يذهل الباحث في الواقع السوسيولوجي العربي تمادي إشكالية الهجرة في تاريخنا الحديث والمعاصر، وتحوّلها الراهن الى هجرة جماعية تهدد الهويات الوطنية بالضياع، والنسيج الاجتماعي العربي الذي تميّز بالإجمال باندماج مكوناته في بوتقة حضارية واحدة، بالتفكك والتفتت الى عصبوياته القبلية المتخلفة.
وجدت هذه الإشكالية تعبيراً حياً لها في فكرنا النهضوي والمعاصر. فالمتأمل في هذا الفكر تطالعه صور شتى لوعي شقي مزّق المثقف العربي بين خياري الوطن والاغتراب. في سبعينيات القرن التاسع عشر، كتب فرنسيس المراش: «اذا رأيت الوغد يحكم في أرضٍ، فهل تلبث فيها مقيماً؟» فيما عبر عن إعجابه بغربته الباريسية بقوله: «كم تستميل الإنسان هذه الديار التي تمنح أمناً غير مثلوم، وحرية غير مأسورة، وحياة غير مهددة ولا مذعورة». وفي الآونة ذاتها كتب جبرائيل دلال من منفاه الباريسي: «إن قلبي يهوى الرجوع الى الوطن، وصوابي يقتادني للرحيل». أما المفكر المعاصر المغترب حليم بركات، فقد عبر عن وعيه الشقي بالقول: كلما كبرت في العمر انحنت أغصاني على جذوري…
لكنني أعرف أن العيش في الوطن يتطلب الامتثال والإذعان للأصوليات العقائدية والسياسية، ولذلك لا أعرف حقاً أيهما أشد قسوة المنفى أم الوطن». ومن منحى مشابه يعبر هاشم صالح عن السبب الذي جعله يؤثر الغربة على الوطن، إذ يقول: «كان من حسن حظي أن وطئت قدماي أرض فرنسا، هذه الارض الطيبة المحررة من فقه القرون الوسطى، الفقه الظلامي الذي يفتك الآن ببلادي فتكاً ذريعاً».
تحضر هذه الإشكالية بقوة الآن فيما قوارب الموت هي الملاذ الأخير لمئات آلاف العرب المتهافتين على الرحيل الى الغرب ولو على حافة الانتحار، غير مبالين بموت زؤام يتهددهم وأطفالهم. فما هي خلفيات استمرار هذه الإشكالية؟ لماذا تبقى الهجرة والاغتراب قبلة الإنسان العربي ويبقى الغرب ملاذه الأخير؟ هل من صلة سوسيولوجية ايديولوجية تاريخية بين هجرة الاوائل من العرب ومهاجريهم اليوم، بين معاناة أولئك ومعاناة هؤلاء؟ هل ثمة جامع بين الهجرة العربية الى الغرب وهجرة فقراء العالم من البلدان النامية عموماً؟
تطرح هذه الاسئلة حقائق أساسية تؤسس لتفسير إشكالية الهجرة في المجتمعات العربية والمشرقية خصوصاً. أولى هذه الحقائق ان مجتمعاتنا تشكل بيئة طاردة لشبابها بدل أن تشكل بيئة حاضنة لهؤلاء نتيجة استبدادها السياسي وتكلسها العقائدي فضلاً عن هشاشة شرعية الدولة الوطنية العربية وعجزها عن أن تقدم تبريراً كافياً للتضحية من أجلها والتشبث بالانتماء اليها دون سواها، ولم يكن ذلك لنقص في حب الوطن والانشداد الى ترابه، فقد عبرت النخبة المثقفة من مهاجرينا عن نزعة وطنية أصيلة لا ريب فيها، كما عبرت في الوقت ذاته عن رفض الطغيان السياسي والأصولي الذي حدا بها الى الهجرة. وليس من دون دلالة التقاء مفكري النهضة المهاجرين مع أندادهم المعاصرين في التعبير عن معاناتهم المشتركة، فثمة جوامع تؤكد وحدة المعاناة من أحمد فارس الشدياق وجبرائيل دلال وجرجي زيدان وعبد الرحمن الكواكبي الى حليم بركات وهاشم صالح ونصر حامد ابو زيد، جوامع تتمثل في الاستبداد السياسي والعقائدي المتمادي على مدى الأزمان العربية.
ثانية الحقائق التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار لفهم إشكالية الهجرة تتمثّل في إخفاق التوجه الحداثي في العالم العربي وفشله في تمثل استيعاب روح العقد الاجتماعي الليبرالي الذي كان الاساس في تقدم أوروبا السياسي والاجتماعي وبقائها قبلة الليبراليين العرب من فرنسيس المراش الى طه حسين الى محمد اركون. فقد أخذت أفكار الوطن والعصبية الوطنية والقومية، فضلاً عن التلازم في الحقوق والواجبات بين الوطن والمواطن، بالتسلل الى الفكر العربي منذ القرن التاسع عشر، فربط الطهطاوي وعبده بين الوطن والحرية والحق، وحدد عبده الوطن بأنه «مكانك الذي تنسب اليه ويحفظ حقك فيه ويعلم حقه عليك وتأمن فيه على نفسك وآلك ومالك». لكن فكرة «العقد الاجتماعي» التي ترددت أصداؤها في الفكر النهضوي لم تقيض لها الحياة، فلم يلبث نموذج الدولة التسلطية، الذي ازدهر منذ أواسط القرن الماضي، ان أسقط مبدأ التعاقد المؤسس للمجتمع والوطن، مفرغاً المواطنة من مضمونها التعاقدي، مكرّساً العداء بين المواطن والدولة، فلم يبق من خيار أمام من أنكرت حقوقهم الإنسانية والمواطنية سوى مغامرة الفرار الانتحاري الى حيث يجدون معنى لحياتهم كبشر.
من هنا بالذات يجب أن يفهم توجه المهاجرين العرب التاريخي الى الغرب وأوروبا تحديداً، اذ ان هؤلاء يتطلعون في الغرب الى ما يفتقدونه في أوطانهم «الحق والحرية» برغم معاناتهم الوجدانية في الابتعاد عن أرض الوطن، ما عبّر عنه جبرائيل دلال بقوله من غربته الباريسية: «اذا لم يكن هنا غير أن الحر فيها يعيش دون منازع، فهو يكفي حظاً لقلبي وان سالت على غربتي غروب المدامع».
ثالثة الحقائق التي تقف وراء الهجرة العربية، تكمن في إخفاق بناء مجتمع العدل الاجتماعي والطبقي وانهيار الطبقة الوسطى العربية في مقابل تفاقم الفجوة الطبقية المتمادي، وتمركز الثروة العربية في أيدي فئة محدودة تسيطر على المقدرات الاقتصادية والإنتاجية، اذ دلت الإحصاءات الاخيرة الى ان هناك 36 مليارديرا عربيا يملكون 118 مليار دولار، بينما يعيش مئة مليون عربي في فقر مدقع، ويبلغ معدل البطالة بين الشباب العرب ما يقرب من ضعف ما هو عليه في العالم بأسره.
أما الحقيقة الأكثر تجذراً والأكثر إرباكاً والتي تشكل في رأينا سبباً رئيساً للهجرة فتبقى في إخفاق الإصلاح الديني الذي رفع لواءه منذ القرن التاسع عشر متنورون عظماء مثل رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وبطرس البستاني وفرنسيس المراش وجمال الدين الافغاني وصولاً الى أديب اسحق وفرح انطون وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وأمين الريحاني وسواهم. لقد نادى هؤلاء بقراءة النص الديني قراءة متنورة تستوعب روح العصر الليبرالية وتؤسس لوطنية منزّهة عن أغراض الطائفية والنزاع الطائفي، لكن هذه القراءة لم تستطع أن تكوّن تياراً جماهيرياً، بل وئدت لمصلحة القراءة الأكثر ظلامية والأكثر بعداً عن مقاصد الدين، وصولاً الى ممارسات «داعش» الكارثية.
لقد ثبت على مدى تاريخنا العربي أن الأزمان التي سادت عبرها قراءة عقلانية علمانية متنورة للدين، كانت الأزمان الأكثر تقدماً والأكثر ملاءمة للحياة. أما تلك التي عرفت الانغلاق والتعصب من خلال قراءة النص الديني قراءة متخلفة، فقد شكلت عصور الخراب والنزاعات الأهلية المدمرة والهجرات الجماعية. وعليه نرى أن استعادة روح الإصلاح الديني، والمضي فيه قدماً، بالاستفادة من إنجازات عصرنا الثقافية، تشكل مقدمة أساسية في الإبقاء على وحدة مجتمعاتنا واتقاء الهجرة وعواقبها على مستقبل الاوطان والأمة العربية جمعاء.