وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكّلون على الله، المفوّضون إليه، الراضون بقضائه، المسلّمون لامره، إذ لا يرون إلاّ خيراً، ولا يشاهدون إلاّ جميلاً، فيستقرّ في نفوسهم من الملكات الشريفة والاخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد، فهم مخلصون لله في أخلاقهم، كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، وهذا معنى إخلاص العبد دينه لله. قال تعالى: (أَلاَ للهِِ الدِّينُ الْخَالِصُ)( [403]). وقال أيضاً: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)( [404])، وقال: (هُوَ الْحَيُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)( [405]).
وهؤلاء هم الانبياء والائمّة (عليهم السلام) وقد نصّ القرآن بأنّ الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه وأخلصهم لحضرته، قال تعالى: (وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم)( [406])، وقال: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج)( [407]).
وقد تقدّم آنفاً أنّ من خاصّة هؤلاء القوم أنّهم يعلمون من ربّهم ما لا يعلمه غيرهم، والله سبحانه يصدّق ذلك بقوله: (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ)( [408]) وأنّ المحبّة الالهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلاّ ما يريده الله، وينصرفوا. وهذا ما أشار إليه الامام الصادق (عليه السلام) في ظل الرواية الثانية المتقدّمة حيث قال: «وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون» وقد بيّن القرآن من هم المطهّرون بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)( [409]). وقد أوضحنا مفصّلاً في كتاب «العصمة» أنّ هذه الآية مختصّة بالنبيّ الاكرم وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم.
يقول الآلوسي في ظلال هذه الآية: «وأخبار إدخاله صلّى الله عليه وسلّم عليّاً وفاطمة وابنيهما (رضي الله تعالى عنهم) تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللّهم هؤلاء أهل بيتي) ودعائه لهم وعدم إدخال اُمّ سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصّصة لعموم أهل البيت بأي معنىً كان البيت، فالمراد بهم من شمله الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه»( [410]).
وقال الرازي في ظل قوله تعالى: (قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى)( [411]): «وأنا أقول: آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل، كانوا هم الآل، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) أشدّ التعلّقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هم الآل»( [412]).
ولا يفهم من هذا أنّ مسلك الحبّ الالهي محال على الآخرين، بل بإمكان الانسان المؤمن أن يروّض نفسه من أجل الارتقاء إلى بعض درجاته، فلا يقرأ دعاءً مثلاً ولا يصلّي صلاة ولا يفعل فعلاً ما، ونظره المباشر إلى ثواب تلك الاعمال التي يقوم بها، وإنّما ينظر إلى العمل بذاته وإلى محتواه، وأنّ ما يقوم به هو عبادة لله سبحانه وتعالى قبل كلّ شيء، وهكذا وبتكرار العمل يحصل على الملكات التي تؤهِّله لان يرتقي إلى ما يصبو إليه.
نعم، مقام العصمة والطهارة التي ثبتت لاصحاب الكساء، ممّا لا يمكن نيله لاحد غيرهم (عليهم السلام). قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : «لا يقاس بآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) من هذه الامّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً»( [413]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...