المؤشّرات العامّة للاقتصاد الإسلاميّ:
يوجد في الشريعة الإسلاميّة خطوط عامّة لمؤشّرات تُشكّل أساساً متكاملاً لصورة الاقتصاد الإسلاميّ، وهي كما يلي:
1- اتّجاه التشريع:
وهذا المؤشّر يعني أنْ توجد في الشريعة وضمن العناصر الثابتة من الاقتصاد الإسلاميّ أحكام منصوصة
في الكتاب أو السّنّة، تتّجه كلّها نحو هدف مشترك على نحو يبدو منه اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف، فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشّراً ثابتاً، وقد يتطلّب الحفاظ عليه وضع عناصر متحرّكة لكي يضمن بقاء الهدف أو السير إلى ذروته الممكنة.
مثال ذلك:
لا يجوز للمستأجر أنْ يستثمر (الأُجرة) سواء كانت داراً أم سفينة أم معملاً أم غير ذلك بأجرة محدّدة، ثمّ يؤجّرها بأجرة أكبر ويربح على أساسها دون أنْ يقوم بعمل في العين المستأجرة، وكذلك الحال لو استأجر شخص أُجرة ما، ومن ثمّ أجّر منافعها بأجرة أكبر.
هذا المثال وغيره من الأمثلة الأخرى ــ ضمن السياق نفسه ــ تُشكّل بمجموعها أحكاماً شرعيّة تدلّ على اتّجاه تشريعيّ ينحو باتّجاه استئصال الكسب الّذي لا يقوم على أساس العمل، ورفض الاستثمار الرأسماليّ, أي تنمية ملكيّة المال بالمال وحده.. بالتالي يعكس هذا الاتجاه التشريعيّ
مؤشّراً ثابتاً وأساساً للعناصر المتحرّكة في الاقتصاد الإسلاميّ، وما على الحاكم الشرعيّ إلّا أنْ يسير في هذا الاتّجاه لكي يصوغ أحكاماً تشريعيّة تتّسع لها صلاحيّاته ولا تصطدم بعنصر ثابت في الشريعة الإسلاميّة.
2- الهدف المنصوص لحكم ثابت:
وهذا المؤشّر يعني أنّ مصادر الإسلام من الكتاب والسُّنة إذا شرّعت حكماً ونصّت على الهدف منه، كان الهدف علامة هادية لملء الجانب المتحرّك من صورة الاقتصاد الإسلاميّ بصيغ تشريعيّة تضمن تحقيقه، على أنْ تدخل هذه الصيغ ضمن صلاحيّات الحاكم الشرعيّ، الّذي يجتهد ويُقدّر ما يتطلّبه تحقيق ذلك الهدف عمليّاً من الناحية التشريعيّة والاقتصاديّة.
ومثال ذلك النصّ القرآنيّ التالي:
قال تعالى: “مَّا أَفَاء اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ
لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ…”1.
فإنّ الظاهر من النصّ الشريف أنّ التوازن الاجتماعيّ، وانتشار المال بصورة تُشبع كلّ الحاجات المشروعة في المجتمع، وعدم تركّزه واحتكاره في عدد محدود من أفراده، هو هدف من أهداف التشريع الإسلاميّ. وهذا الهدف يُعتبر مؤشّراً ثابتاً يتّصل بالعناصر المتحرِّكة.
3- القيم الاجتماعيّة الّتي أكّد الإسلام عليها:
وهذا المؤشّر يعني أنّ في النصوص الإسلاميّة من الكتاب والسُّنّة ما يؤكّد على قيم معيّنة كالمساواة، والأخوّة، والعدالة، والقسط ونحو ذلك. وهذه القيم تُشكِّل أساساً لاستنباط صيغ تشريعيّة متطوّرة ومتحرّكة وفقاً للمستجدّات والمتغيّرات، تكفل تحقيق تلك القيم صلاحيّات الحاكم الشرعيّ في ملء منطقة الفراغ التشريعيّ.
ومثال ذلك قول الله سبحانه وتعالى: “وَإِنْ حَكَمْتَ
________________________________________
1-سورة الحشر، الآية: 7.
فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ “1 وقوله تعالى: ” إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى”2.
4- اتّجاه العناصر المتحرّكة على يد النبيّ أو الوحي:
وهذا المؤشّر يعني أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام لهم شخصيّتان:
الأولى بوصفهم مبلِّغين للعناصر الثابتة عن الله تعالى، والأخرى بوصفهم حكّاماً وقادة للمجتمع الإسلاميّ، يضعون العناصر المتحرِّكة الّتي يستوحونها من المؤشّرات العامّة للإسلام وروح الشريعة.
وعلى هذا الأساس كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام يُمارسون وضع العناصر المتحرِّكة في مختلف شؤون الحياة الاقتصاديّة وغيرها، بحيث يعكس ذلك الروح العامّة للاقتصاد الإسلاميّ. وتُشكِّل ممارسة المعصوم تلك دلالة
________________________________________
1-سورة المائدة، الآية: 42.
2-سورة النحل، الآية: 90.
ثابتة على الحاكم الشرعيّ أنْ يستفيد منها.
ومن الأمثلة الّتي تُذكر حول هذا المؤشِّر ما روي في أحاديث عديدة من أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم منع في فترة معيّنة إجارة الأرض، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: “من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه فإنْ أبى فليُمسك أرضه”1.
هذا مع أنّ عقد الإجارة، وإن كان قد سُمح به من وجهة القانون المدنيّ للفقه الإسلاميّ، إلّا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أظهر من خلال هذه الرواية ـ وغيرها من الروايات ـــ أنّه استعمل صلاحيّاته بوصفه وليّ الأمر في المنع عنها، حفاظاً على التوازن الاجتماعيّ، وللحيلولة دون نشوء كسب مترف لا يقوم على أساس العمل، في الوقت الّذي كان فيه نصف المجتمع ـ المهاجرون ـ يغرق في ألوان العوز والفاقة.
5- الأهداف الّتي حُدّدت لوليّ الأمر:
وهذا المؤشّر يعني أنّ الشريعة وضعت في نصوصها العامّة وعناصرها الثابتة أهدافاً لوليّ الأمر، وكلّفته
________________________________________
1-تذكرة الفقهاء، العلّامة الحليّ، ج2، ص 337.
بتحقيقها أو السعي من أجل الاقتراب نحوها بقدر الإمكان. وهذه الأهداف تُشكِّل أساساً لرسم السياسة الاقتصاديّة، وصياغة العناصر المتحرِّكة في الاقتصاد الإسلاميّ.
ومثال ذلك: أنّه جاء في الحديث عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: “إنّ على الوالي في حالة عدم كفاية الزكاة أن يموّن الفقراء من عنده بقدر سعتهم حتّى يستغنوا”1.
وكلمة (من عنده) تدلّ على: أنّ المسؤوليّة في هذا المجال متّجهة نحو وليّ الأمر بكلّ إمكاناته، لا نحو قسم الزكاة خاصّة من أقسام بيت المال. فهناك إذاً هدف ثابت يجب على وليّ الأمر تحقيقه أو السعي في هذا السبيل بما أوتي من إمكانات، وهو توفير حدّ أدنى يُحقّقه الغنى في مستوى المعيشة لكلّ أفراد المجتمع الإسلاميّ، وهذا المؤشّر يُشكّل جزءاً من القاعدة الثابتة الّتي يقوم عليها البناء العلويّ للعناصر المتحرّكة من الاقتصاد الإسلاميّ.
________________________________________
1-انظر: الأصول من الكافي، الكليني، ج1، ص 541.
النتيجة:
إنّ الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ هي الصورة الّتي تبرز فيها العناصر المتحرّكة إلى جانب العناصر الثابتة، لتتعاون معاً في تحقيق العدل الإسلاميّ على الأرض وفقاً لما أراده الله سبحانه وتعالى. كما يرتكز الاقتصاد الإسلاميّ أيضاً على الإيمان بأنّ مصادر الثروة الطبيعيّة كلّها لله تعالى، وأنّ اكتساب حقّ خاصّ في الانتفاع بها لا يقوم إلّا على أساس الجهد والعمل.