الصّف المرصوص
هل المطلوب القتال كيفما اتّفق؟ وكيفما شئنا؟
نلاحظ في الآية أَنَّ التأكيد ليس على القتال بما هو قتال، وكيف اتّفق، بل على قتالٍ من نوعٍ خاص تتجلّى فيه مظاهر الوحدة والانسجام التّام، كالبنيان المرصوص في مواجهة الأعداء القتال الَّذِي يعكس وحدة القلوب والأرواح، ويعكس العزائم الحديدية الراسخة في مشهدٍ متراصٍّ ليس فيه تصدّع أو خلل.
وما دام أَنَّ العدو يزحف كالسيل العارم المدمّر والهادر، فإنّه لا نجاة لنا من تبعاته إِلَّا بأنْ نشكّل سدّاً محكماً في وجهه، وأنْ لا نتساهل مع كلّ جزءٍ جزءٍ من هذا السدّ, فإنّ أيّ ثغرةٍ يُحدثها العدوّ في هذا السدّ فسوف يكون لها آثارٌ خطيرةٌ ووخيمة.
أجل، هكذا ينبغي أنْ يكون القرآن حاضراً بيننا، نبثّه وَجَعَنا وشكوانا، فيغدق علينا تِرياق الحياة الشامخة والعزيزة.
أجل، لو فتحنا مغاليق هذه الآية لوجدنا أَنَّها ركّزت على مسألة مهمّة: وهي لا بدّية أنْ يكون الجسم الجهادي بكافّة أقسامه ومتفرّعاته بمنزلة بنيان محكم، يشدّ بعضُه أزر بعض, فاليد اليسرى عونُ اليد اليمنى، وإحدى العينين تُرْفِدُ الأخرى، والحركة الجهادية متوزّعة بين القدمين ومتّكئةٌ عليهما، والقاعدة الشعبية مرتبطةٌ ارتباطاً عضوياً مع أُولي الأمر والنهي الَّذِين يمثّلون الرأس من الجسد.
هذا النمط الجهادي الَّذِي دعا إليه الله ورغّب فيه بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.
كما قد حذّر من المشهد المضاد بقوله: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ ، في أجمل تعبيرٍ يمكن أن يخطر على البال، فالتنازع يؤدّي إِلَى الفشل، والفشل مصيره إِلَى ذهاب صولتكم وقوّتكم وشوكتكم ودولتكم.
كَبُرَ مقتاً
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾.
تعرّضت هذه الآية المباركة لذكر واحدةٍ من الصِّفات المذمومة التي ينبغي للمؤمن تجنُّبها والتنزّه عنها، وهي: (أنْ لا يقف المؤمن عند قوله)، فكأنّ الكلام لا يزال في وثاق المؤمن ما دام لم يخرج من فيه، فإذا خرج صار رهينَ كلامه وأسيرَ أقواله، على حدّ ما يُروى عن أمير المؤمنين عليه السلام: “الْكَلَامُ فِي وِثَاقِكَ مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ، فَإِذَا تَكَلَّمْتَ بِهِ صِرْتَ فِي وِثَاقِهِ” ، وقال أيضاً: “إِذَا تَكّلَّمْتَ بِالْكَلِمَةِ مَلَكَتْكَ، وَإِذَا أَمْسَكْتَهَا مَلَكْتَهَا” .