الرئيسية / تقاريـــر / درس الحرية – جمال جاسم أمين

درس الحرية – جمال جاسم أمين

-1-
قلت في احدى شذراتي وانا أتصفح كتاب الحرية الذي غالبا ما يصلنا مبتورا: بعض الشعوب لا تتحرر بل تنتظر من (يحرّر) ناسية ان هذا الذي (يحرر) يستعبد ايضا!. ربما هنا يكمن التشوه في فهمنا لهدف الحرية الذي تنشده الناس غالبا ، تنشده انتظارا لا سعيا حثيثا من اجل إنضاج فعله والإمساك بأسباب صناعته، اذ تبدو المسألة وكأنها هبة ما او منحة من احد ما علينا سوى ان ننتظر بوادرها في لحظة مجهولة من الزمن القادم!.
ترى هل الحرية منحة نتلقاها من مانح يمن بها علينا؟ ام هي مغزى وجودي يجب ان نشعر بأن حياتنا لا تكون إلا به؟ هذا الادراك يحتاج اكثر من مداولة خاصة لدى الجماعات التي وقعت تحت ضغط استبداد طويل المدى، ولعل شعوب المنظقة – والشعب العراقي من ضمنها – معنية بإعادة تهجي وقراءة هذا الدرس بل والمداولة عبر سؤال: كيف نشأ الاستبداد؟ وكيف عانيناه طويلا دون ان نستطيع فكاكا منه؟ هل لأننا توهمنا انتظار الحرية، أي بسبب كسل المبادرة وعدم الوعي بصناعتها؟.
في نوبات (الربيع العربي) المزعوم سادت صيحات من هذا النوع اقصد التبشير بعصر (حرية) لكن سرعان ما اعادت تلك الصيحات انتاج استبداد أصولي من نوع آخر، ربما لأن هذه الشعوب نسيت ان من يحرر يستعبد ايضا، أي انه لا يطلقك في فضاء الحرية لوجه الله كما يقال بل ليستعبدك مجددا! وها انت لا يتغيير فيك شيء سوى اغلالك! بل ان ما تسميه (تحررا) هو الانتقال من سيد الى سيد!.
الحرية اذن ليست وعدا تنتظره بل هي بالدقة مطلب وجودي وانساني عليك ان تصنعه ولن تصنعه إلا عندما تعي حاجتك له حقا ، تعي ان الحياة في ظل غياب هذا المطلب موت من نوع آخر وعطل لا ينتج سوى مشاعر الملل والركود والرتابة التي تفسد كل طموح انساني لصناعة لحظة وجودية باذخة ومكتنزة.
الحرية ليست ترفا كما يتوهم البعض او وصفا سياسيا عابرا انما هي شرط حياة يتعذر كل شيء بدونها.
-2-
هنالك مقولة لـ (اندريه جيد) تصب في الغرض ذاته، وهي: (من السهل ان تعرف كيف تتحرر ولكن من الصعب ان تكون حرا). إذن عليك ان تضمن اولا كيف تمارس الحرية لتمنعها من الانزلاق الى عبودية اخرى، كما عليك ايضا ان تعرف بأن ممارستها تتوقف على فهمك العميق لدرسها.
قد يتحرر الانسان من ضاغط ما يعتقد انه الاخير في مشواره وبعده سيكون طليقا تماما لكنه سرعان ما يكتشف ان حجبه الداخلية، وعقده اكبر واعمق، وانه نسي ان يحرر ذاته اولا من الداخل قبل ان ينشدها في
الخارج.
الامر هنا يتعدى حدود الفرد الى المجتمع حيث تنسج بعض المجتمعات اوهامها ومخاوفها حجابا على تحررها، فهي ما ان تتحرر من الحاكم حتى تسقط في استعباد ذاتها!، تنتج قيودها بيدها ، وهذا ما يتيح ويبرر لـ (جيد) قوله (ولكن من الصعب ان تكون حرا) الصعوبة في الممارسة والغفلة عن حساب العوائق
القادمة.
في المجتمعات التي لم تتمرن على الحرية يتقدم وحش الفوضى ليلتهم المكسب الجديد ، الوافد بلا ارض صالحة لإنباته ، لذلك نجدنا الآن نعيد مساءلة الديمقراطيات غير الناضجة مجتمعيا والتي تهمل اهمية التربية والنشأة على تهجي حروف الحرية حرفا
حرفا.
-3-
لبعض المفردات بريق ما خاصة على صعيد الشعار السياسي الذي يطلق لجذب الجمهور/ الاتباع وإغوائهم بالانضمام او التبعية، ولعلنا نذكر جميعا كم اجتهدت ادبيات (التحرر) السياسي في تكريس وتكرار مفردات التحرر والحرية لكنها تظل عالقة لا تعلم الناس كيف يتحررون ولا تطلقهم في فضاء حر حقا كي يتمرنوا!، ولا تنتج مناهج دراسة تتيح ثقافة السؤال بدل الاجوبة الجاهزة بل ان هذه الايديولوجيات هي ذاتها من يقدم اجوبة جاهزة واظن ان الحرية تموت بدءا في ظل كل جاهز من هذا النوع.
الاصح هو أنه علينا ان نتعلم كيف نتفاعل بدلا من ان تكون العلاقة بين مرسل ومستقبل (متلقي سالب) لان مثل هذه العلاقة قائمة على عبودية المتلقي ضمنا/ عبودية من لا يسهم في شيء، لأنه فقط يتلقى! ويؤمن متوهما ويطيع قسرا.
بهذا الصدد ينبغي ان لا نغفل اهمية مناهج التعليم بكل مراحله ومستوياته بدءا من رياض الاطفال وصولا لأعلى مراحل البحث العلمي الذي لا يكتمل بوصفه بحثا الا في ظل حرية حقيقية تتيح للباحث ان يفكر ويحلم بما يشاء من النتائج لا ان يكون محكوما بنتائج مسبقة ما عليه سوى برهنتها ظاهريا حتى لو خالفت عقله العلمي المحض.
وهنا يقع البحث في مطب السياسة / الايديولوجيا، وهو الامر الغالب في المجتمعات الشمولية الاحادية التي تقمع كل شيء لصالح وثوقيتها المفترضة، اذ تتقدم الاوهام بدلا عن الحقائق ومن بين هذه الاوهام وهم الحرية الذي نلوكه شعارا دون ان نعيشه تجربة ومرانا حيا في الواقع.
هذه التنبيهات لكي نفهم ان الحرية درس وان لهذا الدرس خطوات ومران يبدأ من اولى مراحل طفولتنا ليتجسد فعلا تلقائيا عضويا لا مفتعلا او مكتسبا، لأن الافتعال طلاء خارجي لا يلامس الجوهر في كل
الاحوال.
ولكي نمهد الطريق كي تمر عربة الحرية فانه علينا بدءا ان نفكك فواعل الاستبداد ونفضح الثقافات العنفية القامعة خاصة واننا ادركنا بعد طول التجربة ان الكثير من هذا العنف يحصل بتأثير راسب اجتماعي مضمر قد يتخفى بصيغ شتى ولكنه في الحقيقة عائق نفسي في اغلب الاحيان عن اتاحة فضاء الحرية لنا او لمن حولنا.
هذه التنبيهات جاءت لأن فعل التحرر جمعي كما نراه و ليس فرديا، بمعنى انك لا تستطيع ان تكون حرا في مجتمع مقيد ابدا. نتحدث عن حريتنا جميعا دون تصنيف او تخصيص لأن الجميع يستحقها بدرجة متساوية ولا تفريق بين الناس ابدا.

شاهد أيضاً

الولايات المتحدة تعتزم إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في رفح

تعتزم الولايات المتحدة الأمريكية إرسال جنرالات لوضع خطط للعملية المقترحة في مدينة رفح جنوبي قطاع ...