جاء القرآن على ذكر الكثير من الموضوعات المتنوعة في إطار دعوة النفس للإيمان، فذكر السموات أحياناً و النبات أحياناً أخرى والحيوانات في بعض الأحيان للدلالة على وجود الله سبحانه وتعالى، كما دعت الكثير من الآيات الناس إلى التفكر في خلقهم، فجاءت على ذكر خلق الإنسان و المراحل التي مرّ بها وماهية جوهره: “نحن خلقناكم فلولا تصدقون”[1]..
إنّ الوجوه الإعجازية في خلق الإنسان مذكورة في هذه الآية و كثير غيرها من الآيات وقد ذكر في الآيات بعض المعلومات التفصيلية التي يستحيل أن يعرفها إنسان عاش في القرن السابع الميلادي.. ومن هذه المعلومات:
أنّ الإنسان لم يُخلق من مني بشكل كامل بل من جزء معين من السائل المنوي.
أنّ الجنين يلتصق برحم الأم مثلما تلتصق العلقة بالجسم.
أنّ الناس الذين عاشوا حين كان القرآن ينزل عرفوا بالتأكيد أن المادة الأساسية للخلق لها علاقة بالسائل المنوي الذي يخرج من الذكر و كون الطفل يولد بعد تسعة أشهر، كان واضحاً لا يحتاج إلى بحث ولكن نوعية المعلومات التي تذكرها الآيات أعلى مستوى مما كان معلوماً لدى النفس في ذلك الوقت، وهي معلومات لم يكتشفها العلم إلّا في القرن العشرين..
و لنمر على هذه المعلومات واحدة تلو الأخرى:
قطرة من السائل المنوي:
خلال العملية الجنسية يقذف الرجل 250 مليون نطفة في نفس الوقت تسافر النطف في رحلة شاقة في جسم الأم و لاتنجح خلالها إلّا ألف نطفة من أصل 250 مليون في الوصول إلى البويضة. وفي نهاية السياق الذي يمتد لخمسة دقائق تسمح البويضة التي تكون بحجم نصف ذرة من ذرات الملح لخلية منوية واحدة فقط بتلقيحها، وهذا هو جوهر الإنسان ليس السائل المنوي كله، بل قسم صغير منه فقط وهذا ما يشرحه القرآن في قوله تعالى: “أيحسب الإنسان أن يترك سدى. ألم يكُ نطفة من منيّ يمنى”[2].. و كما نرى فإن القرآن يعلمنا أن الإنسان لا يتكون من كل السائل المنوي بل من قسم صغير منه وهذا التحديد الذي تتضمنه العبارة يعلن حقيقة علمية لم تكتشف إلا بواسطة العلم الحديث مما يشكل دليلاً على أنها عبارة من أصل إلهي مقدس..
الخليط المنوي:
السائل المسمى بالمني الذي يحتوي على النطف لا يتألف من النطف وحدها بل يتكون من مزيج من السوائل. هذه السوائل لها وظائف مختلفة فهي مثلاً تحتوي على السكر الضروري لتأمين الطاقة للنطف و لتجميد الأحماض عند مدخل الرحم و خلق بيئة انزلاقية تسهل حركة النطف. و من المثير للإهتمام أن هذه المعلومات التي اكتشفها العلم الحديث يشير إليها القرآن الكريم حيث يعرّف الخليط المنوي بما يلي: “إنّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً”[3].. وفي آية أخرى أيضاً يشار إلى المني على أنه خليط و يشدد على أن الإنسان خلق من مستخلصات هذا الخليط “الذي أحسن كل شيء خلقه و بدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل من نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين”[4]. و كلمة “سلالة” تعني مستخلصاً أو خلاصة أو أفضل قسم من الشيء وفي كل معنى من معانيها تشير إلى جزء من كل، وهذا يدل على أن القرآن صادر من الإرادة الكلية التي خلقت الإنسان والتي تعلم أدق تفاصيل هذا الخلق، هذه الإرادة الكلية هي إرادة الله تعالى خلق الإنسان..
جنس المولود:
حتى زمن قريب كان الإعتقاد السائد أن جنس المولود تحدده خلايا الأم أو على الأقل تحدده خلايا الأب و الأب مجتمعة، ولكن القرآن أعطانا معلومات مختلفة عن هذا الموضوع حيث ذكر أن الذكورة و الأنوثة تخلق من نطفة إذا تمنى، “و أنه خلق الزوجين الذكر و الأنثى. من نطفة إذا تمنى”[5].. إنّ التطورات الحاصلة في علم الجينات والبيولوجيا أثبتت دقة المعلومات التي أعطاها القرآن الكريم وقد فهم الآن أن جنس المولود تحدده نطف المني للرجل و أنّ المرأة لا دور لها في هذه العملية.. الكروموزومات هي العنصر الرئيسي في تحديد جنس المولود إثنان من 46 كروموزومات تسمى كروموزومات الجنس مسؤولة عن تحديد بنية الإنسان وهذه الكروموزومات هي x yفي الذكور و xx في الإناث، حيث يشبه شكل الكروموزومات هذه الأحرف، بجعل كروموزوم y الشفرة الجينية المتعلقة بالذكورة فيما يجعل كروموزوم x للشفرة الجينية المتعلقة بالأنوثة.. إن تكوّن الإنسان يبدأ بتقاطع واحدة من هذه الكروموزومات التي توجد في الذكر وفي الأنثى على شكل أزواج وكل مكونات الخلية الجنسية للأنثى التي تنقسم خلايا الإباضة أي بعد خروج البويضة من المبيض تحمل كروموزوم x من ناحية أخرى الخلية الجنسية للرجل تنتج نوعين مختلفين من النطف أحدهما يحتوي على كروموسوم x والثاني يحتوي على كروموسوم y إذا اتحد كروموزوم x من المرأة مع نطفة تحتوي على كروموزوم x من الرجل يكون المولود أنثى و إذا كانت النطفة تحتوي على كروموسوم y يكون المولود ذكراً. و بكلمات أخرى إن جنس المولود تحدده كروموزومات الذكر التي تتحد مع بويضة المرأة. ولم يعرف أي من هذه المعلومات قبل أن يكتشف علم الجينات في القرن العشرين و بالفعل فإن الكثير من الحضارات كانت تعتقد أن جنس المولود يحدده جسم الأنثى و لهذا كانت المرأة ملامة إذا أنجبت أنثى. في حين أن القرآن الكريم كشف معلومات تنفي هذه الخرافات قبل ثلاثة عشر قرناً من اكتشاف جينات الإنسان و أشار إلى أن أصل جنس المولود لا يعود إلى المرأة بل إلى المني الذي يأتي من الرجل.
العلقة التي تتشبث بالرحم:
إذا استمرينا في تفحّص الحقائق التي يعلنها القرآن الكريم لنا حول تكوين الإنسان نصادف مرة أخرى معجزات علمية مهمة جداً. عندما تتحد نطفة الرجل ببويضة المرأة فإنّ جوهر المولود المنتظر يتكون من الخلية الوحيدة التي تسمى اللافخة zygote في مصطلحات البيولوجيا سوف تبدأ فوراً بالتولد من خلال الانقسام وفي النهاية تصبح قطعة لحم تسمى الجنين embryo وهذا بالطبع لا يمكن أن يراه الناس إلّا بمساعدة الميكروسكوب.. ولكن الجنين لا يقضي فترة تطوره في الفراغ و إنما يتعلق في الرحم تماماً كما تتشبث الجذور في التربة بواسطة محالفها ـ الأجزاء المنفرشة من الجذور).. و من خلال هذا الإرتباط يمكن للجنين أن يحصل على المواد الضرورية لنموه من جسم والدته .. وهذه النقطة بالذات تكشف معجزة قرآنية فريدة فعند وصف تطوّر الجنين في رحم الأم يستخدم الله سبحانه وتعالى لفظ “علق” إذ يقول تعالى: “إقرأ بإسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق”[6].. والعلق في اللغة هو الشيء الذي يلتصق في مكان ما و الكلمة بحرفيّتها تستعمل أيضاً لوصف العلق الذي يلتصق بالجسم ليمتص الدم. و طبعاً فإن استخدام الكلمة المناسبة لوصف تطور الجنين في رحم الأم تثبت مرة أخرى أن للقرآن وحي من الله سبحانه وتعالى و أنه كلام الله..
العضلات التي تلتف حول العظام:
هناك وجه آخر مهم من أوجه المعلومات يذكره القرآن الكريم حول مراحل تكوّن الإنسان في رحم الأم يتجلّى فيما ذكرته الآيات حول تكوّن العظام أولاً تليها بعد ذلك العضلات. “ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ..”[7]، ظل المختصون في علم الأجنة وهو العلم الذي يدرس تطور الجنين في رحم الأم حتى فترة قريبة يفترضون أن العظام و العضلات تتكون في وقت واحد…
نداء الأحمد ـ الحجاز
[1] سورة الواقعة 57ـ 59 [2] سورة القيامة 36ـ 37 [3] سورة الإنسان 2 [4] سورة السجدة 7ـ8 [5] سورة النجم 45ـ 46 [6] سورة العلق 1ـ 3 [7] سورة المؤمنون 14