لم يعد انهيار المحور الثلاثي، مصر وسوريا والعراق، الذي حمل لواء «الثورة»، مكافئاً للمحور الخليجي، الحامل راية الثروة، في الصراع التاريخي من أجل تحديد مسار أهل المنطقة وسلطاتهم السياسية. كما أن اسرائيل، المتمسكة بهويتها اليهودية التوراتية، لن تكون معفية من التحالف الوسخ مع «الطوائفيات» المسلحة، والمرتبطة عضوياً بالريع النفطي الخليجي.
والسبب الجوهري هنا يكمن في أن التدخلات الامبريالية العسكرية المتواترة في المنطقة، لجمت من جهة قانون التطور اللامتكافئ بين اسرائيل والمحور الثلاثي، وعطلت من جهة أخرى، قانون التطور المشترك بين اسرائيل ودول الخليج الريعية النفطية. بهذا المعنى، فإن كل خمود للحرب السياسية والعسكرية بين المحور الثلاثي واسرائيل يؤدي حتماً إلى اتساع الحرب الأهلية العربية من زاوية، والى انغمار القوى العالمية في ساحتها من زاوية ثانية. في هذه الأوضاع، تتحول الأهداف التاريخية للمشروع النهضوي الى أدوات رخيصة من أجل بناء أهداف جديدة، تصل عملياً بين مصالح القوى الامبريالية ورغبات دول الريع النفطي الطوائفي.
ولكن من الناحية العملية، قد لا تتطابق حسابات حقل كل منهما مع حسابات بيدر الثاني. وهذا ما نشاهده الآن في الفروقات الجوهرية المعلنة بين حدي الحفاظ على السلطة السياسية أو الدولة الوطنية، أو التدمير المنظم لهما ومسح البلد كلياً من خريطة الصراع والوجود.
استشارات النخب المجانية
بيد أن الفروقات الجوهرية المذكورة، في العراق أو مصر أو سوريا أو حتى المنطقة بأشملها، ليست وليدة النيات فقط، إنما يظهرها العمل السياسي والعسكري المنظم، الذي تعرضت له المنطقة لأكثر من نصف قرن ولحد الآن، في العراق تحديداً. فالتحالفات القائمة الآن أيضا ريعية على صعيد الطاقة أو الاقتصاد الحدودي في التهريب، بين الدول الخليجية والمنظمات الإرهابية المسلحة من نمط «داعش» وأخواتها ومشتقاتها. وقد أصبحت الصلات مكشوفة في العلاقة بين الأرباح الفلكية الريعية ومهمات التهديم المنهجي للحكومات أو السلطات السياسية أو حتى الدول الوطنية.
بمعنى آخر، فإن هذه النشاطات العسكرية، تحديدا لـ «داعش» و «جبهة النصرة»، كانت منذ البدء وما زالت «خرائطية»، أي انها برغم عشوائيتها المعلنة، ذات طابع طوبوغرافي سياسي ومحتوى ديموغرافي اجتماعي، يهدف الى رسم حدود فاصلة وتماس، بحسب الإيقاع العسكري على الجبهات المتعددة، أو الإيقاع السياسي للمفاوضات العلنية أو السرية في الغرف المغلقة في المنطقة، والتابعة مباشرة للإدارة الأميركية.
ان جوهر الإسراع والبطء في العمليات العسكرية من الطرفين، التحالف الدولي الكاذب، و «داعش»، قد تحول من غاية تؤطرها الإمكانيات اللوجستية والطاقات المتوافرة على الأرض، إلى هدف يكون له دور معين، مختلف أو متسق مع المآرب العامة لأميركا، في تحديد سمات المرحلة القادمة، لناحية توقف الحرب الوقتي أو الدائم، أو استمرارها لأجل غير معروف. من هذا المنظار نلاحظ ان غرف العمليات السياسية والعسكرية لأميركا وأعوانها في المنطقة، بدأت تلجأ، لضرورات الصراع، الى استشارات طبية سريعة من النخب السياسية الداعية للحروب، سواء كانت أميركية أم عربية، التحقت مع الزوارق الامبريالية المسلحة. وبلا شك في هذا المضمار، تبدو الوصفة الطبية المتميزة للمعماري العراقي السابق والأكاديمي الحالي كنعان مكية هي الأبرز والأدق في مراميها، علماً أنها تشكو من الأمراض ذاتها التي تعشش في جدران النصائح الأخرى، المقدمة من بعض ركائز المحافظين الجدد ومنهم اليوت ابرامز، والذين كان لهم قصب الســبق في التخـــطيط لغزو العراق واحتلاله وتدميره.
مكية المعماري وكيغان العسكري
في التراث السياسي الضخم للجمعيات السرية العالمية في التاريخ، والحالي أيضا، نجد الأنظار مشدودة دائما الى الماسونية باعتبارها قوة تنظيمية خارقة ولديها شبكات ممتدة وتعتمد في بنيتها التنظيمية على جملة رموز لها صلة عميقة بالبناء والهندسة المدنية وأدواتها المستعملة والمعروفة. وكنعان مكية يتمتع شخصياً بصفات سياسية خاصة، وهو المتحول من التروتسكية المقارعة للامبريالية الى الارتباط العضوي مع فريق المحافظين الجدد أكاديميا وسياسيا.
أما والده المعمر، فهو من كبار المعماريين الأفذاذ في العراق والعالم، وكان الرئيس العلني للمحفل الماسوني العراقي في العام 1957، والذي كانت صلته العضوية متينة مع البلاط الملكي والوصي على العرش عبد الاله. أما الفكر العسكري الذي يستند إليه المحافظون الجدد، ومنهم مكية، فهي الدراسات والتحليلات العسكرية – السياسية للمؤرخ العسكري البريطاني جون كيغان، توفي العام 2012، والذي يعتبر من أكثر الكتّاب يمينية في التاريخ العسكري البريطاني والعالمي المعاصر. وقد كان مناصراً لكل الحروب التي خاضتها الامبريالية العالمية في العالم ومنطقتنا، ومنها حروب فييتنام وأفغانستان والعراق في عامي 1991 والاحتلال في عام 2003.
ويعتمد كيغان في جوهر منهجه في التحليل على العداء المطلق والازدراء الشائن للمفكر العسكري الالماني كلاوزفيتز وأطروحاته الشهيرة في كتابه «حول الحرب». والعمود الفقري لفكرة كيغان هي رفضه المبرم لموضوعة كلاوزفيتز المتميزة: «أن الحرب امتداد للسياسة لكن بوسائل اخرى». فهو يلغي عنصر السياسة في الحرب ويعتنق فكرة أن الانثروبولوجيا في التطبيق العملي هي البديل الناجع لأوهام الحلول السياسية للصراع بين الخير والشر. ويمكن القول من دون مغامرة، إن معظم قادة المحافظين الجدد ومنهم دونالد رامسفيلد قد ساروا على خطى كيغان في التدمير المنهجي للمجتمع العراقي، وعلى الغرار نفسه تسير الآن «داعش» وأخواتها ومشتقاتها.
الخرائط والنظام العربي الرسمي
يطرح مكية معادلة مهتزة تعكس تفكيره السطحي الانتهازي وخميرته الفكرية المرتبطة بأميركا وإسرائيل، والعداء المريض الذي يكنّه للمشروع العربي النهضوي ولمبدأ الدولة – الأمة في المنطقة العربية. وهو يركز برتابة جلفة على دور الطغيان في القطيعة التاريخية مع المركزية الثقافية الرأسمالية وتعويق الاتساق التاريخي مع اسرائيل في المنطقة، النموذج الوحيد الذي يلتزم بالديموقراطية الليبرالية الغربية بحسب قوله. ومن هذا المنهل يطالب مكية بالتدخل العسكري الشامل في المنطقة لتدمير «داعش» وكل بلدان ودول الطغيان في الإقليم والمناهضة للمشروع التاريخي للغرب وأميركا.
وفي نتائج ما بعد هذه المهمات الحربية، يطرح مكية برنامجا ديموقراطيا لخرائط المنطقة، يعتمد على الاستفتاء الشعبي للناس من جهة، وعلى الحفاظ ما يمكن الحفاظ عليه من النظام العربي الرسمي. وهو يحث على تدمير الوطنية العراقية والعلاقة العضوية العربية وإبادة كل الصلات الافتراضية والحقيقية بين الشعب في العراق ودول الجوار كلها، عربية كانت أم غير عربية، لأن الطائفية المحلية برأيه يمكن أن تكون سامية، بشرط عدم ارتباطها مع طائفية الاقليم العربية أو غيرها.
واذا ما أخذنا آراء الكاتب والخبير بيتر فان بورين، المنتدب الى العراق من وزارة الخارجية الأميركية، وإصراره على ان «داعش» هي أحد مظاهر الاحتلال العسكري الاميركي للعراق، وكذلك واحدة من أعراض الحرب الطوائفية الأهلية التي فجرها الاحتلال، فإن مكية في وصفته السياسية يحاول الإقرار بمفهوم «لقد سبق السيف العذل»، أي أن ما حصل عمليا بعد الغزو والاحتلال قد تم بفعل عوامل داخلية للعراق، ولا حاجة الى عملية مراجعة.
لقد فشل مكية معمارياً وأخفق سياسياً ونجح أكاديمياً في ملاذه الامبريالي الثقافي في مناصرة التدخل الانساني للامبريالية للتغيير في المنطقة، ولم يبق له سوى رموز التنظيمات السرية الغامضة. وقد أصبح جزءا من تراث «لقد سبق السيف العذل»، في التاريخ العلني للشعب العراقي المغدور.
نقلاً عن موقع جريدة السفير اللبنانية