86 – حدثنا أبو الحسن علي بن المسلم الفقيه – لفظاً – أنا أبو القاسم علي بن محمد بن أبي العلاء، أنا أبو محمد عبد الرَّحمن بن عثمان بن القاسم، أنا أبو القاسم علي بن يعقوب بن أبي العَقَب، أنا أبو عبد الملك أحمد بن إبراهيم القرشي، نا محمد بن عائذ، نا الوليد بن مسلم، عن عبد الله بن لَهْيَعة، عن أبي الأسود، عن عُروة، قال:
فلما فرغوا من البيعة وأطمأنَّ الناس، قال أبو بكر لأسامة: امض لوَجهك الذي بعثك له رسول الله(ص)، فكلّمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا: امسكْ أُسامة وبعثهُ، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله(ص). فقال أبو بكر وكان آخرهم أمراً: أنا أحبس جيشاً بعثهم رسول الله(ص)؟ لقد اجترأت على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل عليَّ العرب، أحبُّ إليَّ من أحبس جيشاً بعثهم رسول الله(ص). امض ياأُسامة في جيشك للوجه الذي أُمرتَ به ثم اغزُ حيث أمرك رسول الله(ص) من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة، فإنَّ الله سيكفي ماتركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب فأستشير وأستعين به، فإنه ذو رأي ومناصح للإسلام، فافعل. ففعل أُسامة. ورجع عامة العرب عن دينهم وعامة أهل المشرق وغطفان وبنو أسد وعامة أشجع. ومسكت طيء بالإسلام.
وقال عامة أصحاب النبي(ص): أمسك أُسامة وجيشه ووجّههم (نحو)(68) من ارتد عن الإسلام من عطفان وسائر العرب، فأبى ذلك أبو بكر أن يحبس أُسامة وقال: إنكم قد عَلِمتم أنه قد كان من عهد رسول الله(ص) إليكم في المشورة فيما لم يمض من نبيكم فيه سنة، ولميُنَزَّل عليكم به كتاب، وقد أشرتم. وسأشير عليكم. فانظروا أرشد ذلك، فائتمروا به، فإن الله لن يجمعكم على ضلالة. والذي نفسي بيده، ماأرى من أمر أفضل في نفسي من جهاد من منع منا عقالاً(69) كان يأخذه رسول الله(ص). فانقاد المسلمون لرأي أبي بكر، ورأوا أنه أفضل من رأيهم. فبعث أبو بكر أُسامة بن زيد لوجهه الذي أمره به رسول الله(ص) فأصاب في العدو مصيبة عظيمة، وسلمه الله وغنَّمهُ، هو وجيشه، وردَّهم صالحين.
وخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار، حين خرج أُسامة حتى بلغ نقعاً(70) حذاء وهربت الأعراب بذراريهم. فلما بلغ المسلمين هربُ الأعراب كلَّموا أبا بكر، وقالوا: إرجَع إلى المدينة وإلى الذراري والنساء، وأمِّر رجلاً من أصحابك على الجيش، واعهدْ إليه أمرك. فلم يزل المسلمون بأبي بكر حتى رجع وأمَّر خالد بن الوليد على الجيش. فقال له: إذا أسلموا وأعطوا الصدقة، فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع. ورجع أبو بكر إلى المدينة(71).
87 – أخْبَرَنا محمد بن عبد الباقي الفرضي، أنا أبو محمد الجوهري، أنا أبو عمر بن حَيَّوية، أنا عبد الوَهَّاب بن أبي حيَّة، نا محمد بن شجاع الثَلْجي، أنا محمد بن عمر الواقدي(72) قال:
قالوا: لم يزل رسول الله(ص) يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه، ووَجِدَ عليهم وَجْداً شديداً، فلما كان يوم الإثنين لأربع ليالٍ بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسولالله(ص) الناس بالتَّهيُّؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش في غزوهم. فتفرق المسلمون من عند رسول الله(ص) وهم يجدون في الجهاز فلما أصبح رسول الله(ص) من الغد، يوم الثلاثاء لثلاث ليالٍ بقين من صفر دَعا أُسامة بن زيد فقال: «يا أُسامة، سرْ على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل اُبْنَى وحرِّق عليهم، وأسرع السير بسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخذْ معك الأدلّاء وقدِّم العيُون أمامك والطلائع».
فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بُدئ رسول الله(ص) فصُدّع وحُمّ. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد له رسول الله(ص) بيده لواءً ثم قال: «يا أُسامة، اغزُ بسم الله في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً ولاامرأةً، ولا تمنّوا لقاء العدوّ، فإنكم لا تدرون لعلكم تُبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهم اكفناهم واكفف بأسهم عنا، فإن لقوكم قد أجلبوا وصَبحُوا، فعليكم بالسكينة والصمت «ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم»(73) وقولوا:اللهم إنا نحنُ عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت، واعلموا أنَّ الجنة تحت البارقة»(74).
88 – أخْبَرَنا أبو بكر الفرضي، أنا أبو محمد الجوهري، أنا أبو عمر، نا عبد الوهَّاب، نا محمد بن شجاع، نا الواقدي(75)، حدثني يحيى بن هشام بن عاصم الأسلمي، عن المُنْذِر بن جَهْم قال: قال رسول الله(ص): «ياأُسامة شنّ الغارة على أهل أُبنى»(76).
89 – وأخبرنا أبو بكر: أنا أبو محمد الجوهري، أنا أبو عمر بن حَيّوية، أنا عبد الوهاب، نا محمد، نا الواقدي(77) قال: فحدثني عبد الله بن جعفر بن عبد الرَّحمن بن أزهر بن عوف، عن الزُّهري، عن عُرْوة، عن أُسامة بن زيد: أنَّ النبي(ص) أمره أن يغير على أهل أُبنى صباحاً وأن يُحرق.
قالوا: ثم قال رسول الله(ص) لاُسامة: «امض على اسْم الله» فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بُريدة بن الحصيب الأسلمي فخرج به إلى بيت أسامة وأمر رسول الله(ص) أُسامة فعسكر بالجُرف وضرب عسكره في موضع سقاية سُليمان اليوم. وجعل الناس يجدُّون بالخروج إلى العَسكر، فيخرج من فرغ من حاجته إلى مُعسكره، ومن لم يقض حاجته فهو على فراغ، ولم يبق أحدٌ من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، وأبو عُبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، في رجال من المهاجرين والأنصار عدة: قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسْلم بن حريش.
فقال رجال من المهاجرين، وكان أشدَّهم في ذلك قولاً عياش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فكثرت القالة في ذلك فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك القول، فردَّهُ على من تكلم به، وجاء إلى رسول الله(ص) فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله(ص) غضباً شديداً فخرج وقد عَصَب على رأسه عصابةً وعليه قطيفةٌ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، أيُّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أُسامة؟ والله لئن طعنتم في إمارتي أُسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيمُ الله، إن كان للإمارة لخليقاً، وأن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنَّ هذا لمن أحبّ الناس إليَّ، وانهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم» ثم نزل رسول الله(ص) فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر ليالٍ خلون من ربيع الأول.
وجاء المُسلمون الذين يخرجون مع أُسامة يُوَدعون رسول الله(ص) فيهم عمر بن الخطاب ورسول الله(ص) يقول: «أنفذوا بعث أُسامة» ودخلت أُم أيمن فقالت: أي رسولالله، لو تركت أُسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل، فإن أُسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه. فقال رسول الله(ص): «أنفذوا بعث أُسامة» فمضى الناس إلى المعسكر، فباتوا ليلة الأحد، ونزل أُسامة يوم الأحد ورسول الله ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لدّوه(78) فيه، فدخل على رسول الله(ص) وعيناه تهملان، وعنده العبَّاس والنساء حوله، فطأطأ عليه أُسامة فقبَّلهُ. ورسول الله(ص) لا يتكَلَّم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يصبهما على أُسامة، فأعرف أنه كان يدعو لي – قال أُسامة – فرجعتُ إلى معسكري.
فلما أصبح يوم الإثنين غدا من معسكره وأصبح رسول الله(ص) مفيقاً، فجاءه أُسامة فقال: «اغدُ على بركة الله» فودّعهُ أُسامة ورسول الله(ص) مفيق مريح(79) مفيق وجعل نساؤه يتماشطن سروراً براحته. ودخل أبو بكر فقال: يارسول الله أصبحتَ مفيقاً بحمدالله، واليوم يوم ابنة خارجة فائذن لي، فأذنَ له فذهبَ إلى السُّنح(80) وركب أُسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق إلى العسكر فانتهى إلى مُعَسكره ونزل. وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار، فبينا أُسامة بن زيد يريد أن يركب من الجُرْف أتاه رسول أُمُّ أيمن – وهي أُمّهُ – تخبره أن رسول الله(ص)
يموت، فأقبل أُسامة إلى المدينة ومعه عمر وأبو عبيدة. فانتهوا إلى رسول الله(ص) ورسول الله(ص) يموت، فتوفي عليه السلام حين زاغت الشمس يوم الإثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. ودخل المُسلمون الذين عسكروا بالجُرْف إلى المدينة، ودخل بُريدة بن الحُصيب بلواء أُسامة معقوداً، حتى أتى به باب رسول الله(ص) فغرزه عنده. فلما بويع لأبي بكر أمر بُرَيدة أن يذهب باللواء إلى بيت أُسامة ولا يحله أبداً حتى يغزوهم أُسامة. فقال بُرَيدة: فخرجتُ باللّواء حتى انتهيت به إلى بيت أُسامة، ثم خرجتُ به إلى الشام معقوداً معَ أُسامة، ثم رجعتُ به إلى بيت أُسامة فما زال معقوداً في بيت أُسامة حتى توفي أُسامة.
فلمَّا بلغ العرب وفاة رسول الله(ص) وارتَّدَ من ارتدَّ منها عن الإسلام. قال أبو بكر لاُسامة: انفذ في وجهك الذي وجَّهك فيه رسول الله(ص)، وأخذ الناس بالخروج، وعسكروا في موضعهم الأول وخرج بُريدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول، فشق على كبار المهاجرين الأولين، ودخلَ على أبي بكر: عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد فقالوا: ياخليفة رسول اللّه(ص)، إنَّ العرب قد انتقضت عليك من كلِّ جانب، وإنكَ لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً، اجعلهم عدة لأهل الردَّة ترمي بهم في نحورهم، وأُخرى لا نأمن على أهل المدينة أن يُغار عليها وفيها الذراري والنساء، فلو استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بِجِرانه(81)
وتعود أهل الردَّة إلى ماخرجوا منه أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أُسامة حينئذ فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا. فلما استوعب أبوبكر كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا، قد سمعت مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده لو ظننتُ أنَّ السباع تأكلني بالمدينة لأنفذتُ هذا البعث. ولا بدأت بأوَّل منه، ورسول الله(ص) ينزل عليه الوحي من السماء يقول: «أنفذوا جيش أُسامة» ولكن خصلة أُكلّم أُسامة في عمر يُخلِّفَهُ يقيم عندنا؛ فإنه لا غنى بنا عنه، والله ماأدري يفعل أُسامة أم لا. والله إن أبى لا أُكرههُ. فعرف القوم أنَّ أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أُسامة. ومشى أبو بكر إلى أُسامة في بيته، فكلَّمهُ في أن يترك عمر، ففعَل أُسامة وجعلَ يقول له: أذنتَ ونفسكَ طيبة؟ فقال أُسامة: نعم. قال وخرج فأمر مُناديه ينادي: عزمة مني ألَّا يتخلف عن أُسامة من بعثه من كان انتدبَ مَعَهُ في حياة رسول الله(ص)، فإني لن اُؤتى بأحد أبطأ عن الخروج معه إلَّا ألحقته به ماشياً، وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أُسامة فغلَّظَ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلف عن البعث إنسان واحد.
وخرج أبو بكر يُشيِّع أُسامة والمُسلمين، فلما ركب أُسامة من الجُرْف في أصحابه -وهم ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس – فسار أبو بكر إلى جنب أُسامة ساعة ثم قال: استودع اللّه دينك وأمانتكَ وخواتيم عملك (إنّي سمعتُ)(82) رسول الله(ص) يوصيك، فانفذ لأمر رسول اللّه(ص) فإني لستُ آمرك ولا أنهاك عنه. إنما أنا منفذ لأمر أمَرَ به رَسُول الله(ص)، فخرجَ سَريعاً فوطئ بلاداً هادئة لم يرجعوا عن الإسلام – جُهينة وغيرها من قُضاعة – فلمانزل وادي القرى قدَّم عيناً لهُ من بني غُذرة يُدعى حُرَيثاً فخرجَ على صدر راحلته أمامه مُغذِّاً حتى انتهى إلى أُبنى فنظر إلى ماهناك وارتاد الطريق، ثم رجع سريعاً حتى لقي أُسامة على مسيرة ليلتين من أُبنى فأخبره أنَّ الناس غارّون ولا جموع لهم، وأمرهُ أن يسرع السير قبل أن تجتمع الجموع وأن يشنها غارة(83).
90 – أخْبَرَنا أبو بكر الفَرضي، أنا أبو محمد الجوهري، أنا أبو عمر بن حَيَّوية،.أنا عبدالوهَّاب بن أبي حَيَّة، نا محمد بن شجاع، نا الواقدي(84)، قال: فحدثني هشام بن عاصم، عن المُنذر بن جهم، قال: قال بُرَيدة لأسامة: ياأبا محمد، إني شهدتُ رسول الله(ص) يوصي أباك أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أطاعوه خيَّرهم، إن أحبُّوا أن يقيموا في ديارهم ويكونوا كأعوان المسلمين، ولا شيء لهم في الفيء ولا في الغنيمة إلَّا أن يجاهدوا مع المسلمين، وأن تحولوا إلى دار الإسلام كان لهم ما للمهاجرين وعليهم ماعلى المهاجرين.
قال أُسامة: هكذا وصية رسول الله(ص) لأبي، ولكن رسول الله(ص) أمرني – وهو آخر عهده إلىَّ – أن أسرع المشي وأسبق الأخبار، وأن أشُنَّ الغارة عليهم بغير دعاء، فأُحرّق وأُخرّب.
فقال بُرَيدة: سمعاً وطاعة لأمر رسول الله(ص).
فلما انتهى إلى أُبنى فنظر إليها منظر العين عبَّأ أصحابه وقال: اجعلوها غارة ولا تُمعنوا في الطلب ولا تفترقوا، واجتمعوا واخفوا الصوت، واذكروا اسمَ الله في أنفسكم، وجرِّدوا سُيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم. ثم دفع عليهم الغارة، فما نبح كلب ولا تحرَّك أحد، ولا شعرُوا إلَّا بالقوم قد شنوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم: «يامنصور أمت». فقتل من أشرف له، وسبا من قدر عليه، وحرق في طوائفها بالنار، وحرق منازلهم وحروثهم ونخلهم.
فصارت أعاصير من الدخاخين، وأقام الخيل في عرصاتهم، ولم يُمعنوا في الطلب، أصابوا ماقَرُبَ منهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ماأصابوا من الغنائم. وكان أُسامة خرج على فرس أبيه الذي قُتلَ عليها أبوه يوم مؤتة، كانت تُدعى سَبْحَة. وقتل قاتل أبيه في الغارة، خبَّرهُ به بعض من سبى؛ وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهماً. وأخذل نفسه مثل ذلك. فلما أمسوا أمر الناس بالرحيل، والدليل أمامه حُريث العُذري، فأخذوا الطريق التي جاء منها، وَدَأبوا ليلتهم حتى أصبحوا بأرض بعيدة. ثم طوى البلاد حتى انتهوا إلى وادي القرى في تسع ليال ثم قصد يغذّ السير إلى المدينة وماأُصيب من المسلمين أحد فبلغ ذلك هرقل وهو بحمص فدعا بطارقته فقال: هذا الذي حذّرتكم، فأبيتم أن تقبلوه مني. قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر فتغير عليكم، ثم تخرج من ساعتها ولم تُكْلَم. قال أخوه يناق: فأبعث رابطة تكون بالبلقاء(85). فبعث رابطة واستعمل عليهم رجلاً من أصحابه، فلم يزل مقيماً حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قالوا: واعترض لأُسامة في منصرفه قومٌ من أهل كَثْكَث – قرية هناك – قد كانوا اعترضوا لأبيه في بدأته فأصابوا من أطرافه، فناهضهم أُسامة بمن معه فظفر بهم وحرّق عليهم، وساق من نَعَمهم، وأسَر منهم أسيرين فأوثقهما، وهرب من بقي، فقدم بهما المدينة فضرب أعناقهما(86).
91 – أخْبَرَنا أبو بكر الفرضي، أنا أبو محمد الجوهري، أنا أبو عمر بن حَيُّوية، أنا عبدالوَهَّاب بن أبي حَيَّة، نا محمد بن شجاع، نا الواقدي(87)، قال: فحدثني أبوبكر بن يحيى بن النضر، عن أبيه: أنَّ أُسامة بن زيد بعث بشيره من وادي القُرى بسلامة المسلمين، وأنهم قد أغاروا على العدو فأصابوهم، فلما سمع المسلمون بقدومهم خرج أبو بكر في المهاجرين، وخرج أهل المدينة حتى العواتق وسرّوا بسلامة أُسامة ومن معه من المسلمين ودخل يومئذ على فرسه سَبْحَة كأنما خرجت من ذي خُشُب عليه الدرع، واللواء أمامه يحملهُ بُرَيْدة حتى انتهى به إلى المَسْجد، فدخل فَصَلَّى ركعتين وانصرف إلى بيته معه اللواء. وكان مخرجه من الجُرْفِ لهلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة، فغاب خمسة وثلاثين يوماً: سار عشرين في بدأتِه وخمسة عشر في رجعته(88).
92 – أخْبَرَنا أبو عبد الله الفُرَاوي، أنا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرَّحمن الصابُوني، أناأبو محمد عبد الرَّحمن بن أحمد المُقرئ، نا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، نا محمد بن علي المَيْمُوني، نا الفريابي، نا عَبَّاد بن كثير، عن أبي الزَّناد، عن الأعرج، عن أبيهريرة قال: والذي لا إله إلَّا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ماعُبد الله، ثمّ قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل لهُ: ياأبا هريرة! فقال:
إنَّ رسول الله(ص) وجَّه أُسامة بن زيد في سبع مائة إلى الشام، فلما نزل بذي خُشُب قُبضَ النبي(ص) وارتَدَّت العرب حول المدينة، فاجتمع إليه أصحاب رَسُول الله(ص) فقالواله: ياأبا بكر رُدَّ هؤلاء. توجّه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدَّت العرب حول المدينة؟! فقال: والذي لا إله إلَّا هو لو جرَّت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله(ص) مارددتُ جيشاً وجهه رسول الله(ص). ولا حللتُ لواءً عقدهُ رسُولُ الله(ص)، فوجّه أُسامة فجعل لا يَمُرُ بقبيل يريدون الإرتداد إلَّا قالوا: لولا أنَّ لهؤلاء قوّة ماخرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فبلغوا الرُّوم فهزموهم وقتلوهم ورَجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام(89).