من هم الأخسرون أعمالاً؟
الأخسرونَ أعمالاً ـ بحسب هذه الآية الشريفة ـ هم الذين اتصفوا بصفتين:
الصفة الأولى ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ﴾:
وليعلم أَنَّ ضلالَ السعيِ في الحياة الدنيا سبَبُهُ ضلالٌ وخللٌ كبيرٌ في العقيدة، ونفوذٌ من الشيطان إلى صلبِها، فلو لم تكن العقيدةُ فاسدةً ولم يعترِها خَلَلٌ، لما ضلَّ سعيُهُم في الحياة الدنيا, لأنَّ العقيدةَ الفاسدةَ تجعلُ صاحبَها في ضلالٍ كبير.
والضلال والخلل في العقيدة على مراتب:
أ- فتارة يكون ذلك باختلال العقيدة من أساسها، وأصحاب هذه المرتبة ليس لهم قيمة عند الله تبارك وتعالى، كما نصّ على ذلك في كتابه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ .
ب- وأُخرى يكون بضلال السعي عملياً، وهذا ناشئٌ ـ كما أسلفت ـ من نقصٍ في العقيدة ولو على سبيل الشرك والرياء، فيحبط الله عمله أيضاً, لأنّ الآتي إنما أتى به لغيرالله تعالى، يقول تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ .
ج- وثالثة يكون ضلال السعي عملياً متأخّراً عن العمل، فيحبطه بعد الإتيان به، وفي هذا ضل قومٌ كثيرون، وذلك بأنْ يكمِل العبادةَ على الإخلاصِ المحضِ والنية الصالحة ويكتبها الله في ديوانِ المخلصينَ، لكن يعرضُ له بعدَ ذلك ما يدفعُهُ لإظهارها, ليحصل له بعضُ الأغراضِ الدّنيويّةِ الرخيصةِ، فينضمُّ إلى ما حصّله بها من الخير الآجلِ خيراً آخرَ عاجلاً قد زيّنه له الشيطانُ، فيحدِّث به ويُظهره لذلك، فهذا أيضاً مفسدٌ للعمل وإن سبق، كما يفسده العجب المتأخر.
وقد روي أَنَّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: صُمتُ الدهرَ يا رسولَ الله، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: “مَا صُمتَ وَلَا أَفْطَرْتَ” ، فهذا من زمرة الأخسرين أعمالاً.
الصفة الثانية ﴿وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾:
فهم يحسبونَ أنَّهم يُحسنونَ صنعاً وما ظنُّوا حسنَ أعمالهم وأفعالهم المخالفةِ للشرع إلَّا لجهلهم بحقوق الله عز وجل وعظمته، ولضعف بصيرتهم، وهم أصناف:
الأول: الكفار بالله، واليوم الآخر، والأنبياء, فإنَّ الله زيّن لكلّ أمة عملها، إنفاذاً لمشيئته، وحكماً بقضائه، وتصديقاً لكلامه.
الثاني: أهل التأويلِ الفاسدِ الذين أخبر الله عنهم بقوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ﴾ ، كأهل حروراء والنهروان، ومن عمل بعملهم في يومنا هذا، وخطرهم الآن على المسلمين أشدّ من أعداء الدين، فهم مثلهم وشرٌّ منهم.
ورد في كتاب الاحتجاج عَنِ الْأَصْبَغِ بْنِ نُبَاتَةَ قَالَ: “خَطَبَنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي…، فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا الذَّارِيَاتُ ذَرْواً؟ قَالَ الرِّيَاحُ قَالَ فَمَا الْحَامِلَاتُ وِقْراً؟ قَالَ السَّحَابُ قَالَ فَمَا الْجَارِيَاتُ يُسْراً؟ قَالَ السُّفُنُ قَالَ فَمَا الْمُقَسِّمَاتُ أَمْراً؟ قَالَ الْمَلَائِكَةُ… قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا﴾ قَالَ كَفَرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَقَدْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ فَابْتَدَعُوا فِي أَدْيَانِهِمْ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِ ابْنِ الْكَوَّاءِ ثُمَّ قَالَ يَا ابْنَ الْكَوَّاءِ وَمَا أَهْلُ النَّهْرَوَانِ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أُرِيدُ غَيْرَكَ وَلَا أَسْأَلُ سِوَاكَ قَالَ فَرَأَيْنَا ابْنَ الْكَوَّاءِ يَوْمَ النَّهْرَوَانِ فَقِيلَ لَهُ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ بِالْأَمْسِ تَسْأَلُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا سَأَلْتَهُ َ أَنْتَ الْيَوْمَ تُقَاتِلُهُ؟ فَرَأَيْنَا رَجُلًا حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ” .
الثالث: وهم الذين أفسدوا أعمالهم بالرياء، وضيّعوا أحوالهم بالإعجاب، ويلحق بهؤلاء أصناف كثيرة، وهم الذين أفنوا زمانهم النفيس في طلب الخسيس. وقد نبّه الباري تعالى على هذا بقوله: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ .
والمهمّ في المقام أَنَّه حتى نتجنب الخسران المبين علينا أن نعرف حقيقة الأعمال التي تؤدّي إليه، وحقيقة الأعمال التي تجنبنا الوقوع في الخسران والندم. ولَّما أشارت الآية إلى لزوم ترك الشرك: كبيره وصغيره، كان علينا أن نعرف الإخلاص وكيفية تحقيقه حتى نتمكن من تحصيله والعمل به والحفاظ عليه.