الرئيسية / مستحبات الايام ولياليها / في مراقبات شهر محرم الحرام

في مراقبات شهر محرم الحرام

من لوازم الإيمان اليقظة وعلامتها المراقبة، وهي «قرار بالتزام قانون الله تعالى: الشّرعة والمنهاج» تماهياً مع اليقين والحب: اليقين به تعالى، وحبّه سبحانه.
مراقبة الحق للخلق، تستدعي مراقبة النفس في محضر الحقّ، ويتوقف الثّبات في خطّ مراقبة النفس على مشارطة النفس ومحاسبتها.

ولمراقبة النفس في محضر الحق برامجها العمليّة الموزّعة على ساعات العمر، في نظام إلهيّ هو التظهير العمليّ لثقافة الأحكام الخمسة. ويهدف من هذا النظام إلى تعزيز العقيدة في النفس لتتحوّل المعرفة إلى عمل، ويكوّن العامل معرفة متجلّية، فيكون عارفاً.
مفتاح ذلك والسبيل: دوام الذكر، وهو تعبير آخر عن دوام المراقبة:

في المناجاة الشعبانية: «وأن تجعلني ممّن يديم ذكرك، ولا ينقض عهدك، ولا يغفل عن شكرك، ولا يستخفّ بأمرك. إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج، فأكون لك عارفاً، وعن سواك منحرفاً، ومنك خائفاً مراقباً، يا ذا الجلال والإكرام».

وأبرز كتب المراقبات: كتاب «إقبال الأعمال» لسيد العلماء المراقبين، السيد ابن طاوس، و«المراقبات» للفقيه الكبير الشيخ الملكي التبريزي، وفي هديهما: هذا الباب.
 

* محرّم شهرُ الهجرة إلى الله تعالى ورسوله مع الحسين: «حسينٌ مني وأنا من حسين».


* أبرز ركائز مراقبة النفس في شهر محرّم: حرمة الشهر، وهجرة النبيّ الأعظم، والهجرة إليه مع الحسين السبط والنّهج، ومواصلة الهجرة مع وارثِ وارث النبيّين الإمام السجّاد عليه السلام، للتأسيس معه وفي هديِه للثبات في خطّ الأئمّة من ذريّة الحسين المعوَّض بهم عن شهادته، أئمّةِ الزمان والمكان، والعقل والجَنان، وسلامة إنسانيّة الإنسان.


* قال العلّامة الطباطبائي في (الميزان): «..المحرّم، وهو أوّل السّنة عند العرب، وقد كان يسمّى صَفَراً في الجاهليّة؛ فيُقال صفر الأوّل، وصفر الثاني. وقد كانت العرب تُنسئ في الصَّفر الأوّل، ثم أقرَّ الإسلام الحرمة، فسُمِّي لذلك بشهر الله المحرّم، ثمّ اشتُهر بالمحرّم». وهو ثالث الأشهر الحُرُم السَّرد (أي المتتالية)، ورجب المفرد رابعها.

 

إقبال الأعمال: وفي هذه العشر [عشر محرّم الأولى] كان أكثر اجتماع الأعداء على قتل ذرِّيّة سيِّد الأنبياء صلوات الله عليه وآله، والتّهجُّم بذلك على كَسْر حُرمة الله جلَّ جلالُه، وكَسْر حُرمة رسوله عليه السلام صاحبِ النِّعم الباطنة والظَّاهرة، وكسر حرمة الإسلام والمسلمين “..” فينبغي مِن أوَّل ليلة من هذا الشَّهر أن يظهر على الوجوه والحركات والسَّكَنات شعار آداب أهل المصائب المعظَّمات في كلِّ ما يتقلَّب الإنسان فيه، وأن يَقصد الإنسان بذلك إظهار المُوالاة لأولياء الله، والمُعاداة لأعاديه”.

* غيرةُ المحمديّ الصادق على حدود الله تعالى وحُرماته، تجوهر حبّ الله تعالى في عقله والفؤاد، فيوقن أنّ صدق الهجرة رهن العمل بثقافة «محرّم الحسين»، فإذا الثورة عنده محرابٌ أكبر من الدنيا. إنّه باب الحياة الطيّبة بالعِلْم العِلْم، والعمل الصالح. والمنطلق والقاعدة والمَطلع والختام هو الصلاة.

صلوات اللّيلة الأولى


ثلاث صلوات مرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله:

1- «إنَّ في المحرّم ليلة شريفة، وهي أوّل ليلة منه، مَن صلّى فيها مائة ركعة، يقرأ في كلّ ركعة الحمد و(قل هو الله أحد)، ويُسلِّم في آخر كلّ تشهُّد، وصام صبيحةَ اليوم، وهو أوّل يوم من المحرّم، كان مِمَّن يدوم عليه الخير سَنَتَه، ولا يزال محفوظاً من الفتنة إلى القابل، وإن مات قبل ذلك صار إلى الجنّة إن شاء الله تعالى».
2- «تُصلّي أوّل ليلة من المحرّم رَكعتين، تقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وسورة الأنعام، وفي الثانية فاتحة الكتاب وسورة يس».
3- «إنَّ في المحرّم ليلة، وهي أوّل ليلة منه، مَن صلّى فيها ركعتين يقرأ فيها سورة الحمد و(قل هو الله أحد) إحدى عشرة مرّة، وصام صبيحتَها، وهو أوّل يوم من السَّنة، فهو كَمَن يدوم على الخير سنتَه، ولا يزال محفوظاً من السَّنة إلى قابل، فإن مات قبل ذلك صار إلى الجنّة».

 

اليوم الأول

الصّوم: عن الإمام الصادق عليه السلام: «صومُ المُحَرّم يعصِم صائمَه من كلّ سيّئة».

وعن الإمام الرضا عليه السلام: «..وفي أوّل يوم من المحرّم دعا زكريّا عليه السلام ربّه عزّ وجلّ، فمن صام ذلك اليوم استجاب الله عزّ وجلّ منه كما استجاب لزكريّا عليه السلام».

قال الشيخ الطوسي إنّه يُستحبُّ صيام الأيام التّسعة من أوّل محرّم، وفي اليوم العاشر يُمسك عن الطّعام والشّراب إلى بعد العصر، ثمّ يفطر بقليل من تربة الحسين عليه السلام.

الصّلاة: صلاة أوّل كلّ شهر: ركعتان، يقرأ في الأولى بعد الحمد سورة الإخلاص ثلاثين مرّة، وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر ثلاثين مرّة، ويتصدّق بما يتيسّر، يشتري به سلامة ذلك الشهر كلّه. ويُستحبّ أن يقرأ بعد الصَّلاة: بسم الله الرّحمن الرّحيم، وما مِن دابَّة في الأرض إلَّا على اللهِ رزقها ويعلمُ مستقرَّها ومستودَعها كلّ في كتابٍ مبين. بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وإن يمسسكَ الله بِضرٍّ فلا كاشف له إلَّا هو، وإنْ يردكَ بِخيرٍ فلا رادَّ لِفضلِه يُصيب به مَنْ يشاء مِن عباده وهو الغفورُ الرَّحيم، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، سيجعل الله بعد عُسرٍ يسراً، ما شاء الله لا قوة إلَّا بالله. حسبنا الله ونعم الوكيل. وأفوِّضُ أمري إلى الله إنَّ اللهَ بَصيرٌ بالعباد. لا إله إلّا أنتَ سبحانكَ إنِّي كنتُ من الظَّالمين. ربِّ إنّي لِما أنزلتَ إليّ مِن خيرٍ فقير. ربِّ لا تذرْني فرداً وأنت خيرُ الوارثين.


*عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله يُصلِّي أوّل يومٍ من المحرّم ركعتين، فإذا فرغ رفع يديه ودعا بهذا الدُّعاء ثلاث مرّات: أللَّهُمَّ أَنْتَ الإلهُ القَدِيمُ، وَهذِهِ سَنَةٌ جَدِيدَةٌ فَأَسْأَلُكَ فِيها العِصْمَةَ مِنَ الشَّيْطانِ، وَالقُوَّةَ عَلى هذِهِ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ “..”» (أنظر: مفاتيح الجنان – أعمال شهر محرّم)

اليوم الثالث

إقبال الأعمال: اليوم الثّالث يومٌ مبارَك، فيه كان خلاص يوسف عليه السلام من الجُبِّ، فمَن صامه يَسَّرَ الله له الصَّعب وفَرَّج عنه الكَرب. رُوِي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله: «مَن صام اليوم الثّالث من المحرّم استُجيبت دعوتُه».

* كما حُفّت النارُ بالشهوات، حفّت الدنيا بالبلاء. طبيعةُ الإختبار والإفتتان هي الكبد والكدح وخوض اللّجج والغمرات. بالإنقطاع إلى الله تعالى يُمكن استسهال الصعب واستلانة المُستوعَر.

اليوم التّاسع

إقبال الأعمال: عن ابن عباس: «إذا رأيتَ هلال المحرّم فاعدد، فإذا أصبحتَ من تاسعه فَأَصْبِح صائماً، فسُئل: كذلك كان يصوم محمّد صلّى الله عليه وآله؟ قال: نعم».

* أنت مؤمن. إذاً أنت عريقٌ عريق، لا يُضاهي عراقةَ انتمائك شبيه. تعامل مع كلّ يوم باستحضار ما جرى فيه وحدث، من يوم دحو الأرض إلى يومك المحمديّ المتجدِّد، مهتدياً بسيّد النبيّين وآله الأطهار ﴿..وما آتاكم الرسول فخذوه..﴾ الحشر:7.

ليلةُ عاشوراء ويومُها

 الإحياء: رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «مَن أحيا ليلة عاشوراء فكأنّما عَبَدَ الله عبادةَ جميع الملائكة، وأَجرُ العامل فيها كأجرِ سبعين سنة».

ورُوي أيضاً أنّ مَن وُفِّق فيها لزيارة الحسين عليه السلام بكربَلاءِ والمبيت عنده حتّى يُصبِح، حشره الله يوم القيامة ملطّخاً بدم الحسين في جملة الشُّهداء معه عليه السلام.

 الصّلاة: ثلاث صلوات مرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله في ليلة العاشر:


1- «.. أربع ركعات من آخر اللّيل، يقرأ في كلّ ركعة بفاتحة الكتاب وآية الكرسي -عشر مرات، و(قل هو الله أحد) -عشر مرات، والمعوّذتين عشراً عشراً، فإذا سلّم قرأ (قل هو الله أحد) مائة مرّة..».


2- «.. مائة ركعة بالحمد مرّة و(قل هو الله أحد) ثلاث مرّات، ويُسلّم بين كلّ ركعتين، فإذا فرغ من جميع صلاته قال: سبحانَ الله والحمدُ لله ولا إلهَ إلَّا الله واللهُ أكبر، ولا حَوْلَ ولا قوّة إلا بالله العليِّ العظيم – سبعين مرة..»


3- أربع ركعات، في كلّ ركعة الحمد مرّة، و(قل هو الله أحد) خمسين مرّة، فإذا سلّمتَ من الرابعة، فَأَكْثِر ذكرَ الله تعالى، والصَّلاة على رسوله، واللّعن لِأعدائهم ما استطعت”.


* ترتبط فرادة ثقافة الإحياء، بثقافة الحياة الطيّبة. ما أكثر من ينام أكثر من ساعات اللّيل، وما أكثر من يُحيي اللّيل كلّه بغير العبادة والصلاح. «وقليلٌ ما هم» أولئك الذين يُحيون اللّيل في خطّ توثُّب العقل، موقنين أنّ الممرّ قصير، وما عند الله خيرٌ وأبقى.

أعمال اليوم العاشر:


* قراءة التَّوحيد ألف مرة في هذا اليوم، وروي أن الله تعالى ينظر إلى من قرأها نظر الرحمة.


* أن يقول ألف مرّة: أللَّهُمَّ العن قتلة الحسين عليه السلام.


* زيارة الإمام الحسين عليه السلام، بزيارة عاشوراء المرويّة عن الإمام الباقر عليه السلام.


مصباح المتهجّد: عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«مَن زار الحسين بن عليّ عليهما السلام في يوم عاشوراء من المحرَّم حتّى يظلّ عنده باكياً،

لقيَ الله عزَّ وجلَّ يوم يلقاه بثواب ألفَي حجَّة وألفَي عمرة وألفَي غزوة،

ثواب كلِّ غزوة وحجَّة وعمرة كثواب مَن حجَّ واعتمر وغزا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ومع الأئمّة الراشدين.

قال [الراوي]: قلت: جعلتُ فداك، فما لِمَن كان في بعيد البلاد وأقاصيه، ولم يُمكنه المصير إليه في ذلك اليوم؟

قال: إذا كان كذلك برز إلى الصَّحراء أو صعد سطحاً مرتفعاً في داره، وأوْمَأ إليه بالسَّلام، واجتهد في الدُّعاء على قاتله وصلَّى من بعد ركعتين،

ولْيَكن ذلك في صدر النَّهار قبل أن تزول الشَّمس،

ثمَّ ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه ويأمر مَن في داره مِمَّن لا يتَّقيه بالبكاء عليه،

ويُقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه،

وليُعَزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام،

وأنا الضَّامن لهم إذا فعلوا ذلك على الله تعالى جميع ذلك، قلت:

جعلت فداك أنت الضَّامن ذلك لهم والزَّعيم؟

 قال: أنا الضَّامن وأنا الزَّعيم لِمَن فعل ذلك، قلت :

فكيف يعزِّي بعضنا بعضا؟

قال: تقولون:

 أعظَمَ اللهُ أجورنا بمصابنا بالحسين، وجعلنا وإيَّاكم من الطَّالبين بثاره مع وَلِيِّه الإمام المهدي مِن آلِ محمَّدٍ عليهم السلام.


وإن استَطعتَ أن لا تنتشِر يومك في حاجة فافعل، فإنّه يومُ نحسٍ لا تُقضى فيه حاجة مؤمن،

فإنْ قُضِيَت لم يُبارك ولم يرَ فيها رشداً،

ولا يدَّخرنَّ أحدُكم لمنزله فيه شيئاً،

فمَن ادَّخر في ذلك اليوم شيئاً لم يُبارَك له في ما ادَّخره ولم يُبارَك له في أهله.

فإذا فعلوا ذلك كتَبَ الله تعالى لهم ثواب ألف حجَّة وألف عمرة وألف غزوة كلّها مع رسول الله صلّى الله عليه وآله،

وكان له أجر وثواب مصيبة كلّ نبيّ ورسول ووصيٍّ وصِدِّيق وشهيد مات أو قُتِل منذ خلق الله الدُّنيا إلى أن تقوم السَّاعة.


“..” يا علقمة! [إسم الراوي]

 إذا أنت صلَّيت الرَّكعتين بعد أن تومي إليه بالسَّلام، فقُل بعد الإيماء إليه من بعد التّكبير هذا القول،

– صلى الله عليك ياأبا عبد الله

صلى الله عليك ياأبا عبد الله

صلى الله عليك ياأبا عبد الله-

فإنّك إذا قلت ذلك فقد دعوْتَ بما يدعو به زوّاره من الملائكة، وكتب الله لك مائة ألف ألف درجة،

وكنتَ كَمَن استُشهِد مع الحسين عليه السلام، حتّى تشاركهم في درجاتهم ولا تُعرَف إلَّا في الشهداء الذين استُشهدوا معه، وكتب لك ثواب زيارة كلّ نبي وكلّ رسول وزيارة كلّ مَن زار الحسين عليه السلام،

منذ يوم قُتِل عليه السَّلام وعلى أهل بيته. ثم أورد زيارة عاشوراء المعروفة

وقال: وإن استطعتَ أن تزوره في كلّ يوم بهذه الزِّيارة في دارك فافعل، فلك ثواب جميع ذلك».

* تأمّل في تسلسل أعمال اليوم العاشر:

قراءة «التوحيد» ألف مرّة.

بعدها ألف مرّة «أللّهمّ العن قتلة الحسين»، بعدهم زيارة عاشوراء.

* ستُدرك أن البراءةَ من قتلَة الحسين،

وزيارتَه عليه السلام بزيارة عاشوراء هو الطريق إلى تثبيت حقيقة التوحيد.

زيارة عاشوراء تجلّي لا إله إلا الله.

توحيد كلّ موحد بمقدار علاقته بالحسين سرِّ رسول الله.

هذا العمل بتسلسله تجلّي قوله تعالى:

﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني..﴾

آل عمران:31.

 

ليلة إحدى وعشرين

ليلة إحدى وعشرين منه -وكانت ليلة خميس- سنة ثلاث من الهجرة، كان [على رواية] زفاف فاطمة ابنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وعليها إلى منزل أمير المؤمنين عليه السلام، يُستَحَبُّ صومُه شُكراً لله تعالى بما وَفَّقَ من جَمْعِ حُجَّتِه وَصَفِيَّتِه.

 

اليوم الخامس والعشرون

 

 

في هذا اليوم من سنة 95 هجريّة كانت شهادة الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليهما السلام، وينبغي في هذا اليوم زيارته عليه السلام بقراءة الزيارة الجامعة أو زيارة أمين الله، وغيرهما من زيارات المعصومين عليهم السلام.


* أيُّ سرٍّ في سيّد الساجدين المحمّديين، فإذا هو المُدّخر لوراثة وارثِ النبيّين. يتجلّى بعض الجواب في ما رواه أئمّة الحديث عن سرّ النبوّات والخلق أجمعين حول هذا المشهد من مشاهد القيامة: «إذا كان يوم القيامة، ينادَى: أين زين العابدين؟ فكأنّي أنظر إلى ولدي عليّ بن الحسين بن أبي طالب، يَخْطُر بين الصُّفوف».

نفحات

ينبغي لأولياء آل محمد صلوات الله عليهم بحكم الولاية والوفاء ، والإيمان بالله العلي العظيم ، والرسول الكريم ، أن يتغيّر حاله في الشعر الأول من المحرّم فيظهر في قلبه ووجهه وهيئته آثار الحزن والتفجّع ، من هذه المصائب الجليلة ، الرزايا الفجيعة ، ويترك بعض لذّاته لا محالة ، في مطعمه ومشربه ، بل منامه وكلامه ويكون بمثابة من أُصيب في والده أو ولده ، ولا يكون حرمة ناموس الله جل جلاله وحرمة رسوله العزيز وحرمة إمامه ، أهون عنده من حرمة نفسه وأهله ، يكون حبّه لنفسه وولده وأهل أقلّ وأدون من حبّه لربّه ونبيّه وإمامه ، ـ صلوات الله عليهم ـ والله تعالى يقول : «قُل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ـ إلى أن قال ـ أحَبّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فترَبّصوا» (التوبة : 24)
.

Copy (5) of 31
وقد رأيت بعض أولادي الصغار ترك في العشر الأول في مأكله الإدام ، كان يأكل الخبز الخالي ! ولم يكن ـ فيما أعلم ـ أن يقول له ذلك أحدٌ ، وظننت أنّ حبّه الباطنيّ بعثه على ذلك .
فإن لم يسمح بذلك نفسه في العشر كلّها ، فلا محالة يتركه في اليوم

Copy (5) of 31
التاسع والعاشر ، والليلة الحادية عشرة ، ويزور لا محالة في العشر الأول كلّ يوم بالزيارة المعروفة بـ (عاشوراء) ويترك في العاشر الأكل والشرب إلى العصر ، بل والتكلّم إلا عن ضرورة ، ولقاء الإخوان ، ويكون يوم حزنه وبكائه .

فإن قدر أن يقيم عزاءه عليه السلام في بيته خالصاً لله فليفعل ، وإلا ففي المساجد أو بيوت أصدقائه ، ويخفي ذلك عن الناس ليبعد عن الرياء ويقرب من الإخلاص ، أن يحضر بعض يومه في مجامع العزاء ويخلو في الباقي ، ويكون نظره في الحزن والبكاء مواساة أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وما أصاب الحسين عليه السلام من جهة الأعداء من الصدمات الظاهرة ، ولكن لا يغفل أنّه عليه الصلاة والسلام وإن كان يصيبه في الظاهر من الصدمات ما لم يسمع أن يصيب مثله أحداً من الأنبياء والأوصياء ، بل أحداً من العالمين ـ لا سيما عطشه الذي ورد فيه ما لا تحتمله العقول من ألفاظ الأحاديث القدسية وغيرها ، ومصيبته من جهة المستشهدين من أهله ، والمأسورات من حرمه ، فكأنّه عاهد مع الحبيب أن يتحمّل في رضاه القتل بكلّ ما يقتل به سائر المقتولين ، من الذبح والنحر والصبر والجوع والعطش والأحزان وغيرها ـ ولكن كان يصل مع ذلك إلى روحه الشريف من بهجات تجلّيات أنوار الجمال ، وكشف سبحات الجلال ، وشوق اللقاء والوصال ، ما يهوّن به تلك الشدائد ، بل يحوّل شدّتها إلى اللذة كما أخذ عنه بعض أصحابه حيث قال : وكان كلّما اشتدّ عليه الأمر احمرّ لونه وابتهج حاله . ولكنّ المصيبات والشدائد الواردة على جسده المبارك ، وعلى قلوب أهل بيته المحترمين ، وما هتك في الظاهر من حرمته ، إنّما يذهب الأرواح ويهيّج الأحزان .
فليظهر من كان من أوليائه أيضاً من المواساة بسيّد السادات بالحزن
Copy of 31
والفجيعة ما يناسب هذه المصيبة الجليلة ، فكأنّها وردت على نفسه ، وعلى أعزّته ، أولاده وأهله ، فإنّه عليه السلام أولى به من نفسه بنصّ جده صلوات الله عليه وآله وإنّه صلوات الله عليه قَبِل هذه المصيبات ، وفدى بنفسه الشريفة لشيعته ، لينجيهم من العذاب الأليم وأيتم أولاده وأعزّته ، ورضي بإسارة حرمه ونسوته ، وزينبه وسكينته سلام الله عليهما وذبح أصغره وأكبره وإخوته وعترته ، لينقذهم من الضلالة والاقتداء بالمضلّين الهالكين المهلكين ، لئلا يعذّبوا بالنار ، وينجوا من عظيم الأوزار .

Copy (4) of 31
وقد تحمّل هذا العطش العظيم ليسقي شيعته من عطش يوم القيامة بالرحيق المختوم ، فيجب بحكم كرائم الصفات ، في الوفاء والمؤاساة ، أن يبذل شيعته أيضاً له ما بذله ـ صلوات الله عليه ـ لهم ، ويفدوا بأنفسهم له كما فدى لهم بنفسه ، وإن فعلوا ذلك لما أدَّوا حقّ المواساة لأنّ نفسه الشريفة لا تقاس بالنفوس لأنّه بمنزلة نفس النبي الكريم وهي علّة إيجاد العالمين ، وسيّد الخلائق أجميعن من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين ، وهو حبيب الله وحبيب حبيب الله .

ويقول في صادق المقال ولسان الحال : يا سيّدي يا ليتني كنت فداءً لك من جميع البلايا ، وجلّ هذه الرزايا ، فيا ليت أهلي وأولادي كانوا مكان أهلك وأولادك مقتولين مأسورين ، ويا ليت سهم حرملة ـ لعنة الله عليه ـ ذبح رضيعي ، يا ليت ولدي ـ عليّاً ـ قطع عوض ولدك إرباً إرباً ، ويا ليت كبدي تفتت من شدة العطش ، ويا ليت العطش حال بيني وبين السماء كالدخان ، ويا ليتني فديتك بنفسي من ألم هذه الجراحات ، ويا ليت ذاك السهم كان بمنحري ، ويا ليت ذاك السهم كان بمهجتي ، ويا ليت حرمتي وأخواتي وبناتي وقعن في هوان الأسر ، يُسقن في البلاد سوق الإماء ووضع بذلك عن

Copy of 31

أهلك الذل والهوان ، فيا ليتنا دخلنا النار ، وابتلينا بالعذاب ، ودفع عنكم هذه المصائب .

فإن كان الله جل جلاله علم من قلبك صدق هذه المقالات ، قبلك لصدق المواساة لأكرم السادات ، وأقعدك مقعد الصّدق في جوارهم ، وجعلك من أهل ديارهم ، ولكنّ الحذر الحذر من الغرور في الدَعوى ، وإظهار هذا الرضا بالبلايا ، ولا يصدّقك حالك وقلبك بعشر عشيرها ، ولا تقبل عند الإمتحان إلا قليلاً من كثيرها ، بدّلت بمقعد الصدق ودرجة الصدّيقين ، بهوان الكذب وأسفل درك المنافقين .

Copy (5) of 31
فإن لم تجد نفسك تسمح بمثل هذه المواساة ، فلا تظهر الدعوة الكاذبة ، لا تهن نفسك فقل : يا ليتني كنت معك ، وأُقتل دونك ، وفزت فوزاً عظيماً ، إن لم يصدّقك حالك بحقيقة هذا التمنّي أيضاً ، فعالج مرض قلبك من حبّ هذه الدنيا الدنيّة ، والركون إلى حياتها ، والاغترار بزخارفها ، وتأمّل فيما خاطب الله به اليهود واقرأ قوله تعالى : «يا أيّها الذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموت إن كنتم صادقين» (الجمعة : 6) .

ويقرأ في آخر اليوم زيارة التسلية ، ويختم يوم عاشوراء بتوسّل كامل ، بحامي يومه وخفيره من المعصومين عليهم السلام في إصلاح حاله وعزائه مع الله ـ جل جلاله ـ ومع الحسين وجدّه وأبيه وأمه وأخيه عليهم السلام ويعتذر عن تقصيره .

وأمّا سائر أعمال العشر الأول : فمن المهمّات دعاء أول الشهر فإنّه من جهة كونه أوّل السنة مؤكّد عند التأمل الصادق ، للعبد المراقب ، لا سيّما للعافية والاحتراز عن آفات السنة ، الدينيّة والدنيويّة ، واستصلاح الحال فيها ، واستجلاب الخيرات فإن في الدعاء قبل الوقت تأثيراً خاصّاً للمهمّات ،
Copy (4) of 31
وقضاء الحاجات ، والدعاء المرويّ في الاقبال دعاء كامل لهذه الجهات جداً .
الأولى أن يصلّي في الليلة الأولى من الصلوات الواردة أيضاً بعضها على حسب نشاطها فلا أقلّ من الركعتين اللتين يقرا فيهما الحمد وإحدى عشر مرّة «قل هو الله أحد» ، ويدعو بالدعاء المرويّ في الاقبال ، الذي دعا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بع صلاة ركعتين .
ويصوم صبيحتها ، وقد ورد لمن فعل ذلك أنّه كمن يدوم على الخير سنة ، لا يزال محفوظاً من السنة القابل ، فإن مات قبل ذلك صار إلى الجنّة .

ويصوم اليوم الثالث وقد ورد أنّه يوم خروج يوسف ـ على نبينا وآله وعليه السلام ـ من الجبّ ، من صامه فرَّج عنه الكرب ، ويسّر له الصعب .

Copy of 31
وورد أيضاً استحباب صوم الشهر كلّه ، وورد خصوص صوم التاسع والعاشر ولكنّ الأحوط ترك صوت العاشورا ولكن يمتنع من الطعام والشراب إلى العصر ، ويفطر عند العصر من جهة انخلاص الحسين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأصحابه من هموم هذه الدنيا الدنيّة ، وفوزهم ووصولهم إلى مطلوبهم من لقاء الله جل جلاله في ذلك الوقت ولعلّه لذلك يتراءى لمواليه المتعزّين بعزائه في عصر هذا اليوم من خفّة الهموم وانفراجها .

وأمّا سائر أعمال ليلة عاشورا ويومها من الصلوات والدعوات ـ غي الزيارات وصلواتها ـ ففي النفس منها شيء ويحتمل وضعها من المخالفين كوضع استحباب الاكتحال وغيرها ولو كانت واردة أيضاً يمكن أن يحكم بترجيح الاشتعال بمراسيم التعزية والصلوات له والمستشهدين بين يديه ولعن قاتليهم ، فإنّ تأكيدها أيضاً ثابت من الروايات .

ثم إنّه مِن اللوازم العقلية زيارة أهل بيته المستشهدين بين يديه وزيارة أصحابه الشهداء لا سيّما المأثورة وإقامة عزائه عليهم السلام .

المهم في هذا الباب وفي كل باب أن يراقب فيما يعمله أن يكون بنيّة ولا يكون على الرسم والعادة ، وأن تكون النية خالصة ، ويكون صادقاً في إخلاصه ؛ فإنّ العمل القليل عن نية خالصة صادقة خير من الأعمال الكثيرة الخالية عنها ، وأن بلغ كثرتها بآلاف أضعافها ، اعتباراً بعبادة آدم عليه السلام وإبليس ، فإنّ عبادة آلاف سنين منه لم تؤثّر في منع الخلود في النار ، وتوبة واحدة من آدم صارت سبباً لعفو عن خطئه ، لاجتبائه واصطفائه ، وإن كان الإخلاص الصادق لا يمكن أن يتأتّى من أغلب الناس بل ومن كلّهم إلا بلطف خاصّ من الله اللطيف بعباده إلا أنّه تعالى بكرم عفوه قد يرضى عن العبد ببذل طاقته ودونها إن عرف واقعاً أنّه عاجز ، لا حول ولا قوّة إلا بالله وهذه المعرفة إنّما يضطرّه إلى اللجاء بالله والالتجاء إلى عنايته وهذا الإضطرار إنّما يدخله في مفاد قوله : «أمّن يُجيبُ المضطرّ إذا دَعاه ويَكشِفُ السوء» (النمل : 62) ويفتح له أبواب عنايات ربّه الكريم ، لأنّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرّين إليه ، المحترفين على بابه ..

Copy (5) of 31
ثمّ إنّ ألزم ما يجب مراعاته في مقام العمل أن يراعي قلبه حتى لا يدخل في نيّة عمله مراءاة الناس ولذّة ثنائهم ، ويستكشف ذلك بأن يقيم العزاء مثلاً في بيت صديقه بحيث يظنّ الناس أنّ المقيم صديقه ، ثم ينظر في قلبه هل يتغيّر من ذلك ويتفاوت حاله في ثقل مؤونة العزاء ومخارجه ، وخفّته ، ومسرّته من شوكة مجلسه ، وخفّته بما إذا علم الناس أنه مقيم العزاء أو لم يعلموا ، وإن لم ير تفاوتاً فلينظر هل رغبته في دعوة القرّاء المعروفين الذين يقرؤون في مجالس الأعيان ، أم لا ، لا سيما إذا كانت قراءتهم أدون شرعاً
ـ من جهة الصحة أو غيرها ـ من غير المعروف ، أو كيف ميله بكون أهل مجلسه من أعيان الناس أو أعيان العلماء أو فقرائهم .

فإن تأمّل في هذه الكواشف ، ير أنّ للريّاء في عزائه مدخلاً عظيماً ، ليستظهر في عمله بالإخفاء والستر ، بأن يقيم العزاء في بيت صديقه ، يوصي إليه بالكتمان ، ويهتمّ لتصحيح عمله ، بأن يدعو للقراءة قارئاً صادقاً متّقياً ، ويسوّي في إكرام الحاضرين من الأغنياء والفقراء ، بل يرجّح بالترجيحات الشرعيّة الدينيّة لا الدنيويّة فإنّ في تصحيح كيفيّات خصوصيّات الأعمال أسراراً كثيرة لها دخلٌ في القبول وتضاعف الأجر .
ثمّ إنّه يتأكّد البيتوتة ليلة العاشورا عند (قبر) الحسين عليه السلام وروى الشيخان أنّ «من زاره وبات عند قبره ليلة عاشورا حتى يصبح حشره الله ملطّخاً بدم الحسين عليه الصلاة والسلام أو لقي الله يوم القيامة ملطّخاً بدمه» .

ثمّ إنه روي عن المفيد عليه الرحمة أنّ في ليلة إحدى وعشرين من المحرّم كان زفاف سيدة نساء العالمين إلى دار سيّد الأوصياء ، وخاتم الأولياء أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما الطاهرين ، فيستحبّ صومه شكراً لله .

أقول : وقد اختلف في ذلك فمن أراد الاستظهار والتفطّن لما في هذه الليلة الشريفة من عظيم منن الله على خواصّ أوليائه وعموم المسلمين ، وأنّ بناء جميع الخيرات المنتشرة في العالم من بركات وجودات الأئمّة الأحد عشر ، وبركات هداياتهم وتصرّفاتهم وأنوار تربتهم ، لا سيّما بركات أنوار الإمام القائم الذي به يتمّ عنايات الله جل جلاله لأهل الدين من هذه الأمّة ، وسائر الأمم في الدين والدنيا ، يظهر عدل الله الأعظم ويكون الدين كلّه لله ،

Copy (4) of 31

كلها في هذه الليلة ، لا بدّ أن تحرّك نفسه بشكر واهب النعم إما بصوم أو بغيره من العبادات والقربات .
والمرجوّ لمن راقب أمثال هذه الأيّام بتعظيم وإجلال أن يدخل في زمرة من وصفهم الله جل جلاله في كتابه الكريم بتقوى القلوب حيث قال : «وَمَن يُعظّم شعائر الله فإنّها مِن تقوى القلوب» (الحج : 32) فإن تأثيرات المراقبات إنّما يكثر ويعظم بالأمور الدقيقة اللطيفة وكلّما زاد اللطف والدقّة ازداد العمل شرفاً ونوراً ، فالشكر عند احتمال النعمة (و) لطفه في المراقبة على الشكر عند يقينها لا يخفى على ذوي الألباب فكيف بربّ الأرباب .

هذا وقد أشرنا سابقاً أن لخروج شهر محرّم الحرام تغيّراً وتأثّراً لأهل المراقبة فإنّ للخروج من حمى ملك الملوك تعالى حقّاً للعبيد ، ومن حقّه أن يناجيه تعالى بواسطة خفير يومه من المعصومين ، ويعترف أوّلاً بأنّي لم أكن مستحقاً لهذا الأمان ، بل كنت أستحقّ بأعمالي وحالاتي وملكاتي كلّها منك الخزي والهوان ، بل العذاب الأليم ، فبفضلك الذي ابتدأت به ذلك الأمان ، وتفضّلت على عبيدك بالشهر الحرام لا تخرجنا بخروجه من أمانك وحماك ، حتى توصلنا إلى دار السلام ، ولا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقّ أداء شكرك ، ورعاية أدب حرمته ، بل عاملنا بكرم عفوك الذي يبدّل السيئات بأضعافها من الحسنات ، ويوصلنا إلى رفيع الدرجات ؛ ويختمها بالصلوات والمشيئة .
ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا من مراقبة آخر المحرّم فهو غير ما يلزم المراقب في أواخر سائر الشهور ، من جهة رفع الأعمال فإنّ له من المحاسبة والاستغفار واستصلاح الشأن بالدعاء مع الله جل جلاله تكليفاً خاصاً يذكر في كتاب المحاسبة من كتب الأخلاق .