مراقبات شهر محرّم الحرام
ينبغي لأولياء آل محمد صلوات الله عليهم بحكم الولاية والوفاء ، والإيمان بالله العلي العظيم ، والرسول الكريم ، أن يتغيّر حاله في الشعر الأول من المحرّم فيظهر في قلبه ووجهه وهيئته آثار الحزن والتفجّع ، من هذه المصائب الجليلة ، الرزايا الفجيعة ، ويترك بعض لذّاته لا محالة ، في مطعمه ومشربه ، بل منامه وكلامه ويكون بمثابة من أُصيب في والده أو ولده ، ولا يكون حرمة ناموس الله جل جلاله وحرمة رسوله العزيز وحرمة إمامه ، أهون عنده من حرمة نفسه وأهله ، يكون حبّه لنفسه وولده وأهل أقلّ وأدون من حبّه لربّه ونبيّه وإمامه ، ـ صلوات الله عليهم ـ والله تعالى يقول : «قُل إن كان آباؤكم وأبناؤكم ـ إلى أن قال ـ أحَبّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فترَبّصوا» (التوبة : 24)
.
وقد رأيت بعض أولادي الصغار ترك في العشر الأول في مأكله الإدام ، كان يأكل الخبز الخالي ! ولم يكن ـ فيما أعلم ـ أن يقول له ذلك أحدٌ ، وظننت أنّ حبّه الباطنيّ بعثه على ذلك .
فإن لم يسمح بذلك نفسه في العشر كلّها ، فلا محالة يتركه في اليوم
التاسع والعاشر ، والليلة الحادية عشرة ، ويزور لا محالة في العشر الأول كلّ يوم بالزيارة المعروفة بـ (عاشوراء) ويترك في العاشر الأكل والشرب إلى العصر ، بل والتكلّم إلا عن ضرورة ، ولقاء الإخوان ، ويكون يوم حزنه وبكائه .
فإن قدر أن يقيم عزاءه عليه السلام في بيته خالصاً لله فليفعل ، وإلا ففي المساجد أو بيوت أصدقائه ، ويخفي ذلك عن الناس ليبعد عن الرياء ويقرب من الإخلاص ، أن يحضر بعض يومه في مجامع العزاء ويخلو في الباقي ، ويكون نظره في الحزن والبكاء مواساة أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ وما أصاب الحسين عليه السلام من جهة الأعداء من الصدمات الظاهرة ، ولكن لا يغفل أنّه عليه الصلاة والسلام وإن كان يصيبه في الظاهر من الصدمات ما لم يسمع أن يصيب مثله أحداً من الأنبياء والأوصياء ، بل أحداً من العالمين ـ لا سيما عطشه الذي ورد فيه ما لا تحتمله العقول من ألفاظ الأحاديث القدسية وغيرها ، ومصيبته من جهة المستشهدين من أهله ، والمأسورات من حرمه ، فكأنّه عاهد مع الحبيب أن يتحمّل في رضاه القتل بكلّ ما يقتل به سائر المقتولين ، من الذبح والنحر والصبر والجوع والعطش والأحزان وغيرها ـ ولكن كان يصل مع ذلك إلى روحه الشريف من بهجات تجلّيات أنوار الجمال ، وكشف سبحات الجلال ، وشوق اللقاء والوصال ، ما يهوّن به تلك الشدائد ، بل يحوّل شدّتها إلى اللذة كما أخذ عنه بعض أصحابه حيث قال : وكان كلّما اشتدّ عليه الأمر احمرّ لونه وابتهج حاله . ولكنّ المصيبات والشدائد الواردة على جسده المبارك ، وعلى قلوب أهل بيته المحترمين ، وما هتك في الظاهر من حرمته ، إنّما يذهب الأرواح ويهيّج الأحزان .
فليظهر من كان من أوليائه أيضاً من المواساة بسيّد السادات بالحزن
والفجيعة ما يناسب هذه المصيبة الجليلة ، فكأنّها وردت على نفسه ، وعلى أعزّته ، أولاده وأهله ، فإنّه عليه السلام أولى به من نفسه بنصّ جده صلوات الله عليه وآله وإنّه صلوات الله عليه قَبِل هذه المصيبات ، وفدى بنفسه الشريفة لشيعته ، لينجيهم من العذاب الأليم وأيتم أولاده وأعزّته ، ورضي بإسارة حرمه ونسوته ، وزينبه وسكينته سلام الله عليهما وذبح أصغره وأكبره وإخوته وعترته ، لينقذهم من الضلالة والاقتداء بالمضلّين الهالكين المهلكين ، لئلا يعذّبوا بالنار ، وينجوا من عظيم الأوزار .
وقد تحمّل هذا العطش العظيم ليسقي شيعته من عطش يوم القيامة بالرحيق المختوم ، فيجب بحكم كرائم الصفات ، في الوفاء والمؤاساة ، أن يبذل شيعته أيضاً له ما بذله ـ صلوات الله عليه ـ لهم ، ويفدوا بأنفسهم له كما فدى لهم بنفسه ، وإن فعلوا ذلك لما أدَّوا حقّ المواساة لأنّ نفسه الشريفة لا تقاس بالنفوس لأنّه بمنزلة نفس النبي الكريم وهي علّة إيجاد العالمين ، وسيّد الخلائق أجميعن من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقرّبين ، وهو حبيب الله وحبيب حبيب الله .
ويقول في صادق المقال ولسان الحال : يا سيّدي يا ليتني كنت فداءً لك من جميع البلايا ، وجلّ هذه الرزايا ، فيا ليت أهلي وأولادي كانوا مكان أهلك وأولادك مقتولين مأسورين ، ويا ليت سهم حرملة ـ لعنة الله عليه ـ ذبح رضيعي ، يا ليت ولدي ـ عليّاً ـ قطع عوض ولدك إرباً إرباً ، ويا ليت كبدي تفتت من شدة العطش ، ويا ليت العطش حال بيني وبين السماء كالدخان ، ويا ليتني فديتك بنفسي من ألم هذه الجراحات ، ويا ليت ذاك السهم كان بمنحري ، ويا ليت ذاك السهم كان بمهجتي ، ويا ليت حرمتي وأخواتي وبناتي وقعن في هوان الأسر ، يُسقن في البلاد سوق الإماء ووضع بذلك عن
أهلك الذل والهوان ، فيا ليتنا دخلنا النار ، وابتلينا بالعذاب ، ودفع عنكم هذه المصائب .
فإن كان الله جل جلاله علم من قلبك صدق هذه المقالات ، قبلك لصدق المواساة لأكرم السادات ، وأقعدك مقعد الصّدق في جوارهم ، وجعلك من أهل ديارهم ، ولكنّ الحذر الحذر من الغرور في الدَعوى ، وإظهار هذا الرضا بالبلايا ، ولا يصدّقك حالك وقلبك بعشر عشيرها ، ولا تقبل عند الإمتحان إلا قليلاً من كثيرها ، بدّلت بمقعد الصدق ودرجة الصدّيقين ، بهوان الكذب وأسفل درك المنافقين .
فإن لم تجد نفسك تسمح بمثل هذه المواساة ، فلا تظهر الدعوة الكاذبة ، لا تهن نفسك فقل : يا ليتني كنت معك ، وأُقتل دونك ، وفزت فوزاً عظيماً ، إن لم يصدّقك حالك بحقيقة هذا التمنّي أيضاً ، فعالج مرض قلبك من حبّ هذه الدنيا الدنيّة ، والركون إلى حياتها ، والاغترار بزخارفها ، وتأمّل فيما خاطب الله به اليهود واقرأ قوله تعالى : «يا أيّها الذين هادوا إن زعمتم أنّكم أولياء لله من دون الناس فتَمَنَّوا الموت إن كنتم صادقين» (الجمعة : 6) .
ويقرأ في آخر اليوم زيارة التسلية ، ويختم يوم عاشوراء بتوسّل كامل ، بحامي يومه وخفيره من المعصومين عليهم السلام في إصلاح حاله وعزائه مع الله ـ جل جلاله ـ ومع الحسين وجدّه وأبيه وأمه وأخيه عليهم السلام ويعتذر عن تقصيره .
وأمّا سائر أعمال العشر الأول : فمن المهمّات دعاء أول الشهر فإنّه من جهة كونه أوّل السنة مؤكّد عند التأمل الصادق ، للعبد المراقب ، لا سيّما للعافية والاحتراز عن آفات السنة ، الدينيّة والدنيويّة ، واستصلاح الحال فيها ، واستجلاب الخيرات فإن في الدعاء قبل الوقت تأثيراً خاصّاً للمهمّات ،
وقضاء الحاجات ، والدعاء المرويّ في الاقبال دعاء كامل لهذه الجهات جداً .
الأولى أن يصلّي في الليلة الأولى من الصلوات الواردة أيضاً بعضها على حسب نشاطها فلا أقلّ من الركعتين اللتين يقرا فيهما الحمد وإحدى عشر مرّة «قل هو الله أحد» ، ويدعو بالدعاء المرويّ في الاقبال ، الذي دعا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم بع صلاة ركعتين .
ويصوم صبيحتها ، وقد ورد لمن فعل ذلك أنّه كمن يدوم على الخير سنة ، لا يزال محفوظاً من السنة القابل ، فإن مات قبل ذلك صار إلى الجنّة .
ويصوم اليوم الثالث وقد ورد أنّه يوم خروج يوسف ـ على نبينا وآله وعليه السلام ـ من الجبّ ، من صامه فرَّج عنه الكرب ، ويسّر له الصعب .
وورد أيضاً استحباب صوم الشهر كلّه ، وورد خصوص صوم التاسع والعاشر ولكنّ الأحوط ترك صوت العاشورا ولكن يمتنع من الطعام والشراب إلى العصر ، ويفطر عند العصر من جهة انخلاص الحسين ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأصحابه من هموم هذه الدنيا الدنيّة ، وفوزهم ووصولهم إلى مطلوبهم من لقاء الله جل جلاله في ذلك الوقت ولعلّه لذلك يتراءى لمواليه المتعزّين بعزائه في عصر هذا اليوم من خفّة الهموم وانفراجها .
وأمّا سائر أعمال ليلة عاشورا ويومها من الصلوات والدعوات ـ غي الزيارات وصلواتها ـ ففي النفس منها شيء ويحتمل وضعها من المخالفين كوضع استحباب الاكتحال وغيرها ولو كانت واردة أيضاً يمكن أن يحكم بترجيح الاشتعال بمراسيم التعزية والصلوات له والمستشهدين بين يديه ولعن قاتليهم ، فإنّ تأكيدها أيضاً ثابت من الروايات .
ثم إنّه مِن اللوازم العقلية زيارة أهل بيته المستشهدين بين يديه وزيارة أصحابه الشهداء لا سيّما المأثورة وإقامة عزائه عليهم السلام .
المهم في هذا الباب وفي كل باب أن يراقب فيما يعمله أن يكون بنيّة ولا يكون على الرسم والعادة ، وأن تكون النية خالصة ، ويكون صادقاً في إخلاصه ؛ فإنّ العمل القليل عن نية خالصة صادقة خير من الأعمال الكثيرة الخالية عنها ، وأن بلغ كثرتها بآلاف أضعافها ، اعتباراً بعبادة آدم عليه السلام وإبليس ، فإنّ عبادة آلاف سنين منه لم تؤثّر في منع الخلود في النار ، وتوبة واحدة من آدم صارت سبباً لعفو عن خطئه ، لاجتبائه واصطفائه ، وإن كان الإخلاص الصادق لا يمكن أن يتأتّى من أغلب الناس بل ومن كلّهم إلا بلطف خاصّ من الله اللطيف بعباده إلا أنّه تعالى بكرم عفوه قد يرضى عن العبد ببذل طاقته ودونها إن عرف واقعاً أنّه عاجز ، لا حول ولا قوّة إلا بالله وهذه المعرفة إنّما يضطرّه إلى اللجاء بالله والالتجاء إلى عنايته وهذا الإضطرار إنّما يدخله في مفاد قوله : «أمّن يُجيبُ المضطرّ إذا دَعاه ويَكشِفُ السوء» (النمل : 62) ويفتح له أبواب عنايات ربّه الكريم ، لأنّه كريم يحبّ الكرامة لعباده المضطرّين إليه ، المحترفين على بابه ..
ثمّ إنّ ألزم ما يجب مراعاته في مقام العمل أن يراعي قلبه حتى لا يدخل في نيّة عمله مراءاة الناس ولذّة ثنائهم ، ويستكشف ذلك بأن يقيم العزاء مثلاً في بيت صديقه بحيث يظنّ الناس أنّ المقيم صديقه ، ثم ينظر في قلبه هل يتغيّر من ذلك ويتفاوت حاله في ثقل مؤونة العزاء ومخارجه ، وخفّته ، ومسرّته من شوكة مجلسه ، وخفّته بما إذا علم الناس أنه مقيم العزاء أو لم يعلموا ، وإن لم ير تفاوتاً فلينظر هل رغبته في دعوة القرّاء المعروفين الذين يقرؤون في مجالس الأعيان ، أم لا ، لا سيما إذا كانت قراءتهم أدون شرعاً
ـ من جهة الصحة أو غيرها ـ من غير المعروف ، أو كيف ميله بكون أهل مجلسه من أعيان الناس أو أعيان العلماء أو فقرائهم .
فإن تأمّل في هذه الكواشف ، ير أنّ للريّاء في عزائه مدخلاً عظيماً ، ليستظهر في عمله بالإخفاء والستر ، بأن يقيم العزاء في بيت صديقه ، يوصي إليه بالكتمان ، ويهتمّ لتصحيح عمله ، بأن يدعو للقراءة قارئاً صادقاً متّقياً ، ويسوّي في إكرام الحاضرين من الأغنياء والفقراء ، بل يرجّح بالترجيحات الشرعيّة الدينيّة لا الدنيويّة فإنّ في تصحيح كيفيّات خصوصيّات الأعمال أسراراً كثيرة لها دخلٌ في القبول وتضاعف الأجر .
ثمّ إنّه يتأكّد البيتوتة ليلة العاشورا عند (قبر) الحسين عليه السلام وروى الشيخان أنّ «من زاره وبات عند قبره ليلة عاشورا حتى يصبح حشره الله ملطّخاً بدم الحسين عليه الصلاة والسلام أو لقي الله يوم القيامة ملطّخاً بدمه» .
ثمّ إنه روي عن المفيد عليه الرحمة أنّ في ليلة إحدى وعشرين من المحرّم كان زفاف سيدة نساء العالمين إلى دار سيّد الأوصياء ، وخاتم الأولياء أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما وعلى آلهما الطاهرين ، فيستحبّ صومه شكراً لله .
أقول : وقد اختلف في ذلك فمن أراد الاستظهار والتفطّن لما في هذه الليلة الشريفة من عظيم منن الله على خواصّ أوليائه وعموم المسلمين ، وأنّ بناء جميع الخيرات المنتشرة في العالم من بركات وجودات الأئمّة الأحد عشر ، وبركات هداياتهم وتصرّفاتهم وأنوار تربتهم ، لا سيّما بركات أنوار الإمام القائم الذي به يتمّ عنايات الله جل جلاله لأهل الدين من هذه الأمّة ، وسائر الأمم في الدين والدنيا ، يظهر عدل الله الأعظم ويكون الدين كلّه لله ،
كلها في هذه الليلة ، لا بدّ أن تحرّك نفسه بشكر واهب النعم إما بصوم أو بغيره من العبادات والقربات .
والمرجوّ لمن راقب أمثال هذه الأيّام بتعظيم وإجلال أن يدخل في زمرة من وصفهم الله جل جلاله في كتابه الكريم بتقوى القلوب حيث قال : «وَمَن يُعظّم شعائر الله فإنّها مِن تقوى القلوب» (الحج : 32) فإن تأثيرات المراقبات إنّما يكثر ويعظم بالأمور الدقيقة اللطيفة وكلّما زاد اللطف والدقّة ازداد العمل شرفاً ونوراً ، فالشكر عند احتمال النعمة (و) لطفه في المراقبة على الشكر عند يقينها لا يخفى على ذوي الألباب فكيف بربّ الأرباب .
هذا وقد أشرنا سابقاً أن لخروج شهر محرّم الحرام تغيّراً وتأثّراً لأهل المراقبة فإنّ للخروج من حمى ملك الملوك تعالى حقّاً للعبيد ، ومن حقّه أن يناجيه تعالى بواسطة خفير يومه من المعصومين ، ويعترف أوّلاً بأنّي لم أكن مستحقاً لهذا الأمان ، بل كنت أستحقّ بأعمالي وحالاتي وملكاتي كلّها منك الخزي والهوان ، بل العذاب الأليم ، فبفضلك الذي ابتدأت به ذلك الأمان ، وتفضّلت على عبيدك بالشهر الحرام لا تخرجنا بخروجه من أمانك وحماك ، حتى توصلنا إلى دار السلام ، ولا تؤاخذنا بتقصيرنا في حقّ أداء شكرك ، ورعاية أدب حرمته ، بل عاملنا بكرم عفوك الذي يبدّل السيئات بأضعافها من الحسنات ، ويوصلنا إلى رفيع الدرجات ؛ ويختمها بالصلوات والمشيئة .
ثمّ إنّ هذا الذي ذكرنا من مراقبة آخر المحرّم فهو غير ما يلزم المراقب في أواخر سائر الشهور ، من جهة رفع الأعمال فإنّ له من المحاسبة والاستغفار واستصلاح الشأن بالدعاء مع الله جل جلاله تكليفاً خاصاً يذكر في كتاب المحاسبة من كتب الأخلاق .