الدرس التاسع: كيف يعين الولي؟ (4)
نظرية الشورى
قد يطرح بحث الشورى كدليل على أن الولاية تعطى من الأمة، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لم يكن هناك وجه للشورى في تعيين الولي واختيار النظام.
لكن لو تأملنا في كل الأدلة التي قد تذكر للشورى فلن نصل إلا إلى النتيجة القائلة: “يستحسن للولي أن يستشير” وإن كان قد تجب الإستشارة على الولي غير المعصوم، لكن ليست الآيات هي الدليل على هذا الوجوب.
أدلة الشورى:
قد يستدل للشورى بآيتين من القرآن وهما:
الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾1.
والإستدلال بهذه الآية على لزوم الشورى يتوقف على أن يكون قوله تعالى “وشاورهم” للوجوب.
1- آل عمران: 159.
ولنا حول هذا الإستدلال ثلاث مناقشات:
المناقشة الأولى: أن الآية لا دخل لها بما ذهب إليه صاحب النظرية، فلا ربط لها بقضية أن الوالي يكتسب ولايته من الناس ولا بقضية أن طبيعة النظام وشكل الحكم مأخوذ من الناس، وفي أقصى الأحوال تدل على لزوم الإستشارة على الوالي، ولا ملازمة بين الأمرين، لأن كون الحكم عن شورى، أو كون النظام عن شورى، أو كون الولاية نتيجة الشورى يعني أنه لا يحق لأحد أن يتولى من غير رضا الأمة ولا أن يتفرد بالقرار، وأن يكون القرار لمجموع أعضاء الشورى أو للأكثرية منهم، ولكن الآية أمرت فقط بأن يستشير الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تشترط في القرار أن يصدر عن هذه الشورى.
المناقشة الثانية: أن في الآية قرينتين لحمل الأمر المذكور على الإستحباب:
القرينة الأولى: سياق الآية، حيث إن سياق الآية يفيدنا أن الحديث عن صفات كمالية في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كمعصوم، وليس عن أمور يجب عليه مراعاتها كحاكم، فهو لله الشخص الرحيم بالعباد اللين القلب ولولا ذلك لانفضوا من حوله، وهذه الصفات الحميدة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طبيعتها أن يتفرع عنها فعل العفو عنهم والإستغفار لهم ومشاورتهم، ولذا طلبها تعالى منه لله، فحال هذا الخطاب كقولك لشخص وجدته قد تنازع مع غيره فقلت له: إنك أعقل منه وأكبر منه فانصرف عنه أو فاعطه ما يريد، فهل يفهم أحد من هذا الكلام الوجوب، أو أن ذلك الغير صار صاحب حق.
القرينة الثانية: كون الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن توجيه الخطاب في الآية الكريمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدل على أن الأمر بالمشاورة ليس للوجوب، لأنه اتفقت كلمة المسلمين على أنه لله لا ينطق إلا بالحق، وأنه معصوم وعصمته تغنيه عن الإستشارة وتمكنه من إعطاء الموقف المطلوب بدون استشارة، فيصير الأمر بالمشاورة لا لحاجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إليها بل إرفاقاً بالمسلمين وإشعاراً لهم بالمشاركة فيما يقرره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
المناقشة الثالثة: إن في الآية قرينة على أن ليس المقصود من الآية إلزامية الشورى على مستوى النتيجة، وهي قوله تعالى في خطابه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: “فإذا عزمت فتوكل على الله”. وهذا يعني أن القرار في نهاية الأمر قراره، وأنه وإن كان ملزماً بالإستشارة، لكنه غير ملزم بالعمل بها وبما يشيره المشيرون سواء اتفقوا او اختلفوا، ويكون الداعي لوجوب الإستشارة، لو سلمنا دلالة الآية عليه، هو الإرفاق المذكور.
ويشبه هذا ما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لعبد الله بن العباس وقد أشار عليه في شيء لم يوافق رأيه، أي رأي الإمام عليه السلام ويبدو أن عبد الله قد أصابته حزازة من جراء ذلك فقال له عليه السلام: “عليك أن تشير عليَّ فإذا خالفتك فأطعني”.
ونحن لا مشكلة لدينا في إلزام الولي غير المعصوم بالشورى، بمعنى أن يستشير ذوي العقل والرأي والإختصاص، كما أنه لا مشكلة لدينا في كون الشورى في عصر الغيبة وسيلة من وسائل تعيين الولي والتي قد تترجم في المصطلحات العصرية بكلمة الإنتخاب، لكن ليس الدليل عليه هو هذه الآية، كما أن الإنتخاب بالمعنى الذي ذكرناه سابقاً لا ربط له بإعطاء شرعية للوالي.
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾2.
وهذه الآية أقوى دلالة للقول بالشورى، بعدما وصفت أمر المسلمين بأنه شورى بينهم، فهي تصلح مبدئيا للإستدلال بها على كون الحكومة في الإسلام مرتبطة بالشورى بين المسلمين، وأنه لا بد من هذه الشورى على
2- الشورى: 37 و38.
مستوى تعيين الحاكم وتحديد طبيعة النظام السياسي والصلاحيات وكل ما يرتبط بأمور المسلمين، وكل ذلك هو تعبير آخر عن ولاية الأمة على نفسها.
مناقشة الإستدلال: ويناقش الاستدلال بهذه الآية: بأن الحديث فيها إما أن يكون عن خصوص مجتمع المسلمين في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو مجتمعهم في كل العصور، وعلى كل تقدير يجب أن يكون عصره صلى الله عليه وآله وسلم مشمولاً للآية لأنها مورد نزولها، ونحن نعلم بالقطع واليقين أن أمر المسلمين لم يكن كذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا على مستوى حكومة الرسول وولايته ولا على مستوى إدارته وحكمه واختياره الشكل المناسب للحكم، بل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحاكم بأمر من الله تعالى، ولم تكن طريقته في الحكم إجراء استفتاء من المسلمين على شكل الحكم أو غير ذلك مما يتعلق بأمور الحكم، بل كانوا ينقادون لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتى وإن كانت مخالفة لآرائهم كلهم أو لأكثريتهم، لأن هذا ما تعنيه للمسلمين جميعاً ولاية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولقسم من المسلمين ولاية الأئمة عليهم السلام الآتية من قبل الله تعالى لا من قبل الناس، فلو كانت الآية دالة على ولاية الأمة على نفسها وأن الرسول مجرد رجل من المسلمين، لكان هذا يعني إبطال ولايته لله، ولا يقول بذلك أحد.
فحتى يتم الإستدلال بالآية بالنحو المذكور يجب فرض أن مضمون الآية لا يشمل مجتمع الرسول، وهذا غير ممكن، لأن الآية التي تنزل في مورد لا بد على الأقل أن تشمل موردها، وعليه فيجب تفسير الآية بما يلائم انطباق الآية على ذلك المجتمع، والذي يرومه المستدل مخالف له.
والتفسير الصحيح، أن يقال: إن الآية تحمل دعوة إجمالية لعموم المسلمين تدعوهم إلى التعاضد والتكاتف كمجتمع متجانس يستشير بعضهم بعضاً في أمورهم الشخصية، وأن هذا هو شأنهم الذي ينبغي أن يكونوا عليه، وهذه دعوة في سياق دعوتهم إلى صفات حميدة أخرى. وهي دعوة لم يلحظ فيها الشؤون العامة للمسلمين، ولو فرضنا ملاحظة هذه الشؤون فهي لا تشمل أمر الولاية والحكومة وشؤونها وما يتعلق بها.
ولو فرضنا أنها تشمل بالإطلاق الحكم وشؤونه، فهي تشمله ضمن هذا السياق، وليس ضمن سياق إلزامي يعبر عن نظرية كما أرادها المستدل، لما بيناه سابقاً.
ونكتفي بهذا المقدار من البحث حول مسألة الشورى.