للقلب السحري لوالدة عماد مغنية، كما لوالده، أن يُعْفِيَ الناسَ من الكلام والعزاء.
وللكلمات السحرية يخاطبون بها الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله أن تختصر قضية المقاومة. هما من جيل لم يُكتَب له فخر الشهادة، لكنهما غالبَا العمر، فإذا بهامتَيهما لا تشبهان إلا هامات الكبار. سقط جهاد وفؤاد وعماد. “لم يبقَ لنا أولادٌ نقدمهم شهداء. أعذرْنا يا سيدَ المقاومة، فلقد جاء دورُ جهاد الأصغر وباقي الأحفاد”.
إنها المرة الرابعة التي يقف فيها أبو عماد وأم عماد في موقع التبريك والعزاء. الضاحية نفسها. القبضات والحناجر نفسها. العنوان نفسه. إنها المرة الرابعة التي سيجد فيها السيد حسن نصرالله نفسه خطيبًا في منبر الشهداء، وذلك بعد إنجاز الترتيبات المتعلقة بالتحقيقات في جريمة القنيطرة ووداع الشهداء وصوغ قرار الرد الذي اتخذ منذ اللحظة الأولى، على أن يبقى التنفيذ رهن الميدان.
بالأمس، شيعت الضاحية الجنوبية لبيروت و “حزب الله”، جثمان الشهيد المقاوم جهاد مغنية إلى جوار والده الشهيد عماد مغنية (“الحاج رضوان”) في روضة الشهيدين، ومن المقرر أن يُشَيَّعَ، اليوم، جثمان الشهيد محمد أحمد عيسى (“أبو عيسى”)، في بلدته عربصاليم، على أن تُحَدَّدَ مراسمُ تشييع الشهداء علي حسن إبراهيم (“إيهاب”)، عباس إبراهيم حجازي (“السيد عباس”)، محمد علي حسن أبو الحسن (“كاظم”) وغازي علي ضاوي (“دانيال”) بعد اكتمال الإجراءات اللازمة، فيما أعلن “حزب الله” عن تقبل التعازي والتبريكات بالشهداء الستة في مجمع الإمام المجتبى في الحدث اليوم وغدًا من الثانية بعد الظهر ولغاية الخامسة عصرًا.
وكان لافتًا للانتباه الاتصال الذي أجراه رئيس الحكومة تمام سلام، أمس، بالمعاون السياسي للأمين العام لـ “حزب الله” الحاج حسين الخليل وقَدَّمَ خلاله التعازي باسمه وباسم الحكومة إلى قيادة “حزب الله”. وتلقت قيادة الحزب سيلًا من اتصالات التعزية والتبريك من عدد كبير من الأحزاب والشخصيات اللبنانية والعربية والإسلامية.
ولليوم الثاني على التوالي، ظل السؤال متمحورًا حول ما بعد عملية القنيطرة، وأية قواعد اشتباك ستنتج منها، ما هي طبيعة رد المقاومة اللبنانية، في أية ساحة وفي أي توقيت، وبأي أسلوب، هل بالأمن أم بالعسكر أم بهذا وذاك؟
عمليا، هذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها “حزب الله” عن استهداف مقاوميه بالنار الإسرائيلية على أرض سوريا في سياق استهداف عسكري مباشر (وليس أمنيًّا على طريقة استهداف الشهيد عماد مغنية).
إذًا، صارت “الجبهة” واحدة من الناقورة إلى القنيطرة، ولعل أبلغ إشارة إلى ذلك تعمد الإسرائيليين تسريب اسم أحد المقاومين (ابو علي طباطبائي) بوصفه المستهدف بالهجوم، وهو ممن كان يجري تداول إسمهم دائما في الإعلام الإسرائيلي بصفته مسؤولًا عن “كل” الجبهة الشمالية.
“وحدة الجبهة” قاعدة الرد المقبل
وعلى قاعدة “وحدة الجبهة”، يمكن للمقاومة أن تضع معطيات جديدة، أبرزها أنه من حقها أن ترد في الجولان السوري المحتل، ما دام استهداف المقاومين حصل على هذه الأرض، غير أن ذلك يستوجب الانتقال إلى أسئلة من نوع آخر، يتجاوز “الحق” إلى دور كل أطراف “الجبهة” في الرد، وهنا، لا بد من سؤال سوري محوري حول المصلحة والقدرة على تحمل مواجهة من هذا النوع، وماذا إذا تدحرجت الأمور وإلى أين يمكن أن تصل؟
زد على ذلك أسئلة أخرى مرتبطة بتقصد “الحرس الثوري” الإيراني، للمرة الأولى، الإعلان عن استشهاد العميد محمد علي الله دادي، أحد مستشاري قائد “فيلق القدس” الجنرال قاسم سليماني للشؤون السورية، وهل ينطوي ذلك على رسالة معينة انطلاقًا من كلام السيد نصرالله الأخير عبر شاشة “الميادين” بشمولية رد “المحور” على أي اعتداء إسرائيلي في سوريا، وهل تجد إسرائيل نفسها أمام احتمال رد ثنائي، خصوصًا أنها جعلت نفسها والمنطقة أمام سيناريو “حافة الهاوية”؟
حتى ساعة متأخرة من ليل أمس، لم يكن “حزب الله” قد أنجز تحقيقه الذي سيجيب على الكثير من الأسئلة سواء حول طبيعة الشخصية المستهدفة، بمعزل عن أهمية من سقطوا بالصاروخين (وبينهم قائد القطاع الشهيد محمد عيسى) وهل حصل خطأ تقني ـ أمني (من نوع الإعلان المسبق عن زيارة المجموعة) أم حصل خرق أمني كبير (عملاء على الأرض)، خصوصًا أن العملية سبقها ورافقها تحليق مكثف للطيران المروحي والحربي الإسرائيلي في سماء المنطقة المنزوعة السلاح، وعلى بعد نحو 500 متر من أحد مراكز “الأندوف”، أي أن الموكب ربما كان قيد الرصد قبل وصوله إلى المنطقة؟
الضربة أكثر من موجعة لـ “حزب الله” الذي يعتبر الرد عليها “بمثابة تحصيل حاصل”، ولكن إذا كان للعملية الإسرائيلية ظروفها وتوقيتها وأسلوبها، فإن الرد “له ظروفه وتوقيته وأسلوبه والسيد نصرالله سيطل، لكن التوقيت غير محسوم، فلقد كان مقررًا قبل العملية أن يتحدث في احتفال الذكرى السابعة لاغتيال الشهيد عماد مغنية في 16 شباط المقبل، أما الآن، فقد صار مرجحًا أن يتحدث في احتفال مركزي يجري التداول بإقامته في الضاحية يوم الأحد المقبل”.
إسرائيل صامتة رسميًّا حتى الآن
في غضون ذلك، لم يصدر عن إسرائيل أي اعتراف رسمي بعملية القنيطرة، فيما انشغلت الصحافة الإسرائيلية بتقديم تحليلات حول أبعادها وتداعياتها، فوصفها بعض المعلقين بأنها “لعبة نار” و “مجازفة خطيرة”، وذهب المراسل العسكري لصحيفة “هآرتس” عاموس هارئيل إلى حد اعتبار العملية “حدثًا دراماتيكيًّا” قد يقود إلى تصعيد شامل، مشيرًا إلى أن قيادة الجيش الإسرائيلي “ترى أن “حزب الله” سوف يرد وإن كان ليس معلومًا بعد مستوى الرد”.
وفيما لَمَّحَ نائب رئيس الأركان سابقا والمرشح الأمني على قائمة “كلنا”، الجنرال يؤآف غالانت إلى وجود شبهات بأن ثمة دوافع انتخابية خلف الغارة، كتب عاموس هارئيل أن الغارة كانت مفاجئة، وقد تؤدي إلى تصعيد حقيقي في الشمال.
واللافت ايضا ما أورده المعلق العسكري لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، أليكس فيشمان في مقالة حملت عنوان “يلعبون بالنار” حيث اعتبر ما جرى بأنه أشبه بـ “أحد ما ألقى بعود ثقاب نحو برميل بارود والآن ينتظر أن يرى ما إذا كان سينفجر أم لا”؟ وخلص للقول: “إن المواجهة ستحصل، والسؤال متى، هل هذه السنة، أم بعد أن تتضح الصورة في سوريا”؟
وأَقَرَّ المعلق العسكري للقناة الإسرائيلية العاشرة ألون بن دافيد أن إسرائيل فتحت بهذه العملية “جبهة جديدة”، وقال: “ليست هنالك إمكانية لأن يستوعب “حزب الله” ضربة كهذه من دون رد”.
وسأل المعلق الأمني في “معاريف الأسبوع” يوسي ميلمان: “هل العملية خطوة جريئة أم مجازفة خطرة”، وقال: “نرجو ألا يندم من اتخذ قرار التصفية، وان يكون خرق إسرائيل كما يبدو لقواعد اللعب هو خطوة جريئة وليس قرارا مغامرا يؤدي إلى حريق كبير في الحدود الشمالية”.
والأكيد، بحسب الاستنتاجات الأولية، أنه مهما كان التوقيت وحجم الرد، فإن أقصى ما يمكن أن تطمح إليه إسرائيل في أي مواجهة مقبلة هو الحد من حجم الدمار في جبهتها الداخلية، خصوصًا أنها في مواجهة جبهة تقوم منذ سنوات بتعزيز آليات عمل غرفة عمليات مشتركة تعتمد أسلوب عماد مغنية الهادئ والحاسم في الرد في لحظة معينة… من خارج الحسابات والتوقعات الإسرائيلية.
المصدر: صحيفة “السفير” اللبنانية