ما بينَ النقد الموضوعي البناء والنقد اللامسؤول الهدام مسافة فاصلة لا يمكن ردمها إلا بقوة القانون الذي لا بد له من تحقيق الموازنة بين حقوق الإنسان وحرية التعبير لأن الجنوح الى أي منهما يمثل إضراراً بالآخرِ ونسفاً لقواعد التعايش الآمن والمستقر بين أبناء المجتمع والتي لا تتحقق إلا بالاعتدال الضامن لكرامة الناس وحرماتهم، أما اجواء الحرية التي وفّرتها لنا عملية التغيير في اعقاب اسقاط النظام الدكتاتوري المباد، فهي الأخرى بحاجة الى تشريعات تضبط ايقاعات مَنْ يمارسون النقد لأن الحرية اللامنضبطة بقانون هي المكافئ الموضوعي للفوضى اللاخلاقة.
ومَنْ يتابع الاعلام اليومي في بلادنا سوف يصطدم بفوضى عارمة من النقد الذي لا يملك اصحابه الادلة على صحة مضامينه وهو من السعة والشمول ما صيّر منه وباءً واسع النطاق لم يسلم من آثاره المدمرة صغير أو كبير، ومع ايماننا المطلق بأن للتصدي ضرائب لا بد للمتصدي من دفعها وتحمل فواتيرها، لكن تجاوز الحدود والحقوق يحول ظاهرة النقد الصحية الى حالة مرضية قد يخسر معها الشعب والدولة عناصر القوة فيها من خلال التحامل اللامقبول واللامعقول على المسؤول وكأننا نفترض فيه السوء حتى يثبت العكس، وفي ذلك مخالفة صريحة لشرائع السماء وقوانين الأرض على حد سواء، حتى صار التجرؤ على المسؤول الاداري والسياسي ظاهرة خطيرة تنذر بفوضى عارمة، قد يخسر الوطن فيها خيرة كوادره عندما ترى هذه الكوادر أن حرمتها غير مصانة ولا محترمة والى الحد الذي يتساوى فيه المخلص والمسيء وكأنهم شركاء في كل خطأ وليس الامر كذلك فهناك مَنْ هم أخيار ابرار مخلصون وكما هنالك آخرون مسيئون ومقصرون وفاسدون، لكن خلط الاوراق بالطريقة الشائعة اليوم تضيّع علينا القدرة على التشخيص ويختلط الحابل بالنابل ويتساوى المحسن والمسيء، وبذلك تنزوي المعايير وتضيع المقاييس وتهدد الحقوق.
ومع ضرورة استحضار حقيقة كبرى تفيد بأن كل مَنْ يعمل يخطئ ومَنْ لا يعمل لا يخطئ، وبناءً على ذلك فليس هناك مَنْ يمتلك العصمة من الاخطاء وإذا ما حرصنا على تكامل العاملين المخلصين، فإن سبل التصحيح لا مكان لها في وسائل الاعلام، وإنما النصح والنقد البناء هو السبيل الامثل لتلافي الأخطاء وتصحيح الاعمال وقد اكد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أن خلاصة الدين تتمثل في إداء النصح للآخرين؛ مسؤولين أو مواطنين عاديين وفي ذلك يقول (ص): “أن الدين النصيحة” وكم هو عظيم مَنْ يقول مقيّماً لاصحاب النقد البناء: رحم الله مَنْ أهدى اليّ عيوبي. وخاصة حينما يكون الناقد مرآة لأخيه كما قال الرسول (ص): “المؤمن مرآة أخيه”.
وإذا ما اشاد الإسلام بمفهوم النصح وكرّم مَنْ يمارسه لترشيد اخوانه فقد أشاد بالمقابل بمَنْ يوسع صدره لقبول النقد والاستفادة من النصيحة وكما جاء النص القرآني الكريم: “فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه”، فكما أن الكلمة الطيبة الحانية قيمة عليا يستحق صاحبها التكريم فإن فن الاستماع هو الآخر فضيلة رائعة يستحق مَنْ يتحلى بها الاشادة والاحترام والاكرام، وبذلك يتحول النقد الى وسيلة للترشيد والتسديد وتجاوز الاخطاء وتلافيها، فيما يظل النقد الهدام معولاً يدمّر عرى التلاحم الاجتماعي ويزرع في النفوس روح الشك والكراهية والعدوان والغاء الآخر.
ومما يضاعف من خطورة النقد الهادم واللامسؤول وجود الاعداد الكبيرة من وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وسرعة استجابتها للإثارات التي لم يُتحقق من صدقيتها على أرض الواقع من خلال اعتبارها سبقاً اعلامياً، فيما هو تسابق نحو الاضرار بالنسيج الاجتماعي عبر تهديم العديد من الشخصيات العاملة سواء في دنيا الحكم أو عالم السياسة، ويزيد الأمر سوءا تلقي المواطن ما تتناقله وسائل الاعلام المغرضة من اخبار غير دقيقة ومن ثم استجابة الناس لها قبولاً وتبنيها نشراً وهو ما يحولها الى شائعات تتخذ ابعاداً خطيرة قد نخسر فيها الكثير من الكفاءات التي ما احوج شعبنا وبلدنا لخدماتها وامكاناتها وتجاربها.
إن ما يقلق الحريصين على هذا البلد وثرواته البشرية والمادية هو ايجاد فاصلة بين المواطنين والمسؤولين والتي تتحول عند تراكمها الى سوء ظن وانعدام ثقة قد تنسف جسور المودة بين الحاكم والمواطن، وهو أخطر ما يمكن أن تصل اليه العلاقة بين الاثنين، وهنا لا بد من مواجهة الأسئلة التالية: لو أن كل مجموعة منا تبنّت تسقيط هذا الرمز السياسي او ذاك فهل سيبقى في الساحة من نتوجه اليه في التصدي للمسؤولية وادارة شؤون البلاد والعباد؟، ولو سحبنا الثقة من كل هذه الشريحة المتصدّية فهل سوف نستورد مجاميع من خارج الحدود لنجعلهم بدائل عمَنْ شطبنا عليهم جراء حرب الشائعات والتهم التي لا يسندها الدليل ولا يدعمها البرهان؟.
وهل نتصور حجم الخسارة الهائل فيما لو رفضنا كل مَنْ يطاله النقد وكأنه مجرد عن الحسنات أو أنه مجسمة شر لا خير فيها؟.
إن بعض أوجه التآمر على بلدنا وشعبنا هو دق اسفين الفرقة بين النخب السياسية والادارية وبين شعبها وجمهورها لأن في ذلك اغتيالا للقوى الفاعلة التي لا يمكن أن نشطب على حسناتها جراء حملة من النقد الهدام الذي تقف وراءه مؤسسات وقوى لا تريد للعراق وأهله خيرا، ولذلك فبقدر ما نحتاج الى دقة وموضوعية في نقدنا فاننا بحاجة الى قانون يحاسب مَنْ يتبنى التسقيط والتشهير بالكوادر والكفاءات العراقية لأن خسارتنا لهذه الكوادر وتلك الكفاءات خسارة لا تعوض ونحن جميعاً نعلم ان استهدافاً مدروساً تمارسه قوى محلية واقليمية يستهدف المخلصين والوطنيين من ابناء شعبنا حينما تضع اخطاءهم مهما صغرت تحت المجهر لتضخيمها عشرات بل مئات المرات كي ينفض الشعب يده منها، وبالتالي فنحن أمام تفريط لا مسؤول بحق مَنْ أعدّهم الوطن والشعب لخدمته، فلا مصلحة لنا في مشاركة الآخرين بتهديم
بيوتنا بأيدينا والاساءة لشخصياتنا الوطنية التي لا يروق لأعداء العراق وجودهم في المشهد السياسي والاداري العراقي وليبقى النقد في أطره الصحيحة بعيداً عن الاستهداف وليظل
القضاء والقانون هو المرجعية التي نعول عليها في محاسبة المقصرين والمسيئين.
ومما لا ينبغي أن نفعله هنا أننا نساهم احياناً بالاساءة لشعبنا وبلدنا من خلال تبني التشهير والتسقيط بالآخرين عندما نعكس الجانب السلبي في حياتنا السياسية والادارية دون ذكر الحسنات والايجابيات وبما يموّل المنظمات الدولية ومراكز الابحاث العالمية بمعلومات غير دقيقة تجعل العراق في مقدمة الدول التي تعاني من فساد وفقر وأمية وامراض عبر نظارات سوداء ليست صحية ولا طبية عند رؤيتها للواقع لتكون مصداقاً لقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
ولكن عين السخط تبدي المساويا
فلننتقد ولكن بمروءة ولنقيّم ولكن بإنصاف ولنكن كما اراد الله لنا أن نكون موضوعيين في نقدنا، حيث يقول سبحانه وتعالى: “ولا يجرمنكم شنان قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى”، فضلا عن قوله تعالى “ولا تبخسوا الناس اشياءهم”.