مجدداً يعود الحراك باتجاه الساحة المصرية , تتغلغل فيه الأيادي السعودية في محاولة لفرض ماحُملت به من استراتيجيات ورؤى أمريكية لجهة التحشيد الأمريكي الحاصل في المنطقة الذي لا ينفك صياغة ً وتصنيعاً للأحلاف في لعبة الأمم التي ترخي بظلالها بشدة على المشهد العربي والاقليمي والدولي , بدوره يسارع الروسي لمد جسر الصداقة تطبيقاً لما قد أعلنه الرئيس بوتين في زيارته الأخيرة للقاهرة بأن روسيا ستكون الصديق الوفي لمصر , فترسو السفن الروسية في ميناء الاسكندرية لإجراء تدريبات مشتركة مع البحرية المصرية , وذلك بعد زيارتين سارع فيهما الخطى الجانب السعودي باتجاه ” أم الدنيا ” , الأولى قام بها وزير الدفاع التي سرعان ما تمخض عن نتائجها الإعلان عن إجراء مناورات عسكرية كبيرة بين الجانبين على الأراضي السعودية , في حين كانت الزيارة الثانية بتوقيع وزير الخارجية الجديد عادل الجبير الذي عاود العزف على “المقام” القديم الذي اعتادت أن تعزفه المملكة منذ البدايات لجهة ماسماها التدخلات الإيرانية في المنطقة التي يجب مواجهتها بحسب تعبيره , ولم يخف أيضاً جهود بلاده في التواصل مع روسيا للتخلي عن دعم سورية , ما يدلل على استمرار النهج التصعيدي للمملكة ضد دمشق , بدوره بادل وزير الخارجية المصرية الضيف ” الكبير” ذات المشاعر, معلناً عن تطابق المواقف قيما يتعلق بسورية واليمن ومؤكداً أنه لاغنى عن التعاون المصري السعودي لحماية الأمن القومي العربي .
فكيف تمكن لنا قراءة ما يحدث على الساحة المصرية ؟؟ وهل باتت مصر موضع نزاع ومحط أنظار في لعبة الأمم وتصنيع المحاور ؟؟ وهل السلوك المصري المنجذب حيناً باتجاه موسكو وأحياناً باتجاه واشنطن وحلفائها هو في إطار المناورة السياسية لتحقيق المصالح المصرية أولاً؟؟ أم إن مصر قد حسمت قرارها وحجزت مقعدها في اتجاه محدد لا رجعة عنه ولاسيما بعد دعمها للتحالف السعودي ضد اليمن , وبوصفها من جهة أخرى الركن الأساسي فيما سمي بالقوة العربية المشتركة لمواجهة الأخطار التي تهدد الأمن القومي العربي ؟؟
لا يخفى على أحد محاولات مصر في ظل حكم السيسي التقرب من موسكو وفتح قنوات اتصال معها ولاسيما في المجال العسكري والتقني في محاولة لتطوير القدرات العسكرية المصرية , لكن وبالتوازي مع ذلك الحراك دأبت مصر أيضاً على الحفاظ , لا بل توطيد العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وفي أكثر من مناسبة ومن على أكثر من منبر كان السيسي يؤكد على استراتيجية العلاقة مع الولايات المتحدة لدرجة أن وزير خارجيته الأسبق نبيل فهمي كان قد وصف العلاقة بين مصر والولايات المتحدة بعلاقة الزواج الشرعي , وكذلك لم يجد حرجاً ( أي السيسي) في الانتصار بقوة للعلاقة مع دول الخليج ولاسيما فيما يتعلق بالإعلان غير مرة عن تلازم الأمنين الخليجي والمصري , وهو الذي عدّ بأن علاقة مصر مع إيران تتحدد بكليتها من البوابة الخليجية , ومن هنا ومع استمرار تأزم العلاقة بين إيران ودول الخليج من خلال الملفين السوري واليمني , يمكن فهم عدم تطور العلاقة بين مصر وإيران إلى مستوى متقدم على الرغم من محاولة الأخيرة تفعيل تلك العلاقة , البعض حلل السلوك السياسي المصري بأن مصر بصورتها وحلتها الجديدة لا يمكن إلا أن تبني علاقات مع الروسي والأمريكي على حد سواء, وإن التقرب من دول الخليج هو أمر بدهي لتنمية ونهضة الاقتصاد المصري الذي هو بالفعل بحاجة للمال الخليجي , لكن مع تطور الحدث اليمني وانخراط مصر ودعمها للتحالف السعودي , وما بدأ يتبدى من السياسة المصرية الخارجية ولاسيما في قمة شرم الشيخ الأخيرة , وعدم تبني مصر موقف حاسم من الأزمة السورية , كل ذلك ترك سيل من إشارات الاستفهام, وأشّر إلى تحول مصري باتجاه التوجهات السعودية والخليجية وتالياً قبول الاصطفاف ربما في المحور الأمريكي .
منذ عقود كانت العين الأمريكية ولا تزال مسمّرة باتجاه مصر ودورها الفاعل في المنطقة , إذ تدرك الولايات المتحدة أن وضع اليد على بلد بحجم مصر إما يشكل عاملاً مهماً وحاسما ًفي إنجاح الاستراتيجيات الأمريكية , ففي خمسينيات القرن الماضي وفي ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي سارعت الولايات المتحدة الأمريكية وبعيد توقيع اتفاق الجلاء بين مصر وبريطانيا , لضم مصر إلى تحالف عسكري في المنطقة رداً على التمدد والنفوذ الشيوعي المتنامي آنذاك, أو ماسمي حينها بدول الحزام الشمالي “تركيا والعراق وباكستان وإيران” ملوحةً بإيقاف المعونة العسكرية لمصر , وأثناء المحادثات التي دارت بين الطرفين نقل مبعوثا وزارة الدفاع الأميركية إيفلاند وجيرهارد رسالة على لسان وزير الخارجية الأميركي دالاس إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأن العدو الحقيقي للعرب هي الشيوعية الدولية , فجاء رد عبد الناصر بأن للعرب عدوين رئيسين في المنطقة هما الكيان الصهيوني وبريطانيا التي تحتل أراضي عربية , ومن الحماقة بمكان إثارة مخاوف العرب من غزو سوفييتي ,وعلى إثر ذلك فشلت المحادثات ورفضت مصر الانصياع للرغبة الأميركية. في اعتقادنا أن محاولات ضم مصر إلى الحلف الأمريكي , وإثارة مخاوف العرب من عدو وهمي متمثل بالإيراني , وتصوير الصراع وتغذيته على أساس أنه في إطار مذهبي وطائفي , واستمرار استهداف المؤسسة العسكرية المصرية واستنزافها بالأدوات القاعدية والمجاميع المتطرفة هي محاولات مستمرة لن تهدأ , لجهة النيل الكلي من الدور المصري واختطافه بالمطلق على قاعدة ” إذا صلحت مصر صلح العرب , وإذا فسدت فسدوا ” . فهل حسمت مصر قرارها وخيارها في الانخراط الكلي في الاستراتيجيات الأمريكية ؟؟ أم إنها مستمرة في مقاربة وقراءة التطورات السياسية الحاصلة والتموضع في نهاية المطاف في الخانة التي تعيد لمصر دورها وثقلها الوازن ؟؟ و في غمرة ذلك يبقى السؤال ؟ هل ما رفضه عبد الناصر قد قبله السيسي وصادق عليه ؟؟