عناصر الصورة الكاملة إسلاميّاً:
قبل أنْ نتعرّف إلى العناصر المكوّنة للصورة الكاملة إسلاميّاً، لا بدّ أنْ نبدأ بتحليل العلاقات الّتي يُمارسها الإنسان في حياته الاقتصاديّة، فإنّ الإنسان يُمارس نوعين مختلفين من العلاقات:
أحدهما: علاقاته مع الطبيعة من خلال محاولته السيطرة عليها والاستفادة من خيراتها، وهذا النوع من العلاقات تُجسّده عادة (عمليّة الإنتاج) بأشكالها المختلفة على مرّ التأريخ، فالحجر البسيط، والمحراث
اليدويّ، والطاحونة الهوائيّة، والآلة البخاريّة، والمحرّكات الكهربائيّة، كلّها أشكال من الإنتاج تُعبِّر عن العلاقات المتنوِّعة الّتي نشأت بين الإنسان والطبيعة في مجال استثماره لها على مرِّ التأريخ.
والآخر: علاقاته مع الإنسان الآخر الّذي يُشاركه حقّه في الاستفادة من الطبيعة وخيراتها، وهذه العلاقات تُجسّدها عادة (عمليّة التوزيع) بأشكالها المختلفة، فالاسترقاق، والنظام الإقطاعيّ، والرأسماليّة، والإشتراكيّة، والاقتصاد الإسلاميّ كلّها أشكال من التوزيع وتُعبّر عن علاقات متنوِّعة تقوم بين أفراد المجتمع لتحديد طريقة اشتراكهم في خيرات الطبيعة إيجاباً وسلباً.
ففي التصوّر الإسلاميّ (علاقات الإنتاج) يجب أنْ تتأثّر باستمرار بتطوّر خبرة الإنسان بالطبيعة وتقدّمه العلميّ.
وأمّا (علاقات التوزيع) فهي تقوم ـ في التصوّر الإسلاميّ ـ على الحقوق الإنسانيّة الثابتة الّتي تُعبّر عنها خلافة الإنسان في الأرض، والّتي تؤكّد على الحقّ، والعدل،
والمساواة، والقيم، والكرامة وغيرها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تؤكّد على شجب علاقات التوزيع القائمة على أساس الاستغلال والظلم مهما كان مستوى الإنتاج وشكله.
فالإسلام لم يجعل شكل التوزيع يتحدّد ويختلف ـ بالضرورة ـ تبعاً لاختلاف عمليّة الإنتاج، بل ربط بين العمل والملكيّة, أيْ جعل العمل والحاجة أساسيّين للملكيّة في الاقتصاد الإسلاميّ، بل ومبدأً ثابتاً في علاقات التوزيع لا يختلف فيه عصر الإنتاج اليدويّ عن عصر الإنتاج الآليّ، ومجتمع الطاحونة الهوائيّة عن مجتمع الطاحونة البخاريّة. وكلّ ذلك ـ أي من أدوات الإنتاج ـــ ليس هو ما يُعلّم الإنسان معنى العدل، وإنّما نموّ أدوات الإنتاج وتطوّرها في يد بعض أفراد المجتمع قد يُمكِّنه من الانحراف عن مسيرة العدل الاجتماعيّ والخلافة الإنسانيّة العامّة على الأرض، بما يفتح أبواب الاستغلال والظلم على مصاريعها، ولذا لا بُدَّ من صيانة المجتمع والتصدّي لكلِّ أشكال الاستغلال والظلم من خلال تشريعات تضمن عدم تأثير تطوّر أدوات الإنتاج على سلامة
التوزيع وعدالته. وعلى هذا الأساس تُقسّم عناصر الصورة الكاملة لاقتصاد المجتمع الإسلاميّ إلى ثلاثة أقسام:
عناصر الاقتصاد الإسلاميّ:
1- عناصر ثابتة: تُنظّم علاقات التوزيع وفقاً لمبادىء العدالة الاجتماعيّة والخلافة العامّة للإنسان على الأرض. وهذه العناصر قد وُضعت في الإسلام على شكل أحكام منصوصة في الكتاب الكريم والسُّنّة، أو مستخلصة من الأحكام المنصوصة، ومثال ذلك: ما تقدّم من ربط الملكيّة بأساسين فقط هما العمل والحاجة.
2- عناصر متحرِّكة في مجال التوزيع: وتنظيم علاقاته، تدعو الضرورة إليها بسبب المستجدّات والمتغيّرات في عمليّة الإنتاج وملابساتها، ومدى ما يُمكن لهذه المتغيّرات من إيجاد فرص جديدة للاستغلال. ويدخل في هذا القسم العناصر الإسلاميّة المتحرّكة الّتي حدّدنا فيما سبق مؤشّراتها الثابتة في الشريعة الإسلاميّة.
ومثال هذا القسم: تحديد الحاكم الشرعيّ حدّاً أعلى لا يُسمح بتجاوزه في عمليّة إحياء الأرض أو غيرها من مصادر الثروة الطبيعيّة، فيما إذا كان السماح المطلق مع نمو آليّات الإنتاج، قد يؤدّي إلى إمكان ظهور ألوان من الاستغلال والاحتكار الّتي لا يُقرّها الإسلام.
3- عناصر متحرِّكة في مجال الإنتاج: وتحسينه وتطوير أدواته وتنمية محصوله. وهذه العناصر متطوّرة بطبيعتها، ولا معنى لافتراض الثبات في علاقات الإنسان بالطبيعة ما دامت هذه العلاقات وليدة الخبرة البشريّة وتناميها باستمرار. والأساس لهذه العناصر المتحرِّكة هو البحث العلميّ والعلوم الطبيعيّة.
وعلى الدولة الإسلاميّة أنْ ترسم سياسة اقتصاديّة للإنتاج تقوم على العناصر المتحرِّكة المستوحاة من تلك الدراسات والخبرات، وأنْ تكون أهداف السياسة منسجمة مع تقييم الإسلام للإنتاج وتوجيهه الحضاريّ له.