فإني أقول لك وقلبي يذوب حسرة وأسفا : لقد جاء هذا وغيره من الاختلافات الفرعية على أثر اختلاف جذري وخلاف أصولي، ليس هذا الوقت مناسبا لذكره، ولعلنا نصل إليه في مباحثنا الآتية فنتعرض له إذا دار النقاش حوله، وحين ذاك ينكشف لكم الحق وتعرفون الحقيقة إن شاء الله تعالى .
ثالثا : وأما بالنسبة إلى مسألة الجمع والتفريق بين الصلاتين، فإن فقهاءكم بالرغم من أنهم رووا الروايات الصحيحة والصريحة في الرخصة وجواز الجمع لأجل التسهيل ورفع الحرج عن الأمة، أولوها ـ كما عرفت ـ ثم أفتوا بعدم جواز الجمع من غير عذر أو سفر، حتى أن بعضهم ـ مثل أبي حنيفة وأتباعه ـ أفتوا بعدم جواز الجمع مطلقا حتى مع العذر والسفر(33) .
ولكن المذاهب الأخرى من الشافعية والمالكية والحنابلة على كثرة اختلافاتهم الموجودة بينهم في جميع الأصول والفروع أجازوا الجمع في الأسفار المباحة كسفر الحج والعمرة، والذهاب إلى الحرب، وما أشبه ذلك .
وأما فقهاء الشيعة، فأنهم تبعا للأئمة الأطهار من آل النبي المختار (ص) ـ الذين جعلهم رسول الله (ص) ميزانا لمعرفة الحق والباطل، وعدلا للقرآن، ومرجعا للأمة في حل الاختلاف، وصرح بأن التمسك بهم وبالقرآن معا أمان من الفرقة والضلالة بعده ـ أفتوا بجواز الجمع مطلقا، لعذر كان أم لغير عذر، في سفر كان أم في حضر، جمع تقديم في أول الوقت، أم جمع تأخير في آخر الوقت، وفوّضوا الخيار في الجمع والتفريق إلى المصلّي نفسه تسهيلا عليه ودفعا للحرج عنه، وبما أن الله يحب الأخذ برخصه، اختارت الشيعة الجمع بين الصلاتين، حتى لا يفوتهم شيء من الصلاة غفلة أو كسلا، فجمعوا تقديما، أو تأخيرا .
ولما وصل الكلام في الجواب عن الجمع بين الصلاتين إلى هنا قلت لهم : أرى الكلام عن هذه المسألة بهذا المقدار كافيا، فإني أظن بأن الشبهة قد ارتفعت عن أذهانكم وانكشف لكم الحق، وعرفتم : أن الشيعة ليسوا كما تصورهم البعض أو صوروهم لكم، بل إنهم إخوانكم في الدين، وهم ملتزمون بسنة النبي الكريم وبالقرآن الحكيم(34) .
عود على بدء:
قلت : والآن أرى أن من الأفضل أن نعود إلى حوارنا السابق، ونتابع حديثنا حول المسائل الأصولية المهمة، فإن هناك مسائل أصولية أهم من هذه المسائل الفرعية، فإذا توافقنا على تلك المسائل الأصولية، فالموافقة على أمثال هذه المسائل الفرعية حاصلة بالتبع .
الحافظ : إنني فرح بمجالسة عالم فاضل ومفكر نبيل، ومحادثة متفكر، ذي اطلاع وافر على كتبنا ورواياتنا مثل جنابكم، فقد بان لي فضلكم وعلمكم في أول مجلس جلسناه معكم، وكما تفضلتم فإن من الأفضل ـ الآن ـ أن نتابع حديثنا السابق .
غير أنني أستأذن سماحتكم لأقول متسائلا : لقد ثبت لنا بكلامكم الشيق، وبيانكم العذب، أنكم من الحجاز، ومن بني هاشم، فأحب أن أعرف ـ أنكم مع هذا النسب الطاهر والأصل المنيف ـ ما حدا بكم حتى هاجرتم من الحجاز وعلى الخصوص من المدينة المنورة، مدينة جدكم ومسقط رأسكم وسكنتم في إيران ؟!
ثم في أي تاريخ تم ذلك ولماذا ؟!
قلت إن أول من هاجر من آبائي إلى إيران هو الأمير السيد محمد العابد ابن الإمام موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام)، وكان فاضلا تقيا، عابدا زاهدا، ولكثرة عبادته ـ إذ أنه كان قائم الليل وصائم النهار وتاليا للقرآن الكريم في أكثر ساعات ليله ونهاره ـ لقب بالعابد، وكان يحسن الخط ويجيد الكتابة، فصار يستغل فراغه باستنساخ وكتابة المصحف المبارك، وكان ما يأخذه من حق مقابل كتابته يعيش ببعضه، ويشتري بالزائد منه مماليك وعبيدا ويعتقهم لوجه الله (عز وجل)، حتى أعتق عددا كبيرا منهم بذلك .
ولما أدركته الوفاة وارتحل من الدنيا ودفن في مضجعه، أصبح مرقده الشريف وإلى هذا اليوم مزارا شريفا لعامة المؤمنين في مدينة شيراز .
وأمر ابن الأمير أويس ميرزا معتمد الدولة، ثاني أولاد الحاج فرهاد ميرزا معتمد الدولة ـ عم ناصر الدين شاه قاجار ـ بنصب ضريح فضي ثمين على القبر الشريف، وأمر بروضته المباركة ـ وهي مسجد لأداء الفرائض اليومية وإقامة الجماعة، وتلاوة آيات الكتاب الكريم، وقراءة الأدعية والصلوات المستحبة، أمر أن تزين بالمرايا وأنواع البلاط والرخام، ليكون مأوى الزائرين، الذين يفدون إلى زيارة المرقد الشريف من كل صوب ومكان .
الحافظ : ما هو سبب هجرته من الحجاز إلى شيراز ؟!
قلت : إن في أواخر القرن الثاني من الهجرة، حينما أجبر المأمون الإمام علي بن موسى الرضا (عليه الصلاة والسلام) على الرحيل من مدينة جده رسول الله (ص) والهجرة إلى خراسان، وفرض عليه الإقامة في طوس، وذلك بعد أن قلده ولاية العهد كرها، وقع الفراق بين الإمام الرضا (ع) وبين ذويه وإخوته .
ولما طال الفراق، اشتاق ذووه واخوته وكثير من بني هاشم إلى زيارته (ع) فاستأذنوه (ع) في ذلك فأذن لهم .
كما وبعثوا كتابا إلى المأمون يطلبون منه الموافقة على سفرهم إلى طوس لزيارة أخيهم وإمامهم الرضا (ع)، حتى لا يصدهم المأمون وجلاوزته وعماله عن قصدهم، ولا يتعرضوا لهم بسوء، فوافق المأمون على ذلك، وأبدى لهم رضاه، فشدوا الرحال، وعزموا على السفر لزيارة الإمام الرضا (ع)، فتحركت قافلة عظيمة تضم أبناء رسول الله (ص) وذريته، وتوجهت من الحجاز نحو خراسان، وذلك عن طريق البصرة والأهواز وبوشهر وشيراز … إلى آخره .
وكانت القافلة كلما مرت ببلد فيها من الشيعة والموالين لآل رسول الله (ص) انضم قسم كبير منهم إلى القافلة الهاشمية، التي كان على رأسها السادة الكرام من أخوة الإمام الرضا (ع)، وهم : الأمير السيد أحمد المعروف بـ : (شاه جراغ) والأمير السيد محمد العابد وهو : (جدنا الأعلى) والسيد علاء الدين حسين، أبناء الإمام موسى بن جعفر (ع)، فكان الناس يلتحقون بهم طوعا ورغبة لينالوا زيارة إمامهم الرضا (ع) .
وعلى أثر ذلك ذكر المؤخرون : بأن هذه القافلة حينما قربت من شيراز بلغ عدد أفرادها أكثر من خمسة عشر ألف إنسان، بين رجل وامرأة، وصغير وكبير، وقد غمرهم جميعا شوق اللقاء، وفرحة الوصال والزيارة .
فأخبر الجواسيس وعمال الحكومة المأمون في طوس بضخامة القافلة وكثرة أفرادها، وحذروه من مغبة وصولها إلى مركز الخلافة طوس، فأوجس المأمون ـ من الأخبار الواصلة إليه عن القافلة الهاشمية ـ خيفة، وأحس منها بالخطر على مقامه ومنصبه .
فأصدر أوامره إلى جواسيسه في الطريق، وإلى حكامه على المدن الواقعة في طريق القافلة الهاشمية، يأمرهم فيها بأن يصدوا القافلة عن المسير أينما وجدوها، وأن يمنعوها من الوصول إلى طوس وكانت القافلة قد وصلت قريبا من شيراز حين وصل أمر الخليفة إلى حاكمها بصدها، فاختار الحاكم سريعا وعلى الفور أحد جلاوزته المسمى (قتلغ خان) وكان شديدا قاسيا، وأمره على أربعين ألف مقاتل، وأمرهم بصد القافلة الهاشمية وردها إلى الحجاز .
فخرج هذا الجيش الجرار من شيراز باتجاه طريق القافلة وعسكر في (خان زنيون) وهو منزل يبعد عن شيراز، ثلاثين كيلو متر تقريبا، وبقوا يترصدون القافلة، وفور وصول القافلة إلى المنطقة وهي في طريقها إلى شيراز باتجاه طوس، بعث القائد (قتلغ خان) رسولا إلى السادة الأشراف، وبلغهم أمر الخليفة، وطلب منهم الرجوع إلى الحجاز من مكانهم هذا فورا .