بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتم السفراء المقربين أبي القاسم محمد بن عبد الله صلى الله وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين الهداة الميامين.
والسلام على مولانا الإمام محمد بن علي التقي الجواد عليه السلام، غصنٌ من أغصان الشجرة النبوية الطيِّبة، وفرع من الدوحة الهاشمية المحمدية المباركة، الإمام التاسع من أئمة أهل البيت، الذين اختارهم الله لقيادة هذه الأمة، وانتجبهم لهداية العباد وإصلاح البلاد. من فاق الناس بطهارة العنصر وزكاء الميلاد، مجده عالي المراتب الرفيعة تسمو على الكواكب ومنصبه يشرف على المناصب تتأرَّج المكارم من أعطافه، ويقطر المجد من أطرافه، وتدوِّي أخبار السماح عنه وعن أبنائه وأسلافه، فطوبى لمن والاه، والويل لمن رغب عنه، فهو من أهل بيت بهم اتضحت سبل الهدى وبهم سلمت الأمَّة من الردى وبحبهم ترجى النجاة والفوز غدا، وهم أهل المعروف وأولوا الندى، حبُّهم فريضة لازمة ودولتهم باقية دائمة، وثغور محبتهم باسمة، وكفاهم شرفا أنَّ جدهم محمد المصطفى وأباهم علي المرتضى وأمهم فاطمة الزهراء عليهم آلاف التحية والثناء.
عن حكيمة بنت الإمام الكاظم عليه السلام قالت:
لما حضرت ولادة خيزران دعاني الرضا عليه السلام وقال: يا حكيمة أحضري ولادتها وأدخلني والقابلة وإياها وأغلقَ الباب ووضع مصباحا، فلما أخذها الطلق، أُطفأ المصباحُ وبين يديها طشت، فاغتمت لطفئ المصباح، فبينما نحن كذلك إذ بدَرَ أبو جعفر عليه السلام في الطشت، فكانت الولادة، وإذا عليه شئٌ رقيق كهيئة الثوب، يسطع نور وجهه حتى أضاء البيت فأبصرناه فأخذته ووضعته في حجري ونزعت عنه الغشاء، فجاء الرضا عليه السلام ففتح الباب وقد فزعناه من أمره، فأخذه ووضعه في المهد وقال لي: يا حكيمة ألزمي مهده، فلما كان اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثمَّ نظر يمنة ويسرة ثم قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم.
فقمت ذَعرةً فزِعة فأتيتُ أبا الحسن عليه السلام فقلت له:
قد سمعت من هذا الصبي عجباً.
فقال عليه السلام: ما ذاك
فأخبرته
فقال يا حكيمة: ما ترين من عجائبه أكثر.
وقد قال الإمام الرضا لأصحابه:
” لقد ولد لي شبيه موسى بن عمران فالق البحار، وشبيه عيسى بن مريم ، قدِّست أمٌّ ولدته، قد خلقت طاهرة مطهَّرة”.
ونص الرضا أن الجواد خليـفتي
عليكم بأمـر الله يقضي ويحـكم
هو ابن ثلاث كلَّـم الناس هـادياً
كما كان في المهد المسيح يكـلم
سلوه يجبكم وانظروا ختـم كـفِّه
ففي كتـفه ختم الإمـامة يختـم
بسم الله الرحمن الرحيم
نُـورٌ.. مِنْ قَمَـرِ النُّبُـوَّةِ
دَعانِي التاريخُ إِلى مَسْرحِ أَحداثِهِ.. فَسِرْتُ مَعَهُ مُلَبِّياً دَعْوَتِهِ.. دَخَلْتُ قَاعَةً كَبِيرَةً.. وَجَلَسْتُ أمامَ سَتائرَ سَرعانَ مَا انْفَرَجَتْ فَإذا بِي أُشاهِدُ الإمام مُحمّداً بنَ عليٍّ الجوادَ عليه السلام صَبيّاً في الثامِنَةِ مِنْ عُمْرِهِ يَتَمَشَّى عَلى جانبٍ مِنَ الطَريقِ.. فَجَعَلَنِي أَقِفُ مَذْهُولاً عاجِزاً عَنْ وَصْفِ هَيْبَتِهِ وَوِقارِهِ.. وَعَنْ وَصْفِ تَلْكَ الأنوار القُدْسِيَّةِ الّتِي يَشُعُّ بِها وَجْهُهُ الكَرِيمُ.. لَحظاتٌ وَإذا بالشَبابِ والصِبيانِ يُهَرْوِلُونَ نَحْوَهُ مِنْ جَميعِ الاتِّجاهاتِ يَدْفَعُهُمْ حُبُّهُمْ وَشَغَفُهُمْ بِهِ.. فَتَجَمَّعوا حَولَهُ يَسْتَمِعونَ إِلى كَلامِهِ وَقَدْ غَرِقوا فِي حالَةٍ مِنَ التَأَمُّلِ والتَفكِيرِ.. كَيفَ لا يَكونُونَ كَذلِكَ وَهُمْ أَمامَ الذِي بَرَزَ عَلى أَهلِ زَمانِهِ عِلماً وفَضْلاً.. وأَجَلُّ أَهلِهِ قَدْراً وكَمالاً..
فَجْأةً !! وإذا بِالشَبابِ والصِبيانِ يَهْرَبُون مَذعُورِينَ نَحوَ اتِّجاهاتٍ مُخْتلِفَةٍ.. هذا لأنَّ المأْمونَ الحاكِمَ العبّاسيَّ قَدْ ظَهَرَ عَلى المَسرَحِ بَينَ مَجموعَةٍ مِنْ حُرّاسِهِ وَهُوَ يَمْتَطِي صَهوةَ فَرَسِهِ وَيَحمِلُ بِيدِهِ طائِراً يُدعى البازُ.. وراحَ يَتَّجِهُ نَحوَ الإمام مُحمّدٍ بنِ عَليٍّ الجوادِ عليه السلام حَيثُ لَمْ يَبقَ فِي ذلكَ المكانِ سِواهُ..
فَقالَ لَهُ: ـ لِمَ لَمْ تَهربْ كَما فَعَلَ الصِبيانُ..؟!
فَرَدّ عَلَيهِ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ ما لِي ذَنْبٌ فَأَفِرَّ مِنْهُ.. وَلا الطريقُ ضَيّقٌ فَأُوَسِّعَهُ عَلَيكَ.. سِرْ حَيثُ شِئْتَ..
فَقالَ المأمونُ: ـ مَنْ تكونُ أَنتَ..؟!
فَرَدّ عَليهِ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ أَنا مُحمّدٌ بنُ عليٍّ بنِ موسى بنِ جَعفرٍ بنِ مُحمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ الحُسينِ بنِ علي بنِ أَبي طالبٍ عليهم السلام..
فَقالَ لَهُ المأْمونُ: ـ مَاذا تَعرِفُ مِنَ العُلومِ..؟
قالَ الإمام الجَوادُ عليه السلام: سَلْنِي عَنْ أَخبارِ السَماواتِ..
أَطْلَقَ المأْمونُ البازَ مِنْ بَينَ يَديهِ.. فَحَلَّقَ البازُ عالياً في الفَضاءِ.. وَعادَ المأْمون.. فَلَمّا رَجَعَ إِليهِ البازُ.. كانَ يَحْمِلُ إليه بِمِنقارِهِ شَيئاً.. فَأَخْفاهُ المأْمونُ بَينَ يَديهِ،
وَعادَ للإمام قائِلاً: ـ مَاذا عِنْدَكَ مِنْ أَخبارِ السماءِ..؟!
فَأَجابَهُ الإمام عليه السلام:
ـ حَدّثَنِي أَبي عَنْ آبائِهِ عَنِ النَبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ جبرَئِيلَ عَنْ رَبِّ العالمينَ أَنّهُ قَالَ: بَينَ السماءِ والهَواءِ بَحْرٌ عَجاجٌ.. تَتَلاطَمُ بِهِ الأمواج فِيهِ حيّاتٌ خُضْرُ البُطونِ.. رُقْطُ الظُهورِ.. تَصيدُها بازاتُ المُلوكِ والخُلفاءِ.. فَيَختَبِرونَ بِها سُلالَةَ أَهلِ بَيتِ النُبُوَّةِ..
تَعَجَّبَ المأْمونُ مِنْ جَوابِ الإمام الجوادِ عليه السلام
فَقالَ لَهُ: ـ أَنْتَ ابنُ الرِضا حَقّاً.. ومِنْ بَيتِ المُصطفى صِدْقاً..
فَأَرْكَبَهُ على فَرَسٍ واصْطَحَبَهُ مَعَهُ إِلى القَصْرِ..
وَفي هذِه الأثناء.. شَعَرْتُ بِيدٍ تُلامِسُ كَتِفي.. وَتَهُزُّهُ بِرِفْقٍ.. فَانْتَبَهْتُ وإِذا بِولَدِي حامدٍ وَهُو يَقولُ لِي:
– أَبي لَقدْ مَضى عَليكَ وَقْتٌ طَويلٌ وأنت في حالَةِ صَمْتٍ وتَفكِيرٍ.. هَلْ هُناكَ مُشكلةٌ لا سَمَحَ اللهُ.. ؟!
فَابتَسَمْتُ بِوَجْهِ وَلدِي حامدٍ وَأَنا أَقولُ لَهُ: ـ كُنتُ أُفَكِّرُ في أَحداثِ زَمَنٍ بَعيدٍ.. وَكَأَنِّي أَشْهَدُها الآنَ أَمامِي..
يا لَها مِنْ أَحداثٍ يا بُنيَّ حِينَ الْتَقَى المأمونُ بِشخصِ الإمام مُحمّدٍ بنِ عليٍّ الجوادِ عليه السلام وَقدْ كانَ عُمْرُ الإمام الجَوادِ عليه السلام آنَذاكَ ثماني سَنواتٍ..
ـ وأَينَ التَقى المأمونُ بالإمام الجوادِ عليه السلام يا أَبِي؟
ـ في بَغْدادَ..
ـ فِي بَغدادَ..؟!!
قالَها وَلدِي حامدٌ بِدَهْشَةٍ.. ثُمَّ أَرْدفَ قائِلاً:
ـ لكِنَّ الّذي أَعرِفُهُ يا أَبي هُوَ أَنَّ الإمام الجوادُ عليه السلام كانَ يَعِيشُ في المدِينَةِ المنَوَّرَةِ.. لأنها مَدِينَةُ جَدِّهِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم .. .
ـ هذا صَحيحٌ يا بُنيَّ.. وَلكِنْ أَنتَ تَعرِفُ مَوقِفَ الأمويين والعبّاسيّينَ مِنْ آلِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لِذلِكَ أَرسلَ المأمونُ في جَلْبِ الإمام الجَوادِ عليه السلام مِنَ المدينةِ إِلى بَغدادَ لِيكُونَ عَلى مَقْرُبةٍ مِنْهُ.. وَلْيَتَهَيَّأَ لَهُ الإشراف بِواسِطَةِ عُيونِهِ وَرُقبائِهِ عَلى مُجْمَلِ تَحرّكاتِهِ واتِّصالاتِهِ.. وَلمّا وَصلَ الإمام الجوادُ عليه السلام إلى بَغدادَ.. لَمْ يَطْلُبْ المأمونُ لِقاءه في بِدايةِ وُصولِهِ.. وإنَّما تَركَهُ حتّى يَلْتقِي بِهِ ذاتَ يومٍ..
ـ وَماذا كانَ يَهدِفُ المأمونُ مِنْ تَأْخِيرِ لِقائِهِ بِالاِِمامِ الجَوادِ عليه السلام؟
ـ هُناكَ عِدَّةُ أَسبابٍ يَا وَلدِي، مِنْها: هُوَ أَنَّ المأمونَ كانَ يَهدِفُ إلى ضَبْطِ تَحرُّكاتِ الإمام عليه السلام وَلقاءاتِهِ مَعَ الناسِ.. والسَبَبُ الآخَرُ : كانَ يُريدُ الاسْتِخْفافَ بالإمام عليه السلام وَتِلكَ هِيَ مَواقفُ الحُكّامِ مِنَ الأئمة عليهم السلام..
ـ مَعنى هذا يا أَبي أِنَّ المأمونَ كان يَبْحَثُ عَن طَريقةٍ لِقَتلِ الإمام الجوادِ عليه السلام كَما فَعَلَ مَعَ أَبِيهِ الإمام الرِضا عليه السلام ..
ـ هذا صَحيحٌ يا بُنَيَّ.. وَلكِنْ هُناكَ أَسبابٌ كثيرةٌ تَمنَعُ المأمونَ مِنِ اتّخاذِ خطةٍ سَرِيعةٍ بَهذا الصَدَدِ.. مَنها أَوّلاً: هُو أن المأمونَ وَجَدَ نَفْسَهُ فِي مَوقِفٍ صَعْبٍ جداً بَعْدَ قَتْلِهِ للإمام عليٍّ بنِ مُوسى الرِضا عليه السلام وذلِكَ لأنَّ جَميعَ الناسِ أشارُوا إِليهِ بِأَصابِعِ الاتّهامِ.. وافْتُضِحَ أَمرُهُ.. فَأَرادَ إِظهارَ احْتِرامِهِ.. وَتقدِيرِهِ وَمَحَبَّتِهِ للإمام مُحمّدٍ الجَوادِ عليه السلام فَيكُونُ بِذلِكَ قَدْ قَدَّمَ دَلِيلاً لَرُبَّما يَنْطِلي عَلى الكثيرِينَ مِنَ الناسِ.. وَيُثْبِتُ لَهُمْ إِلى حَدٍّ ما حُسْنَ نَواياهُ تِجاهَ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيْتِ عليهم السلام وَالسَبَبُ الآخَرُ: هُوَ أَنَّ المأمونَ أَرادَ استِغلالَ عُمْرِ الإمام محمّدٍ الجوادِ عليه السلام كَونُهُ ما يَزالُ صَبيّاً.. وَقَدْ كانَ يَعتَقِدُ أَنَّهُ لا يَمْلِكُ مِنَ العِلمِ مَا يُؤَهِّلُهُ للإمامة.. فأَراد المأْمونُ بِذلكَ أَنْ يَضعَ الإمام الجوادَ عليه السلام فِي مُناظَرةٍ يَظُنُّ مِنْ نَتيجَتِها أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ مَكانَتِهِ عليه السلام أَمامَ الناسِ..
فَقالَ حامدٌ بِتَعَجُّبٍ شَدِيدٍ:
ـ هذا الحاكِمُ يا أَبي يُفَكِّرُ عَلى نحوٍ يَختلِفُ تَماماً عَمّا كانَ يُفَكِّرُ بِهِ حُكّامُ الأمويين والعبّاسيّين.. فَهُوَ يُظهِرُ للأئِمّةِ أَهلِ البَيتِ عليهم السلام حُبّاً وتَعظيماً ويُخْفي مَكْراً شَديداً.. وكَيْداً عظيماً.. يُريدُ بِذلِكَ انْهِيارَ المذهَبِ الشِيعيِّ بِانْهِيارِ فِكْرةِ الإمامة فِيهِ.. وَإِطْفاءِ نِجْمِها المتَأَلِّقِ.. وهذا ما يَسعى إِليهِ المأْمونُ الآنَ مَعَ الإمام محمّدٍ الجوادِ عليه السلام ..
ـ نَعَمْ يا بُنيَّ.. لذلك كان أوّلَ مَا اتَّبَعهُ المأْمونُ في خِطَّتِهِ لإبعادِ كُلِّ شُبْهةٍ عَنْهُ أنّهُ أَمَرَ بِتَزويجِ ابْنَتِهِ أُمُّ الفَضْلِ مِنَ الإمام محمّدٍ الجوادِ عليه السلام فَاعْتَرَضَ المُقرَّبُونَ مِنَ المأمونِ..
واجْتَمَعوا حَولَهُ مَعاتِبينَ:
ـ أَتُزَوِّجُ ابْنَتَكَ وَقُرَّةَ عَينَيْكَ صَبيّاً لَمْ يَتَفَقَّهْ في دِينِ اللهِ بَعْدُ.. وَلا يَعرِفُ حَلالَهُ مِنْ حَرامِهِ..؟! اصبِرْ عَليهِ حتّى يقرأَ القُرآنَ.. ويَعرِفَ الحلالَ مِنَ الحرامِ..
فقالَ لَهُمْ المأمونُ:
ـ إِنّهُ لأفْقَهُ مِنْكُمْ.. وأَعْلَمُ بِأَحْكامِ اللهِ تَعالى وسُنّةِ رَسولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم.. وأَقْرأُ لِكتابِ اللهِ مِنْكُمْ.. وأَعْلمُ مِنْكُمْ بِمُحْكَمِهِ ومُتَشابِهِهِ.. وناسِخِهِ ومَنْسُوخِهِ.. وظاهِرِهِ وباطِنِهِ.. وخاصِّهِ وعامِّهِ.. وتَنْزِيلِهِ وتأْوِيلِهِ.. اسألُوهُ فَإنْ كانَ الاَمرُ كَما وَصَفْتُمْ.. قَبِلْتُ مِنْكُمْ..
فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ.. وبَعثُوا إِلى قاضِي القُضاةِ يَحيى بنِ أَكْثَمَ.. وجَعلوا حاجَتَهُمْ إليهِ فَأَطمَعُوهُ بالهدايا مُقابِلَ أنْ يحتالَ عَلى الإمام محمّدٍ الجوادِ عليه السلام في أَسئلَةٍ لا يَدرِي مَا الجوابُ عَليها..
وَهُنا سأَلَنِي وَلدِي حامدٌ وقَدْ كانَ يَنْتظِرُ نَتائِجَ الأحداث عَلى أَحرٍّ مِنَ الجَمْرِ:
ـ فَما كانَ دورُ الإمام محمّدٍ الجوادِ عليه السلام إِزاءَ هذِهِ الُمحاوَلاتِ يا أَبي.. ؟!
ـ اجْتَمَعَ المأمونُ بالإمام الجوادِ عليه السلام ويَحيى بنِ أَكْثَمَ.. أَمامَ جمعٍ غَفيرٍ مِنَ العبّاسيّينَ وغيرِهِمْ..
فَقالَ المأمونُ مُوَجِّهاً كلامِهِ إلى يَحيى بنِ أَكْثَمَ:
ـ سَلْهُ يا يَحيى أَوّلاً عن مَسائِلِ الفَقْهِ..
فَوَجَّهَ يَحيى كلامَهُ إِلى الإمام الجَوادِ عليه السلام سائِلاً إيّاهُ:
ـ أَصْلَحَكَ اللهُ، ما تقولُ فِي مُحْرِمٍ قَتَلَ صَيْداً..؟
فَقَالَ لَهُ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ أَقَتَلَهُ في حِلٍّ أمْ حَرمٍ..؟ عالِماً كانَ أَمْ جاهِلاً..؟ عَمْداً أمْ خَطأً..؟ عَبْداً كانَ الُمحرِمُ أَمْ حُرّاً..؟ صَغِيراً كانَ أَمْ كَبيراً..؟ مُبدِئاً أمْ مُعيداً..؟ هَلْ الصيدُ كانَ مِنْ ذواتِ الطَيرِ أَمْ غيرِهِ.. مِنْ صِغارِ الطَيرِ كانَ أَمْ كبيرِهِ..؟ مُصِرّاً أَمْ نادِماً..؟ بالليلِ كانَ الطيرُ في وكرِهِ أمْ نَهاراً أَمامَ عيونِ الناسِ؟ والُمحرِمُ هَلْ كانَ مُحرِماً للحَجِّ أَمْ للعُمْرةِ..؟
فَانْقَطعَ يَحيى انْقِطاعاً لَمْ يَخْفَ عَلى أحدٍ مِنْ أَهلِ المجلِسِ.. وتَحَيَّرَ الناسُ عَجَباً مِنْ كلامِ الإمام محمّدٍ الجوادِ عليه السلام فَأَشارَ المأمونُ إلى الإمام عليه السلام بِأنْ يُعرِّفَهُمْ عَلى كلِّ صِنْفٍ مِنَ الصَيدِ.. فَبَيَّنَ لَهُمْ الإمام حُكْمَ كلِّ حَالَةٍ مِنْ هذِهِ الحالاتِ.. مِمّا زادَ في تَعَجُّبِ الحاضِرينَ ودَهْشَتِهِمْ..
فَالْتَفَتَ المأمونُ إلى المقَرَّبِينَ إِليهِ مِنْهُمْ قائِلاً:
_ هَلْ فِيكُمْ مَنْ يُجِيبُ مِثْلَ هذا الجَوابِ..؟!!
فَقالوا لَهُ:
ـ لا واللهِ، وَلا حتّى القاضِي..
فَقالَ لَهمْ المأمونُ وقدْ خابَ أَملُهُ في النَيلِ مِنَ الإمام الجوادِ عليه السلام:
ـ ويْحَكُمْ أَما عَلِمْتُمْ أن أهلَ بَيتِ النُبُوَّةِ لَيسوا خَلْقاً مِثلَكُمْ..؟!
وَهُنا عَلَتْ وَجْهَ وَلدِي حامدٍ فَرحةٌ عظيمةٌ.. وأَشْرَقَتْ على شَفَتَيْهِ ابْتِسامَةٌ جميلةٌ وَهُوَ يَقولُ :
ـ أَمامَ هذا العِلمِ والنُورِ الإلهي لآلِ رَسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لا يُمْكِنُ لأحدٍ إلاّ أن يَعتَرِفَ بِهِمْ رَغماً عَنْهُ..
ـ نَعمْ يا بُنيَّ.. فَقدْ ذُهِلَ المأمونُ من إِجابَةِ الإمام الجوادِ عليه السلام وكَذلِكَ ذُهِلَ الحاضِرونَ لاسيّما يحيى بنُ أَكَثَمَ.. فَقَدْ وَجَدَ نَفْسَهُ في أَشَدِّ حالاتِ الرُعْبِ والارْتِباكِ والحِيرَةِ مِنْ أَمْرِهِ.. لا يَعرفُ مَاذا يَفْعَلُ.. فراحَ يَسألُ الإمام الجوادَ عليه السلام أَسئلةً أُخرى لَعَلَّهُ يُفْلِحُ مِنْهُ في شيءٍ:
ـ مَا تقولُ يا ابنَ رَسولِ اللهِ في هذا الخَبَرِ : رُوِيَ أَنَّه نَزَلَ جبرئِيلُ عليه السلام عَلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقالَ لَهُ:
ـ يا محمّدُ إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يُقْرِئُكَ السلامُ.. ويَقُولُ لَكَ: سَلْ أَبا بَكرٍ هَلْ هُو راضٍ عَنّي؛ فَإنّي راضٍ عَنهُ..
فَردَّ عَليهِ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ يَجِبُ عَلى صاحِبِ هذا الخَبرِ أن يَأْخُذَ مِثالَ الخَبَرِ الّذِي قالِهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم في حَجّةِ الوَداعِ:
ـ (قَدْ كَثُرتْ علَيَّ الكِذابةُ وَسَتكْثُرُ بَعدي.. فَمَنْ كَذَّبَ عَلَيَّ مُتَعمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النارِ.. فَإذا أَتاكُمْ الحديثُ عَنّي فَاعرِضُوهُ عَلى كتابِ اللهِ فَما وافَقَ كِتابَ اللهِ فَخُذُوا بِهِ وَمَا خالَفَ كتابَ اللهِ فَلا تَأْخُذوا بِهِ).. وَلا يُوافِقُ هذا الخبرُ كِتابَ اللهِ.. فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالى:
(ولَقدْ خلقنا الإنسان ونَعلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُه ونَحْنُ أَقربُ إِليه مِنْ حَبلِ الوَريد) (سورة ق50:16)
فَهَلِ اللهُ تَعالى خَفيَ عَليهِ رِضاءَ أَبي بكرٍ مِنْ سَخَطِهِ.. حتى سأَلَ عن مكنونِ سِرِّهِ.. ؟! هذا مُستَحِيلٌ في العُقولِ..
فقالَ يحيى سائِلاً الإمام عليه السلام مرّةً أُخرى:
ـ وَقدْ رُوي أَنَّ مَثَلَ أَبي بكرٍ وعُمرَ فِي الأرضِ ، كَمَثلِ جبرائيل ومِيكائيلَ في السماءِ ..؟
فَأَجابَهُ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ وهذا أَيضاً يَجِبُ أنْ يُنظَرَ فِيهِ، لأنَّ جبرائيل وميكائيلَ مَلَكانِ للهِ مُقرَّبان.. لم يَعصيا اللهَ قَطٌ.. ولَمْ يُفارِقا طاعَتَهُ لَحظةً واحدةً.. وعُمَرُ وأبو بكرٍ قَدْ أَشرَكا باللهِ عَزَّ وجَلَّ ، وإِنْ أَسْلَما بَعدَ الشِرْكِ، إلاّ أَنَّ اَيّامَهُما كانَتْ أكثرُها شِرْكاً.. فَمِنَ الُمحالِ أَنْ يُشَبَّها بجبرَئيلَ وميكائيلَ..
فَلَمْ يَكْفِ يَحيى بنَ أَكْثَمَ وراحَ يَسأَلُ الإمام عليه السلام سُؤالاً آخَرَ:
ـ رُوي أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطّابِ سِراجُ أَهلِ الجَنَّةِ..؟
فَردَّ عَليهِ الإمام الجوادُ عليه السلام :
ـ وهذا أيضاً مُحالٌ، لأنَّ في الجَنَّةِ ملائِكةُ اللهِ المقَرَّبِينَ، وآدمُ، ومحمّدُ عليه السلام وجميعُ الأنبياء والمُرسلينَ، أفَلا تُضِيءُ الجَنّةُ بِأَنوارِهِمْ..؟ حتّى تُضيءَ بِنورِ عُمَرَ..!!
فعادَ يَحيى إلى السؤالِ مَرّةً أُخرى:
وَقدْ رُوِيَ أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: لَو لَمْ أُبْعَثْ لَبُعثَ عُمَرُ..
فَأَجابَهُ الإمام عليه السلام:
ـ كتابُ اللهِ أَصدَقُ مِنْ هذا الحديثِ.. إذْ يَقولُ اللهُ تَعالى فِي كتابِهِ:
(وإذْ أَخَذْنا مِنَ النَبِيّينَ مِيثاقَهُمْ ومِنْكَ ومِنْ نُوحٍ)(الأحزاب33:7).
فقدْ أخَذَ اللهُ ميثاقَ النَبيّينَ فكيفَ يُبَدِّلُ ميثاقَهُ..؟! وكُلُّ الأنبياء لمْ يُشرِكوا باللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ.. فكيفَ يَبْعَثُ اللهُ تعالى بالنبوَّةِ مَنْ أشْرَكَ بِهِ ؟! وكانَتْ أكْثَرُ أَيّامِهِ شِرْكاً.. وحَسْبُنا حديثُ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:
نُبِّئْتُ وآدَمُ بينَ الروحِ والجسدِ.
وَاسْتَمَرَّ يحيى بنُ أَكْثَمَ يَسألُ الإمام محمّداً الجوادَ عليه السلام .. فَضَحِكَ وَلدِي حامدٌ.. حَتّى دَمِعَتْ عَيناهُ مِنَ الضِحكِ وهو يُرَدِّدُ:
ـ عَبَثاً يحاولُ يا أَبي.. وَلَو بقيَ الدَهْرُ كُلُّه عَلى حالِهِ هذا.. فَماذا كانَ سُؤالُهُ بَعدَ ذلِكَ..؟
ـ قالَ :
رُويَ عَنِ النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم إنّهُ قَالَ : ما احْتَبَسَ عَنِّي الوحيُ.. إِلاّ ظَنَنْتَهُ قَدْ نَزَلَ على آلِ الخَطّابِ..؟
فَرَدَّ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ وهذا مُحالٌ أيضاً.. لأنّهُ لا يَجوزُ أن يَشُكُّ النَبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم في نُبُوّتِهِ.. فَقَدْ قالَ اللهُ تَعالى :
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الملائِكَةِ رُسُلاً ومِنَ الناسِ)(الحج22:75) .
فَكَيفَ يُمكِنُ اَنْ تَنتَقِلَ النُبُوّةُ مِمَّنِ اصْطَفاهُ اللهُ تَعالى إِلى مَنْ أَشْرَكَ بِهِ؟
وعادَ يحيى بنُ أَكْثَمَ يَسألُ الإمام عليه السلام مرّةً أُخرى:
ـ رُوِي أنّ النَبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قالَ: لَو نَزَلَ العذابُ لَما نَجا مِنْهُ إلاّ عُمَر..؟
فَقالَ الإمام الجوادُ عليه السلام:
ـ وهذا مُحالٌ أَيضاً.. لأن اللهَ تعالى يَقُولُ:
(ومَا كانَ اللهُ لِيعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيْهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرونَ)(الأنفال33:8).
فَقدْ أَخبَرَ اللهُ سبحانَهُ أَنَّهُ لا يُعذِّبُ أَحَداً مَادامَ فِيْهِمْ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم ومادامُوا يَستَغْفِرونَ..
وهكذا باءَتْ جَميعُ مُحاوَلاتِ يَحيى بنِ أَكْثَمَ بِالفَشَلِ الذَرِيعِ.. فَانْقَطَعَ عَنِ الكَلامِ
والخيبةُ تَعْصِرُ قَلبَهُ.. وقَدْ تَجَسَّدَتْ أَمامَ المأْمونِ خُطورَةُ الموقِفِ وصَعِقَ لعِظَمِ الهَوْلِ.. وأَدْرَكَ أَنَّهُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ مُواجَهَةِ هذا الأمر بَجديّةٍ أَعْظَمَ.. ومَكْرٍ أَشَدَّ.. إِذا أَرادَ أنْ يَطْمَئِنَّ على مَصِيرِهِ ومُستَقْبَلِهِ في الحُكْمِ.. ومَعَهُ بَنو العبّاسِ.. وهذا ما دَفَعَهُ إلى الإشادة بِمكانَةِ الإمام عليه السلام وغَزَارةِ عِلْمِهِ.. وكانَ قَد أَعْلَنَ عَقْدَ قِرانِهِ مِنْ ابْنَتِهِ أم الفَضْلِ فِي ذلِكَ الَمجْلسِ..
إلاّ أنَّ المأمونَ بَقِيَ يَتَحَيَّنُ الفُرصَ لِغَرَضِ الانتقامِ مِنَ الإمام الجوادِ عليه السلام، وتَمَّ لَهُ ذلِكَ بِواسِطَةِ ابنَتِهِ زَوجةِ الإمام حيثُ دَسَّتْ لَهُ السُمَّ.