اشار عليه السلام في هذا الحديث الشريف إلى مراتب الطهارة بالطريق الكلية وبيّن أربع مراتب كليّة احدها ما ذكر في الحديث الشريف إلى حد الذي ذكرناه وهو تطهير الاعضاء ، وأشار عليه السلام إلى أنّ أهل المراقبة والسلوك إلى الله يلزم الاّ يتوقّفوا عند صور الاشياء وظواهرها بل لابدّ أن يجعلوا الظاهر مرآة للباطن ويستكشفوا من الصور الحقائق ولا يقنعوا بالتطهير الصوري فإن القناعة بالتطهير الصوري فخّ ابليس فينتقلوا من صفاء الماء إلى تصفية الاعضاء ويصفونها بأداء الفرائض والسنن الالهية ويرققون الاعضاء برقة الفرائض والسنن ويخرجونها من غلظة التعصي ويسرون الطهور والبركة في جميع الاعضاء ويدركون من لطف امتزاج الماء بالاشياء كيفية امتزاج القوى الملكوتية الالهية بعالم الطبيعة ولا يدعون القذارات الطبيعية تؤثّر فيها فاذا تلبست أعضاؤهم بالسنن والفرائض الالهية وآدابها تظهر فوائدها الباطنية بالتدريج وتنفجر عيون الاسرار الالهية وتنكشف لهم لمحة من أسرار العبادة والطهارة .
{ 125 }
ولما فرغ عليه السلام من بيان المرتبة الاولى من الطهارة وكيفية تحصيلها شرع في بيان الوظيفة الثانية وقال : ثم عاشر خلق الله كامتزاج الماء بالاشياء يؤدي كل شيء حقه ولا يتغّير عن معناه معتبرا لقول رسول الله صلى الله عليه وآله ” مثل المؤمن المخلص ( الخالص ) كمثل الماء ” فبيّن عليه السلام في الحكم الاول ما يربط بتعامل الانسان السالك مع قواه الداخلية وأعضائه ،
والحكم الثاني الذي هو في هذه الفقرة من الحديث الشريف يرتبط بتعامل الانسان مع خلق الله وهذا هو حكم جامع يبيّن كيفية معاشرة السالك للمخلوق ويستفاد منه ضمنا حقيقة الخلوة وهي أن السالك إلى الله في نفس الحال الذي يعاشر كل طائفة من الناس بالمعروف ويرد الحقوق الخلقية ويراود كل أحد ويعامله بطور يناسب حاله فهو في الوقت نفسه لا يتجاوز عن الحقوق الالهية ولا يترك المعنى من نفسه وهو العبادة والعبودية والتوجّه إلى الحق وفي نفس الحال التي يكون فيها في الكثرة يكون في الخلوة وقلبه الذي هو منزل المحبوب خاليا من الاغيار وفارغا من كل صورة ومثال . ( أقول : وقد أشير إلى هذا المعنى في كثير من الاحاديث ، ففي نهج البلاغة لعلي عليه السلام في خطبته المعروفة التي يصف فيها المتقين
قال ( ع ) : ” ان كان من الغافلين كتب الذاكرين وان كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين ” وفي الكافي الشريف روايات متقاربة المضمون : ان الله سبحانه أوحى لموسى بن عمران : ” يابن عمران لاتدع ذكري على كل حال” . وقال الصادق عليه السلام : قال الله تعالى ” يابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي ” . إلى أن قال ” اذكرني في ملأ أذكرك في ملأ خير من ملئك ” . وقال ” ما من عبد يذكر الله في ملأ من الناس الا ذكره الله في ملأ من الملائكة ” وأيضا في الكافي الشريف عن الصادق عليه السلام قال : ” الذاكر لله عز وجل في الغافلين كالمقاتل في المحاربين الغازين”.)
ثم ذكر عليه السلام الحكم الثالث وهو كيفية تعامل السالك مع الحق تعالى ، يقول : ” ولتكن صفوتك مع الله في جميع طاعتك كصفوة الماء حين أنزله من السناء وسمّاه طهورا ” يعني يلزم للسالك إلى الله أن يكون خالصا من تصرف الطبيعة ولا يكون لكدورتها وظلمتها طريق إلى قلبه ، وتكون جميع عباداته خالية عن جميع الشرك الظاهري والباطني ، وكما أن الماء في وقت نزوله من السماء طاهر وطهور وما امتدّت اليه يد تصرف القذارات كذلك قلب السالك الذي نزل من سماء عالم غيب الملكوت
{ 126 }
طاهراً ومنزّهاً لا يتركه يقع تحت تصرّف الشيطان والطبيعة ويتلوث بالقذارات .
وبعد هذا بين عليه السلام الحكم الاخير وهو وظيفة لأهل الرياضة والسلوك ويقول : ” وطهّر قلبك بالتقوى واليقين عند تطهير جوارحك بالماء ” وفي هذا إشارة إلى مقامين شامخين لأهل المعرفة . الأول : التقوى وكماله ترك غير الحق . والثاني : اليقين وكماله مشاهدة حضور المحبوب .