إلاّ أنّ هذا كلّه إنّما هو طريق لوصول العبد السالك إلى مقام يكون محبوباً لله تعالى، لكن ما هو الطريق لان يكون المحبّ محبوباً له تعالى، كي يكون مصداقاً لقوله: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ)( [378]); وذلك لانّ المحبّ إنّما ينجذب إلى محبوبه ليجده ويتمّ بالمحبوب ما للمحبّ من النقص، ولا بشرى للمحبّ أعظم من أن يبشَّر أنّ محبوبه يحبّه، وعند ذلك يتلاقى حبّان ويتعاكس دلالان.
فمثلاً الانسان إنّما يحبّ الغذاء وينجذب إليه، ليجده ويتمّ به ما يجده في نفسه من النقص الذي يأتيه من الجوع، وكذا يريد لقاء الصديق ليجده ويملك لنفسه الانس. ولو تأمّلت موارد التعلّق والحبّ أو قرأت قصص العشّاق والمتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.
وهذا ما أجابت عنه الآية المباركة: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)( [379])، حيث بيّنت أنّ الطريق إلى أن يصل المحبّ إلى بغيته، هو اتباع النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله) وذلك لانّ الحبّ الحقيقي لشيء يستلزم حبّ جميع ما يتعلّق به «ويوجب الخضوع والتسليم لكلّ ما هو في جانبه. والله سبحانه هو الواحد الاحد الذي يعتمد عليه كلّ شيء في جميع شؤون وجوده، ويبتغي إليه الوسيلة، ويصير إليه كلّ ما دقّ وجلّ.
فمن الواجب أن يكون حبّه له بالتديّن له بدين التوحيد وطريق الاسلام على قدر ما يطيقه إدراك الانسان وشعوره (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاِْسْلاَمُ)( [380]). وهذا هو الدين الذي يندب إليه سفراءه، ويدعو إليه أنبياءه ورسله، وخاصّةً دين الاسلام الذي فيه من الاخلاص ما لا إخلاص فوقه، وهو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع وطرق النبوّة، كما يختم بصادعه الانبياء (عليهم السلام). وهذا الذي ذكرناه ممّا لا يرتاب فيه المتدبّر في كلامه تعالى.
وقد عرّف النبي الاكرم (صلّى الله عليه وآله) سبيله الذي سلكه، أنّه هو سبيل التوحيد وطريقة الاخلاص، على ما أمره الله سبحانه حيث قال: (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)( [381])، فذكر أنّ سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة، والاخلاص لله من غير شرك; إذن فالدعوة والاخلاص هو صفته (صلّى الله عليه وآله) بالاصالة، وهي موجودة فيمن اقتدى به بالتبع.
ثمّ ذكر الله سبحانه أنّ الشريعة التي شرعها للخاتم (صلّى الله عليه وآله) هي الممثّلة لهذا السبيل، سبيل الدعوة إلى التوحيد والاخلاص من غير شرك، فقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَة مِنَ الاَْمْرِفَاتَّبِعْهَا)( [382]). وذكر أيضاً أنّ ذلك السبيل إنّما هو إسلام وتسليم محض لله حيث قال: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للهِِ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)( [383]). ثم نسب هذا السبيل إلى نفسه وبيّن أنّه هو الصراط المستقيم فقال: (وَأَنَّ هذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ)( [384]).
فتبيّن بذلك كلّه أنّ الاسلام ـ وهو الشريعة المشرعة للنبي (صلّى الله عليه وآله) الذي هو مجموع المعارف الاصلية والخلقية والعملية وسيرته في الحياة ـ هو سبيل الاخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد ويبتني على الحبّ، فهو دين الاخلاص وهو دين الحبّ.
والحاصل أنّ المراد من قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) ـ والله أعلم ـ إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالتأسيس على الحبّ حقيقة، فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحبّ الذي يوصل الانسان إلى الاخلاص والاسلام، وهو الصراط المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي وشأنه هذا الشأن، أحبّكم الله وهو أعظم البشارة للمحبّ، وعند ذلك تجدون ما تريدون، وهذا هو الذي يبتغيه محبّ بحبّه»( [385]).
ممّا تقدّم يتّضح أنّ تقوى الله سبحانه، تارةً تكون من خلال الخوف من العذاب، فتبعث الانسان إلى التروك، وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة، فالزاهد من شأنه أن يتجنّب المحرّمات أو ما في معنى الحرام وهو ترك الواجبات، وأخرى تكون من خلال الطمع في الثواب، فتبعثه إلى الافعال وهي العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نِعم الآخرة والجنّة، فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام.
والطريقان معاً إنّما يدعوان إلى الاخلاص للدين لا لربّ الدين، وثالثة تكون من خلال محبّة الله سبحانه فإنّها تطهّر القلب من التعلّق بغيره تعالى، من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية، بل ولا مطلوب أخروي كفوز بالجنّة أو خلاص من النار، وهذه المحبّة تقصر القلب في التعلّق به تعالى، وبما ينسب إليه من دين أو نبي أو وليّ وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه، فإنّ من أحبّ شيئاً أحبّ آثاره أيضاً.
وهؤلاء هم العلماء بالله «الذين لا يعبدونه خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه وإنّما يعبدونه لانّه أهلٌ للعبادة، وذلك لانّهم عرفوه بما يليق به من الاسماء الحسنى والصفات العليا، فعلموا أنّه ربّهم الذي يملكهم وإرادتهم ورضاهم وكلّ شيء غيرهم، ويدبّر الامر وحده، وليسوا هم إلاّ عباد الله فحسب، وليس للعبد إلاّ أن يعبد ربّه، ويقدِّم مرضاته وإرادته على مرضاته وإرادته، فهم يعبدون الله ولا يريدون في شيء من أعمالهم فعلاً أو تركاً إلاّ وجهه الكريم، ولا يلتفتون فيها إلى مقام يخوّفهم، ولا إلى ثواب يرجّيهم، وإن خافوا عذابه ورجوا رحمته.
وقد ذكر القرآن الكريم هذه الطرق لتحصيل التقوى، قال تعالى: (وَفِي الاْخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)( [386]) «دلّت الآية أنّ حقيقة الدنيا أنّها متاع الغرور، كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فعليه أن لا يجعلها غاية لاعماله في الحياة، وأن يعلم أنّ له وراءها داراً ، وهي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، وهي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه ويخاف الله فيه، ومغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها ويرجو الله فيها، ورضوان من الله يجب أن يقدّمه على رضا نفسه»( [387]).
كذلك يبيّن القرآن أنّ بعض المتّقين إنّما يزهدون في الدنيا لاجل الوصول إلى ما عند الله من الثواب في الدار الآخرة، قال تعالى: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْء فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)( [388])، لكن عندما يأتي إلى طبقة أخرى يقول في حقّهم، إنّهم يريدون ويطلبون الله تعالى، لا ما عند الله، قال تعالى: (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)( [389]).
والروايات الواردة في هذا المجال، متعدّدة:
عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «العبّاد ثلاثة: قوم عبدوا الله عزّوجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاُجراء، وقوم عبدوا الله حبّاً فتلك عبادة الاحرار وهي أفضل العبادة»( [390]).
عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ الناس يعبدون الله عزّوجلّ على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبةً في ثوابه، فتلك عبادة الحرصاء وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فَرَقاً من النار، فتلك عبادة العبيد وهي رهبة، ولكنّي أعبده حبّاً له عزّوجلّ، فتلك عبادة الكرام وهو الامن، لقوله عزّوجلّ: (وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ)( [391])، ولقوله عزّوجلّ: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ)( [392])، فمن أحبّ الله عزّوجلّ، أحبّه الله، ومن أحبّه الله كان من الآمنين»( [393])، وفي بعض الروايات أضيف إليها «وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون»( [394]).
عن الامام السجّاد (عليه السلام) قال: «إنّي أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلاّ ثوابه، فأكون كالعبد الطمع المطمع; إنْ طمع عمل، وإلاّ لم يعمل، وأكره أن لا أعبده إلاّ لخوف عقابه، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل، قيل: فلِمَ تعبده؟ قال: لما هو أهله بأياديه عليَّ وإنعامه»( [395]).
إلاّ أنّ هناك رواية عبّرت بـ «شكراً» بدل «حبّاً». عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إنّ قوماً عبدوا الله رغبةً فتلك عبادة التجّار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبةً فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الاحرار»( [396]).
والسبب في توصيفهم (عليهم السلام) عبادة الاحرار تارةً بالحبّ وأخرى بالشكر «لكون مرجعهما واحداً، فإنّ الشكر وضع الشيء المنعم به في محلّه، والعبادة شكرها أن تكون لله الذي يستحقّها لذاته، فيعبد الله لانّه الله، أي لانّه مستجمع لجميع صفات الجمال والجلال بذاته، فهو الجميل بذاته، المحبوب لذاته، فليس الحبّ إلاّ الميل إلى الجمال والانجذاب نحوه، فقولنا فيه تعالى هو معبود لانّه هو، ومعبود لانّه جميل محبوب، ومعبود لانّه منعم مشكور بالعبادة، يرجع جميعها إلى معنىً واحد»( [397]).
ببيان آخر: «الشاكرون هم الذين استقرّت فيهم صفة الشكر على الاطلاق، فلا يمسّون نعمة إلاّ بشكر، أي بأن يستعملوها ويتصرّفوا فيها قولاً أو فعلاً على نحو يظهرون به أنّها من عند ربّهم المنعم عليهم، فلا يقبلون على شيء، أعمّ من أنفسهم وغيرهم، إلا وهم على ذكر من ربّهم، قبل أن يمسّوه ومعه وبعده، وأنّه مملوك له تعالى طلقاً، ليس له من الامر شيء، فذكرهم ربهم على هذه الوتيرة ينسيهم ذكر غيره إلاّ بالله، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، فلو أُعطي اللفظ حقّ معناه، لكان الشاكرون هم المخلصين»( [398]).
ولا شكّ أنّ الاخلاص لا يتحقّق إلاّ إذا لم يتعلّق قلب الانسان بغيره تعالى، ولا طريق لذلك إلاّ من خلال المحبّة الالهية التي تطهّر القلب عن كلّ ما سواه. قال الامام الصادق (عليه السلام) في ظل هذه الآية المباركة (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً)( [399]): «يطهّرهم عن كلّ شيء سوى الله( [400]).
قال الطباطبائي: «وهؤلاء هم المقرّبون الفائزون بقربه تعالى، إذ لا يحول بينهم وبين ربّهم ممّا يقع عليه الحسّ أو يتعلّق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان، فإنّ كلّ ما يتراءى لهم ليس إلاّ آية كاشفة عن الحقّ المتعال، لا حجاباً ساتراً، فيفيض عليهم ربّهم علم اليقين، ويكشف لهم عمّا عنده من الحقائق المستورة عن هذه الاعين المادّية العميّة، بعدما يرفع الستر فيما بينه وبينهم، كما يشير إليه قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاَْبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)( [401]). وقوله تعالى: (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ)( [402]).
شاهد أيضاً
اليتيم في القرآن الكريم – عز الدين بحر العلوم
11- « يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن ...