أهداف العهد
قال الإمام عليّ عليه السلام: “هذا ما أمر به عبد الله عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولّاه مصر:
جباية خراجها.
وجهاد عدوّها.
________________________________________
13- تاريخ الطبري، ج 5، ص 95 – 96.
14- الفِنْد من الجبل: أنفه الخارج منه. وقيل، هو المُنفَرد من الجبال.
15- الأمالي، المفيد، ج 83، ص 4.
16- تاريخ الطبري، ج 5، ص 96.
واستصلاح أهلها.
وعمارة بلادها”.
هذا العهد هو دليل عملٍ لمالك الأشتر في حكم مصر، ويتضمّن أربعة أهداف:
الدفاع والأمن “جهاد عدوّها”.
الإصلاح الاجتماعي “استصلاح أهلها”.
التنمية الاقتصادية “عمارة بلادها”.
بالإضافة إلى ماليّة الدولة الّتي تُنفق على هذه الأبواب، وتقوم على جباية الخراج وسائر الضرائب الأخرى “جباية خراجها”.
وهذه الأهداف لم تجد لها مجالاً للتطبيق العمليّ في مصر نتيجة عمليّة الاغتيال الّتي جرت لمالك الأشتر.
الفئات الاجتماعيّة ووظائفها في العهد
إنّنا ومن خلال النظرة الإجماليّة – لا التفصيليّة – لهذا العهد يُمكن لنا أنْ نطلّ من خلاله على أبرز قضيّة تعرّض لها الإمام عليّ عليه السلام وهي مسألة المجتمع ومكوّناته والّتي نقصد بها الطبقات الاجتماعيّة.
وحينما يُقسِّم الإمام عليه السلام المجتمع إلى طبقات فهذا لا يعني أبداً أنّه يُريد إيجاد تمايز وفوارق طبقيّة في المجتمع، كلّا. فليس هذا مقصوده على الإطلاق، لأنّه من الواضح والمعلوم لدينا أنّ مبدأ التمايز في الإسلام وفي نهج الإمام عليّ عليه السلام بين الناس هو التقوى، وهي المثل الأعلى في الحياة الإنسانيّة.
فالإسلام ألغى فكرة النظام الطبقيّ الّتي كانت موجودة في كلّ المجتمعات،
وإن كانت مع الأسف موجودة ومستمرّة. ونحن حينما نستعمل كلمة “طبقات” في سياق الحديث عن الإسلام فإنّما نقصد بذلك الفئات الاجتماعيّة، وليس الطبقات بالمعنى الّذي شاع استعماله في الأدب السياسيّ في العصر الحاضر.
لقد اعترف الإسلام كما اعترف الإمام عليه السلام بالطبقات الاجتماعيّة “الفئات” القائمة على أساس اقتصاديّ أو مهنيّ أو عليهما معاً، وذلك لأنّ وجود هذه الطبقات “الفئات” ضرورة لا غنى عنها ولا مفرّ منه في المجتمع، ولذا قال عليه السلام: “واعلم أنّ الرعيَّة طبقات لا يصلُحُ بعضُها إلّا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض”17. فالتقسيم الطبقيّ الّذي ذكره الإمام عليه السلام يقوم بالدرجة الأولى على الوظيفة الاجتماعيّة الّتي تؤدّيها كلّ طبقة، ولا يستتبع حكماً تقويميّاً على الشخص المنتسب إلى طبقة ما يجعله في القمّة أو ينحدر به إلى الحضيض، ولا يُحدِّد قيمة الشخص الاجتماعيّة.
إذاً فترتيب الطبقات في التقسيم لا يعني ترتيبها في القيمة، فالإمام عليه السلام لم يُراع قيمة كلّ طبقة حين قدّمها وأخّرها، وإنّما راعى الخدمات الاجتماعيّة الّتي تقوم بها، أمّا القيمة فلا تُقاس إلّا بالتقوى.
وهذا العهد الّذي كانت ولادته قبل نحو ألف وأربعمائة سنة ركّز الإمام عليه السلام فيه فكرة المجتمع ومكوّناته وفئاته، ورأى أنّ العنصر البشريّ اجتماعيّ بالطبع لا يستغني بعضه عن بعض. وبهذا نستكشف مدى عظمة الإمام عليّ عليه السلام في المسائل الاجتماعيّة، وكونه المعلِّم الأوّل لعلم الاجتماع في العالم، والواضع لقواعد هذا العلم المستمدّ من تعاليم الإسلام، ولنظريّة وظائف المجتمع، وبيان أنواعها.
________________________________________
17- نهج البلاغة، عهد الأشتر.
وفي هذا العهد قسّم عليه السلام ما يتألّف منه المجتمع عادة، وحدّد ما يجب على كلّ طبقة وما يجب لها، وقسّمها إلى ما ينتهي إلى سبع طبقات “فئات”.
طبقة الجنود.
طبقة القضاة.
طبقة عمّال الإنصاف والرفق = شرطة الأخلاق والتضامن الاجتماعيّ.
طبقة العامّة = العمّال ونحوهم.
طبقة أهل الجزية من أهل الذمّة، والخراج من المسلمين = وزارة الاقتصاد.
طبقة التجّار وأهل الصناعات.
طبقة أهل المسكنة والحاجة.
الطبقة الأولى: الجنود.
وإليها أشار بقوله عليه السلام: “.. فالجنود بإذن الله حصون الرعيّة، وزين الولاة، وعزّ الدين، وسُبُل الأمن، وليست تقوم الرعيّة إلّا بهم…”.
فالجنديّة قطب الرحى في تماسك أيّ مجتمع، ومنها قرار الدولة وبناؤها، وحفظها، والحارس الأمين لكلّ فضيلة، والساعد المتين لقمع كلّ رذيلة، وميزان العدل، ولولا الجنود لانعدم الأمن.
الطبقة الثانية: القضاة.
قال عليه السلام: “ثُمَّ اختر لِلحُكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك، ممّن لا تضيقُ به الأمور، ولا تُمحكُهُ18 الخصومة، ولا يتمادى في الزَّلّة..”. فالسلطة القضائيّة من أعظم سلطات الدولة، بها يُفرق بين الحقّ والباطل، وبها يُنتصف للمظلوم من الظالم. ولأجل ذلك كانت الحيطة من الإمام عليه السلام شديدة في اختيار القضاة، وأرشد واليه إلى ضرورة أنْ يختار للقضاء من الرعيّة أفضلها علماً، وأقومها نفساً، وأجودها فهماً، وأشدّها التزاماً وأمضاها احتضاناً للحقّ، وتثبيتاً له، إلى آخر ما تضمّنه العهد من الصّفات، والمعبَّر عنها في لسان فقهاء الإسلام، بالاجتهاد المطلق في الشريعة المقدّسة والعدالة، أي لا بُدَّ للقاضي أن يكون عارفاً بالشريعة ككلّ عن بحث واجتهاد، لا عالماً ببعضها دون بعضها الآخر.
الطبقة الثالثة: الولاة.
قال عليه السلام: “ثُمَّ انظر في أمور عُمّالك، فاستعمِلْهُم اختِباراً19 ولا تُوَلِّهِم مُحاباةً 20وَأَثَرةً21.. وَتَوَخَّ منهم أهل التجربة والحياء، من أهل البيوتات الصالحة، والقِدَمِ في الإسلام.. ثُمَّ تفقَّد أعمالهم، وابعث العُيُون22 من أهل الصِّدق والوفاء عليهم.. وتحفّظ من الأعوان..”.
هذه الطبقة كانت في أيّامه عليه السلام، تُشرف على الأوقاف، والصّدقات والمصالح العامّة، وما إلى ذلك، كوزارة الأوقاف والداخليّة والماليّة، والمدراء العامّين في زماننا هذا.
________________________________________
18- أي تجعله ماحقاً لجوجاً.
19- أي لهم دراسة وامتحاناً.
20- حاباه، سامحه، أي لا توله لميولك إليه، وحبّك له، تساهلاً في الأمر لاختصاصه بك.
21- آثره، قدّمه وفضّله.
22- العيون، الرقباء.
وقد اشترط لهذه المناصب الأكفَاء، لا المحاسيب، ومَنْ لا يؤثر إلّا المصلحة الخاصّة. فرجال الإدارة هم أيدي الحاكم الّتي تمتد في أطراف بلاده، والأداة الّتي يستعين بها على تنفيذ أمره وإمضاء ما يُريد إمضاءه من الشؤون. وهم المرآة الّتي ينظر بها الرعيّة إليه، وأعمالهم تُنسب إليه وتُحمل عليه، ويناله خيرها وشرّها.
الطبقة الرابعة: أهل الخراج.
قال عليه السلام: “وتفقَّد أمر الخَرَاجِ بما يُصْلِح أهله، فإنَّ في صَلاحِهِ وصلاحِهم صلاحاً لمن سواهم.. وليكُن نَظَرُك في عِمَارَةِ الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأنّ ذلك لا يُدركُ إلّا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عَمَارةٍ أخْرَبَ البلاد وأهلك العباد…”.
الخراج في الدولة الإسلاميّة كان المصدر الرئيس لاقتصاد الدولة في ذلك العهد. ولعلّ من بديهيّات النظريّات الاقتصاديّة في عصرنا الحاضر المعادلة الدقيقة بين الإنتاج والاستهلاك، فرقيّ الاقتصاد في الأمّة متوقّف على إحكام تلك المعادلة، فلذلك أولاه عهد الإمام عليه السلام عناية خاصّة.
والخراج عبارة عن الأُجرة الّتي تتسلّمها الدولة عن الأرض الّتي تدخل في حساب المسلمين، نتيجة جهاد إسلاميّ مشروع. فلمّا كان الانتفاع بسبب تلك الأرض سمّوها أي المنفعة خراجاً. وأُطلق الخراج على الجزيّة أيضاً. ولمّا كانت الأرض هي المصدر الرئيس للدولة، كان صلاحها وصلاح القائمين عليها صلاحاً لمن سواهم من الرعيّة.
الطبقة الخامسة: الأعوان.
قال عليه السلام: “ثُمّ انُظر في حال كُتَّابِك، فَوَلِّ على أمورك خيرهم، واخصُص رسائلك الّتي تُدخلُ فيها مكائدك وأسرارك بأجمعِهِم لوجوه صالح الأخلاق مِمَّن لا تُبطرُهُ الكرامة.. ثُمَّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك23 واسْتِنَامَتِكَ 24وحُسْن الظنِّ منك.. ولكنْ اختبرهم بما ولُّوا للصالحين قبلك..”.
هذا الفصل من العهد العلويّ، تقسيم وتوزيع للحقائب الوزاريّة، حيث أعطى لها من الحدود ما استبق به الزمن وأعجز العلم.. قال ابن أبي الحديد في شرحه لهذا النصّ:
“واعلم أنّ الكاتب الّذي يشير أمير المؤمنين عليه السلام إليه هو الّذي يُسمّى الآن في الاصطلاح العرفيّ، وزيراً، لأنّه صاحب تدبير حضرة الأمير والنائب عنه في أموره، وإليه تصل مكتوبات العمّال، وعنه تصدر الأجوبة، وإليه العرض على الأمير، وهو المستدرك على العمّال والمهيمن عليهم، وهو على الحقيقة كاتب الكتّاب (أي رئيس الوزراء)، ولهذا يُسمّونه الكاتب المطلق”.
وأشار عليه السلام إلى أنّه لا يجوز أنْ يُناط اختيار أفراد هذه الطبقة بالفراسة وحسن الظنّ، فإنّ الرجال يتصنّعون الصلاح، ويتظاهرون بالمقدرة والأمانة، ليظفروا بمثل هذا المنصب، فيخدعون بالفراسة، وينتزعون حسن الظنّ بتصنّعهم، دون أنْ يكونوا على شيء من الصلاح والكفاءة. والاختيار لمثل هؤلاء يتمّ على أساس المعرفة التامّة بمحيطهم، وكفاءتهم، وقدراتهم، وممّن يعرفهم الشعب بالحبّ له، ورعاية مصالحه، والسهر على رفاهيته وسعادته… ويُعرف
________________________________________
23- الفراسة، قوة الظن وحُسن النظر في الأمور.
24- الاستنامة، السكون والثقة.
ذلك كلّه بالنظر إلى سابق ما ولّوه من أعمال الصالحين من الحكّام، هل أحسنوا إدارته؟ وهل كانت للشعب ثقة فيهم؟..
الطبقة السادسة: التجّار والصنّاع.
قال عليه السلام: “ثُمّ استوصِ بالتجّار وذوي الصناعات، وأوصِ بهم خيراً… فإنّهم موادُّ المنافع، وأسباب المرافق.. واعلم – مع ذلك – أنّ في كثيرٍ منهم ضيقاً فاحشاً، وشحَّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكُّماً في المبيعات. وذلك باب مَضّرَّةٍ للعامَّة، وعيب على الولاة فامنع من الإحتكار…”.
هذه الطبقة يقوم عليها اقتصاد الدولة، وتلعب الدور الرئيس في تحريك إنتاجها، ومن هنا أولى التشريعُ التجارة اهتماماً خاصّاً.
ولو أنّ اضطراباً ألمّ بنشاط هذه الطبقة لاضطرب المجتمع كلّه، فتحدث المجاعات في بعض الأطراف بينما تتكدّس المواد الغذائيّة في أطراف أخرى.
وأمّا الصنّاع فيجب أنْ نُدخلهم في طبقة التجّار ونفهمهم على أنّهم منها، وذلك لأمرين:
الأوّل: لأنّ لكلٍّ من هؤلاء الصنّاع عملاً خاصّاً مستقلّاً يتّجر به وحده أو يُشاركه فيه غيره فهو يتمتّع بنتيجة عمله، وليس مستخدَماً عند غيره كما هو حال العامل الآن.
الثاني: لأنّ الوجدان الطبقيّ عند التجّار والصنّاع واحد. والميزان في عدِّ طائفتين من الناس طبقة واحدة هو وحدة الوجدان الطبقيّ.
الطبقة السابعة: أهل المسكنة والحاجة.
قال عليه السلام: “ثُمّ الله الله في الطبقة السفلى من الّذين لا حيلة لهم، من
المساكين والمحتاجين، وأهل البؤس25 والزَّمْنى26 ، فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومُعترَّاً، واحفظ لله ما استحفظك من حقِّه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك… ولا يُشغلنّك عنهم بطر.. فلا تشخص همّك عنهم27 ، ولا تُصعِّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لا يصِلُ إليك منهم مِمَّن تقتحِمُهُ العيون28 وتحتقره الرجال.. وتعهّد أهل اليُتْم، وذوي الرِّقَّةِ في السِّنِّ 29، مِمَّن لا حيلة له، ولا يَنْصِبُ للمسألة نفسه…”.
في هذه الفقرة إشارة إلى طبقة الفقراء ممّن لا يستطيعون عملاً لعاهةٍ فيهم لا يقدرون معها على العمل، أو لا يستطيعونه لكبَر السّن وضعف البنية، أو لا يستطيعونه لصغر السِّنّ كالأيتام الّذين لا كافل لهم، أو يستطيعون ويعملون، ولكنّ عملهم لا يمدّهم بالكفاية.. هذه الطبقة تتألّف من هذه الطوائف. والإمام عليه السلام يضع الدولة أمام مسؤوليّتها تجاههم، لأنّهم إذا لم يلقوا العناية منها ينحرف قويّها إلى طريق الجريمة، ويموت ضعيفها جوعاً. فلا بُدَّ من تدبيرٍ يدفع البؤس عن أفرادها والّذي أرسى الإمام عليّ عليه السلام دعائمه وهو مبدأ التكافل أو الضمان الاجتماعيّ.
كانت هذه إطلالة موجزة على بعض ما ورد في هذا العهد العلويّ لمالك الأشتر والّذي يُمكن أنْ يتوسّع فيه الباحث بشكلٍ تفصيليٍّ ليستخلص منه دستوراً كاملاً للحكم والحكومة العادلة.
________________________________________
25- البؤس، شدّة الفقر.
26- الزمنى، جمع زمين، والزمانة، العاهة.
27- لا تشخص همّك، لا تصرف عنايتك واهتمامك عن هؤلاء الفقراء.
28- أي تحتقره، فلا تنظر إليه.
29- الّذين بلغوا مرحلة الشيخوخة.
ـ مالك الأشتر أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو من ثقات التابعين، وكان الإمام عليّ عليه السلام يثق به ويعتمد عليه، وله في الجهاد مع الإمام بطولات، ولّاه عليه السلام ولاية مصر، واستُشهد مسموماً بغدر من معاوية.
من تعاليم الإمام عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر:
1 ـ جباية الخراج وعمارة البلاد (التنمية الاقتصاديّة).
2 ـ جهاد العدو (الدفاع والأمن).
3 ـ واستصلاح أهلها (الإصلاح الاجتماعيّ).
ـ قسّم العهد الفئات الاجتماعيّة ـ لا على أساس طبقيّ ـ بل موضوعيّ وجعل لكلّ فئة وظيفتها.
الجنود، القضاة، الولاة، أهل الخراج، الحكّام، التجّار والصنّاع، أهل المسكنة والحاجة
.
أســــــئـلـــة
1 – من هو مالك الأشتر وكيف تجلّى دوره في حرب صفّين؟
2 – تحدّث عن أهداف العهد العلويّ لمالك الأشتر.
3 – إلى كم فئة قسَّم الإمام المجتمع وما هو الأساس الذي اعتمده؟