد الروحي لعصر الظهور – صفحة 4
حياته, وفي أيّ مقطع من مقاطع التاريخ, مطالَب بأن يزكّي نفسه، وهذا أمر نحن مطالبون به أيضاً كما طولب به المؤمنون في صدر الإسلام والمؤمنون التابعون بعد ذلك، وهكذا كلّ طبقات المسلمين كانوا يقرؤون هذه الآية ويفهمون منها ذلك المعنى، ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها﴾.
إذن التزكية أمر مطلوب للجميع، هدف للجميع، وواجب على الجميع.
وتارةً ننظر إلى التزكية من وجهة نظر الظهور، أو من هذه الزاوية، زاوية التهيّؤ والاستعداد لنصرة الإمام المهدي (عليه السلام) والمشاركة في نشر العدل في الأرض تحت راية الإمام المنتظر (عليه السلام).
إذن هنا مقامان:
المقام الأوّل: التزكية بشكل عامّ، أي الإعداد الروحي الضروري في كلّ زمان ومكان واللازم لكلّ مكلَّف، وهو أمر مطلوب واجب على كلّ المسلمين في جميع العصور.
والمقام الثاني: إعداد روحي وتزكية بالشكل الخاصّ الذي يرتبط بمشروع الإمام المهدي في إصلاح الناس وإصلاح الأرض ونشر العدل، وحديثنا سيبدأ بالمقام الأوّل، وينتهي بالمقام الثاني.
أُريد أن أُفهرس الحديث لكي يكون مسيرنا فيه واضحاً، كيف سنتحدَّث عن هذه المسألة – مسألة التزكية – في مراحلها العديدة؟
الإعداد الروحي لعصر الظهور – صفحة 5
المعالم الأساسية لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) في الإعداد الروحي:
الأمر الأوّل الذي سنتحدَّث فيه: التعرّض لطريقة أهل البيت (عليهم السلام) في إعداد وتزكية المؤمن روحياً، والفرق بين هذه الطريقة وبين طريقة غيرهم من المتصوّفة والعرفاء، وهذا عنوان مهمّ جدّاً سوف نبدأ به الحديث.
أهل البيت (عليهم السلام) كما تعلمون هم أئمّة الخلق، وهم المفسّرون الشرعيون لهذا القرآن الكريم، ونحن نعتقد أنَّهم لم يتركوا شيئاً ممَّا يهمّ الإنسان في حياته صغيراً كان أو كبيراً، إلاَّ وتناولوه بتعاليمهم وأرشدوا إلى جوانب صلاحه وحذَّروا من عواقب فساده.
ومن تلك المواضيع المهمّة, موضوع التزكية الذي هو من الأمور الخطيرة في حياة الإنسان.
التزكية تعني: إعادة صياغة الروح، إعادة صياغة النفس، السيطرة على النفس بكلّ جوانبها لإعادتها إلى (خالص الإنسانية)، والذي هو بالنتيجة (حقيقة العبودية لله تعالى)، وهذا أمر ليس بالهيّن، أمرٌ مهمّ للغاية أن يكون الإنسان قادراً على السيطرة على نفسه، وعلى التحكّم في غرائزه، وعلى إعادة صياغة روحه، ليعود بها إلى حدود الفطرة، ويبقيها على حقيقة الإنسانية.
لا يمكن أن نفترض أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) تركوا هذا الأمر
الإعداد الروحي لعصر الظهور – صفحة 6
سدى ولم يتعرَّضوا له, أو أنَّهم كانوا حياديين تجاهها, فلم يكن عندهم طريقة خاصّة للتهذيب وأسلوب خاصّ للتزكية، لا بدَّ وأن نعترف بأنَّ التزكية واجب على المؤمن، وقد أرشد القرآن الكريم الناس إلى الأسلوب الصحيح لتحقيق ذلك، وأكمل أهل البيت (عليهم السلام) ذلك البيان القرآني ببياناتهم ورواياتهم حول هذا الأمر.
إذن يجب أن نعلم أنَّ لأهل البيت (عليهم السلام) طريقة خاصّة في التزكية هي طريقة القرآن نفسه، وهي تختلف عن الطرق الأخرى التي راجت في العصور السابقة بين الطوائف الإسلاميّة المختلفة، من تصوّف، ومن عرفان، وبقيت ذيولها إلى يومنا هذا. فما هي إذن طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في التزكية؟ هذا أمر مهمّ يجب أن نتعرَّف عليه.
والجواب: هو أنَّ أسلوب أهل البيت (عليهم السلام) في تربية النفوس والأرواح يعتمد على معالم وأركان أساسية:
المَعْلم الأوّل: الرجوع إلى الفطرة:
أوّلها: هو إرجاع الناس إلى الفطرة والتأكيد على الرجوع إلى النفس، حيث سيجد الإنسان ضالَّته داخل نفسه, ليس بعيداً عنها, ولا بمنأى عن جوانحها.
القرآن الكريم يشير إلى ذلك في قوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ﴾ (الروم: ٣٠).
الأئمّة (عليهم السلام) بدورهم جاءوا وفسَّروا هذه الآيات التي تتحدَّث عن الفطرة، فصرَّحوا عن الفطرة ﴿
فِطْرَتَ اللهِ
…﴾ بأنَّها
الإعداد الروحي لعصر الظهور – صفحة 7
تعني التوحيد، بمعنى: أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) خلق الناس وأودع فيهم هذه الفطرة وأودع فيها توحيده والإيمان به والتصديق بوجوده.
الله تبارك وتعالى حينما خلق الإنسان لم يخلقه موجوداً بلا توجيه، بل خلق في داخله عقلاً يقبل التوجيه. عقلاً يقبل الكلام، يقبل النصيحة، يفهم، ولولا هذا العقل لما صحَّ التكليف، هذا العقل هو تعبير آخر عن الفطرة، أحكام العقل الأساسية التي نعترف بها هي عبارة أخرى عن الفطرة، العقل الإنساني بما هو عقل، سواء كان الإنسان مسلماً أو غير مسلم، هو الفطرة بعينها, أيّ إنسان عاقل يحمل عقلاً كاملاً تامّاً يجد من القبيح والمستهجن أن يخون الأمانة، هذه مسألة إنسانية عامّة بغضّ النظر عن التعاليم الدينية.
هذه هي الفطرة، الطبع الإنساني يأبى نكاح الأمثال، وهذه أيضاً مسألة فطرية، الفطرة رُكّب فيها ذلك، فإذن العقل هو عبارة أخرى عن الفطرة، والله (عزَّ وجلَّ) عندما خلقنا أودع فينا هذه الفطرة بما فيها من أساسيات، بما فيها من مفاهيم أصيلة على أساسها تتفرَّع الفضائل، وعلى أساسها يتعلَّم الإنسان الخير.
أهل البيت (عليهم السلام) حاولوا بأساليب عديدة ومتنوّعة أن يُرجعوا الناس إلى الفطرة التي دعا إليها القرآن وأكَّد على ضرورتها وأهمّيتها ومركزيتها.
إذن هذا مَعْلَم أوّل من معالم طريقة أهل البيت (عليهم السلام) في تربية الناس وتزكيتهم، التأكيد على الفطرة والرجوع إليها، والتأكيد على أنَّ من أراد التزكية فعليه أن يرجع إلى فطرته وإلى ذاته.
الإعداد الروحي لعصر الظهور – صفحة 8

الولاية الاخبارية موقع اخباري وثقافي لمن يسلك الطريق الی الله