الفصل الثالث
مظاهر العدل الاِلهي
في عالم التشريع والجزاء
آيات الموضوع
1. (فَمَنْ عُفِي لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِليهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).(1)
2. (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ).(2)
3. (وَإِنْ كانَذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسِرَةٍ وَ أنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون).(3)
4. (وَلْيُمْلِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً).(4)
قد سبق انّه سبحانه وصف نفسه بقوله: (قائماً بالقسط)، وتلك الفقرة
____________
(1)البقرة:178.
(2)البقرة: 279.
(3)البقرة: 280.
(4)البقرة: 282.
——————————————————————————–
( 27 )
حاكية عن أنّه سبحانه قائم بأعباء القسط في جميع المجالات تكويناً وتشريعاً، أمّا التكوين فقد وقفت على نماذج من التعادل الذي هو حجر الاَساس لبقاء السماء والاَرض واستقرار الحياة على وجه البسيطة.
بقي الكلام في مظاهر عدله في عالم التشريع، ولنذكر نماذج من ذلك:
1. فرض سبحانه الصيام على كلّ مكلّف، وقال:(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون).(1)
وفي الوقت نفسه استثنى المريض والمسافر ومن يصوم ببذل الجهد الكبير، قال سبحانه: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أوْعَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَعَلى الَّذينَ يُطيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِين) .(2)
فأوجب على المريض والمسافر القيام بأعباء هذا التكليف بعد استعادة صحته أو رجوعه إلى الوطن، كما أنّه اكتفى فيمن يصوم ببذل جهد كبير كالهرم، بالتكفير وإطعام مسكين.
2. لا شكّ انّ في القصاص حياة لاَُولي الاَلباب، وفي المثل المعروف: «إنّ الدم لا يُغسّله إلاّالدم»، ومع ذلك كلّه فقد أجاز لوليِّ الدم أن يسلك طريقاً آخر وهو إبدال القصاص بالدية، فقد شرع ذلك، و قال: (فََمَنْ عُفيَ لَهُ مِنْ أَخيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بالمَعروفِ وَأَداءٌ إِليهِ بِإِحسانٍ ذلكَ تَخْفيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَليم) (3) فالاِصرار على أحد الحكمين ربما يولِّد الحرج، فخيّر وليَّ الدم بين القصاص وأخذ الدية حتى يتبع ما هو الاَفضل والاَصلح لتشفِّي القلوب و استقرار الصلح في المجتمع.
____________
(1)البقرة:183.
(2)البقرة:184.
(3)البقرة:178.
——————————————————————————–
( 28 )
3. لا شكّ انّ الربا من أعظم الجرائم وأكبرها، كيف وقد وصف المرابي بالمحارب، و قال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوافَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِوَرَسُولِهِ)(1)ومع ذلك فإذا تاب المرابي من عمله فقد احترم ماله الذي اقترضه، فعلى المقترض ردُّ رأس ماله فقط، قال: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُوَُوسُ أَمْوالكُمْ لا تَظْلِمُون ولا تُظْلَمُونَ) .
وفي الحقيقة هذه الفقرة أي (لا تظلمون ولا تظلمون) شعار كلّمسلم في عامة المجالات وهو لا يَظلم ولا يتحمَّل الظلم.
4. حثَّ الناس على الاِقراض وجعل أجره عشرة، قال سبحانه: (مَنْ جاءَبِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (2) و هو عام يعم كلّحسنة ومنها الاِقراض، ومع ذلك كلّه فإذا عجز المقترض عن أداء قرضه وصار ذا عسرة أمر المقرض بالصبر حتى يستطيع المقترض من دفع دينه، قال سبحانه: (وَإِنْكانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسِرَة و أنْتَصَدَّقُوا خَيرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُون) .(3)
5. يأمر سبحانه المقرض و المقترض أن يكتبا سنداً للدين، وفي الوقت نفسه يأمر الكاتب أن يكتب بالعدل من دون تحيّز إلى واحد من الطرفين، يقول سبحانه: (يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنكُمْ كاتِبٌ بِالعَدْل) .(4)
6. يأمر سبحانه من عليه الحق أن يُملي كما هو عليه، من دون نقيصة ولا زيادة، يقول سبحانه: (وَلْيُمْلِلِ الّذي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللّهَ ربَّهُُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيئاً) .(5)
____________
(1)البقرة:279.
(2)الاَنعام:160.
(3)البقرة:280.
(4)البقرة:282.
(5)البقرة:282.
——————————————————————————–
( 29 )
7. كما يأمر إذا كان من عليه الحقّسفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع الاِملاء فليقم مكانه وليُّه وليملل بالعدل، يقول سبحانه: (فَإِنْ كانَ الّذي عليه الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعيفاً أَوْ لا يَسْتَطيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَليُّهُ بِالعَدلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَينِ مِنْ رِجالِكُمْ) .(1)
وباختصار: تتجلى في هذه الآية التي هي أطول آية وردت في القرآن الكريم مظاهر عدله في التشريع مرة تلو مرة، وللقارىَ الكريم أن يستشف منها ما ذكرناه من المعاني.
8. الطهارة من الحدث أحد شرائط صحّة الصلاة والصوم والحجّ ،وتحصل عن طريق استعمال الماء بكيفية خاصة متقرباً فيها إلى اللّه، ولكن ربما يكون استعمال الماء مضرّاً بصحّة المتوضىَ أو موجباً لبطء برء مرضه، إلى غير ذلك من الاعذار فأوجب سبحانه التيمّم بالصعيد بدل استعمال الماء، وهذا يدل على مرونة الاِسلام في تشريعه وتعاطفه مع فطرة الاِنسان التي ترغب في العافية وتنضجر عن كلّما يحول دونها، قال سبحانه: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغائِطِ أَو لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فـَامْسَحُوا بِوُجُوهكُمْ وَأَيْدِيكُمْ منه ما يُريدُاللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج وَلكِنْ يُريدُ لِيُطهِّركُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(2)
فقوله: (ما يريد اللّه ليجعل عليكم في الدين من حرج) يكشف اللثام عن وجه العدول من الطهارة المائية إلى الطهارة الترابية.
كما دلت الآيات القرآنية على استثنائه سبحانه طوائف ثلاث من الحضور
____________
(1)البقرة:282.
(2)المائدة:6.
——————————————————————————–
( 30 )
في ساحات الجهاد لاَجل الحرج ، قال سبحانه: (لَيْسَ عَلَى الاََعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الاََعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلى الْمَريضِحَرَج) .(1)
وفي آية أُخرى يُبيِّن بوضوح أنّ تشريعه خال من الحرج، ويقول: (ما جَعلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (2) . فكلّ حكم يتضمن الحرج فهو مرفوض بحكم أنّه حرجي، وقد أخبر سبحانه عن عدم تشريع الحكم الذي في امتثاله حرج.
9. لقد شملت العناية الاِلهية الاَُمةَ الاِسلامية من بين سائر الاَُمم برفع النسيان والخطأ عنهم وعدم الموَاخذة عليهما، في حين كانت الاَُمم السالفة مسوَولة عن خَطاها ونسيانها إذا كانت مقصِّرة في مبادىَ الخطأ والنسيان ، يقول سبحانه: (رَبّنا لا تُوَاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِر لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَولانا فَانصُرْنا عَلى القَومِ الكافِرين) .(3)
روى الكليني عن النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- انّه قال: «إنّ هذا الدين متين، فاوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة اللّه إلى عباد اللّه، فتكونوا كالراكب المنبتِّ الَّذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى».(4)
____________
(1)الفتح:17.
(2)الحج:78.
(3)البقرة:286.
(4)الكافي:2|86.
——————————————————————————–
( 31 )
فما أروع هذا التشبيه حيث إنّ الراكب المنبتِّ و إن كان يعدو بفرسه أميالاً عديدة بغية الوصول إلى غايته، ولكنه بفعله هذا يُنتج عكس المطلوب حيث إنّ المركوب يُعْييه التعبُ ولا يكون بمقدوره الاستمرار في العدو، ويبقى هو في وسط الطريق لا يهتدي إلى بغيته، فهو لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى.
فهكذا الدعوة إلى الشريعة إذا كانت مقرونة بالشدة والضعف تنتج عكس المطلوب حيث لا تجد لها أُذناً صاغية، بل يخرج الناس منها أفواجاً. ولاَجل ذلك صدع النبي – صلَّى اللّه عليه و آله و سلَّم- بسهولة شريعته، وقال: «بعثت بالشريعة السهلة السمحة».(1)
10. دلّت الآيات القرآنية على أنّ التكليف على القدر المستطاع وقد أطبق عليه العقل والنقل، إذ كيف يمكن تكليف الناس بأعمال، كإدخال الشيء الكبير في الظرف الصغير، من دون تغيّر في الظرف والمظروف؟ أو التحليق في الهواء دون وسيلة، إلى غير ذلك من الاَُمور الممتنعة التي تدخل في نطاق التكليف بما لايُطاق، حتى أنّمحقّقي العدلية ذهبوا إلى أنّهذا النوع من التكليف المحال، بمعنى أنّه لا ينقدح في ذهن الآمر، الطلب و الاِرادة الجدية المتعلِّقة ببعث العاجز إلى المطلوب، ولو تظاهر به فإنّما تظاهر بظاهر التكليف لا بواقعه.
فتكون النتيجة: انّامتناع المكلف به يلازم امتناع نفس التكليف أيضاً، يقول سبحانه: (لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلاّوُسْعها) .(2)
وقال في آية أُخرى: (لا يُكلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلاّما آتاها) .(3)
ومضمون كلتا الآيتين واحد، وهو أنّاللّه يكلّف الاِنسان بقدر طاقته وقابليته.
هذه نماذج استعرضناها لاِثبات أنّ التشريع الاِسلامي يتمتّع بمرونة، و أنّه مبنيٌّ على أساس العدل.
وفي الحقيقة انّ التشريع الاِسلامي من مظاهر عدله في هذا المجال.
____________
(1)سفينة البحار:1|695.
(2)البقرة:286.
(3)الطلاق:7.
——————————————————————————–
( 32 )
* الاَشاعرة والتكليف بما لا يطاق
ذهب لفيف من متكلّمي الاِسلام ـ و للاَسف الشديد ـ إلى جواز التكليف بما لا يطاق، ولم يُصغوا لنداء العقل ولا الشرع، بل أهالوا التراب على فطرتهم القاضية بعدم صحّة التكليف بما لا يطاق.
وقد اتَّخذوا ظواهر بعض الآيات ذريعة لعقيدتهم في هذاالمجال، و ها نحن نستعرض تلك الآيات ونناقشها كي يتجلّى الحق.
1. (الّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ *أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزينَفِي الاََرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ من أَولياءَ يُضاعََفُ لَهُمُ العَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَماكانُوا يُبْصِرُون) .(1)
استدل الاِمام أبو الحسن الاَشعري(260ـ 324هـ) على أنَّّهم كانوا مكلَّفين بالسماع والاِبصار ومع ذلك ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يُبصرون، فدلّعلى جواز التكليف بما لا يطاق.
وهذا الاستدلال يتبدَّد بالتوضيح التالي:
وهو أنَّهم وإن كانوا مأمورين مكلّفين بالسماع والاِبصار ومع ذلك كانوا عاجزين عنهما لكن ذلك العجز لم يكن مقروناً بهم منذ بلوغهم وتكليفهم، وإنّما أدّى بهم التمادي في المعصية إلى أن صاروا فاقدين للسمع والاَبصار، فقد سُلِبت عنهم هذه النعم بسوء اختيارهم نتيجة الذنوب التي اقترفوها، فكان لهم قلوب لا يفقهون بها، وآذان لا يسمعون بها، يقول سبحانه: (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئكَ كالاََنْعامِ بَلْ هُمْ
____________
(1)هود:19ـ20.
——————————————————————————–
( 33 )
أَضَلّ) .(1)
إنّ التمادي في المعصية والاِصرار عليها يترك انطباعات سيِّئة في القلوب على وجه يتجلّى الحسن سيّئاً والسيّء حسناً، يقول سبحانه:(ثُمَّ كانَعاقِبَةَ الّذينَ أَساءُوا السُّوأى أنْ كذَّبوا بآياتِ اللّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزءُونَ).(2)
فالآية تصرح بأنّاقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي ينجم عنه التكذيب بآيات اللّه.
فتحصل من ذلك أنّ عدم استطاعتهم للسماع والاِبصار كان نتيجة قطعية لاَعمالهم السيئة، كما يقول سبحانه: (وَ قالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنّا فِي أصْحابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهمْ فَسُحقاً لاََصحابِ السَّعيرِ) .(3)
2. (وَعَلَّمَ آدَمَ الاََسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عرَضَهُمْ عَلى المَلائِكةِ فَقالَأَنْبئونِي بِأَسْماءِهوَلاءِ إِنْ كُنتُمْ صادِقين* قالُوا سُبحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّما عَلَّمْتَنا إِنَّك أَنْتَ الْعَليمُ الحَكيم) .(4)
استدلّ الاِمام الاَشعري بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يطاق، و قال: فقد أمروا بالاِعلام و هم لا يعلمون ذلك ولا يقدرون عليه.
ولكن غاب عنه أنّ لصيغة الاَمر معنى واحداً وهو إنشاء الطلب، لكن الغايات من الاِنشاء تختلف حسب اختلاف المقامات، فتارة تكون الغاية من الاِنشاء، هي بعث المكلف نحو الفعل جداً، وهذا هو الاَمر الحقيقي الذي يُثاب فاعله ويُعاقب تاركه، و تشترط فيه القدرة والاستطاعة، وأُخرى تكون الغاية أُموراً
____________
(1)الاَعراف:179.
(2)الروم:10.
(3)الملك:10ـ11.
(4)البقرة:31ـ 32.
——————————————————————————–
( 34 )
غيره، وعند ذلك لا ينتزع منه التكليف الجدي، وذلك كالتعجيز في الآية السابقة، وكالتسخير في قوله سبحانه: (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئين)(1)والاِهانة مثل قوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الكَريم) (2) ، أو التمنّي مثل قول أمرىَ القيس في معلّقته:
ألا أيُّها الليل الطويل ألا انجلي بصُبحٍ وما الاِصباحُ مِنكَ بأمثلِ
إلى غير ذلك من الغايات و الحوافز التي تدعو المتكلم إلى التعبير عن مقاصده بصيغة الاَمر وذلك واضح لمن ألقى السمع وهو شهيد.
3. (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ* خاشِعَةًً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إلىَ السُّجُُودِ وَهُمْ سالِمُونَ).(3)
استدلّ بها الشيخ الاَشعري على مقصوده، وقال: إذا جاز تكليفه إياهم في الآخرة بما لا يطيقون، جاز ذلك في الدنيا.
والحقّ أنّالاِمام الاَشعري وأتباعه لا سيما الفطاحل منهم أجلُّ من أن يجهلوا هدف الآية ومغزاها، إذ ليست الدعوة إلى السجود فيها عن جدّ وإرادة حقيقة، بل الغاية من الدعوة إيجاد الحسرة في قلوب المشركين التاركين للسجود حال استطاعتهم في الدنيا ،والآية بصدد بيان أنّهم في أوقات السلامة والعافية رفضوا الانصياع و الامتثال، وعند العجز ـ بعد ما كشف الغطاء عن أبصارهم ورأوا العذاب بأُمّ أعينهم ـ همّوا بالسجود ولكن أنّى لهم ذلك.
وإليك توضيح الآية بمقاطعها الثلاثة:
أ: (يوم يُكشف عن ساق) كناية عن اشتداد الاَمر وتفاقمه ،لاَنّ الاِنسان
____________
(1)البقرة:65.
(2)الدخان:49.
(3)القلم:42ـ 43.
——————————————————————————–
( 35 )
عند الشدة يكشف عن ساقه ويخوض غمار الحوادث.
ب: (ويُدعون إلى السجود )لا طلباً وتكليفاً جدياً، بل لازدياد الحسرة، فلا يستطيعون، إمّا لسلب السلامة عنهم، أو لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم.
ج: (وقد كانوا يُدعون إلى السجود و هم سالمون) والمعنى أنّهم لما دعوا إلى السجود في الدنيا امتنعوا عنه مع صحّة أبدانهم، وهوَلاء يُدعون إلى السجود في الآخرة ولكن لا يستطيعون، وما ذلك إلاّ لتزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرَّطوا.
4. (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَميلُوا كُلَّ المَيْلِ فتَذَرُوها كَالمُعلّقَةِ وإن تُصْلِحُوا وتَتَّقُوا فَإنّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).(1)
وقد استدل بها الشيخ الاَشعري على ما يروم من جواز التكليف بما لا يطاق، و قال: وقد أمر اللّه تعالى بالعدل ومع ذلك أخبر عن عدم الاستطاعة على أن يُعدل.(2)
أقول: لا شكّ أنّه سبحانه أمر من يتزوج بأكثر من واحدة بإجراء العدالة بينهنّ، قال سبحانه: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تعْدِلُوا فَواحِدَة) (3)وفي الوقت نفسه صرَّح في آية أُخرى بأنَّ إجراء العدالة بينهنّ، أمر غير مقدور، و مع ذلك نهى عن التعلّق بواحدة منهن والاِعراض عن الاَُخرى حتى تُصبح كالمعلّقة لا متزوجة ولا مطلقة.
وبالتأمل في الآية يظهر بأنّ العدالة التي أمر بها غير العدالة التي أخبر عن عدم استطاعة المتزوج القيام بها، فالمستطاع منها هو الذي يقدر عليه كلّمتزوج بأكثر من واحدة، وهو العدالة في الملبس والمأكل والمسكن وغيرها من الحقوق
____________
(1)النساء:129.
(2)لاحظ الاستدلال بهذه الآيات في كتاب اللمع للاِمام الاَشعري:99ـ 114.
(3)النساء:3.
——————————————————————————–
( 36 )
الزوجية التي تقع على عاتق الزوج ويقوم بها بجوارحه ولا صلة لها بباطنه.
وأمّا غير المستطاع فهي المساواة في قسمة الحب بينهنّ لاَنّ الباعث لها هو الوجدان والميل القلبي وهو ممّا لا يملكه المرء ولا يحيط به اختياره، لاَنّه رهن أُمور خارجة عنالاختيار.
مظاهر العدل الاِلهي في تنفيذ العقوبات
قد مضى أنّ لعدله سبحانه مظاهر في التكوين والتشريع ، و من مظاهر عدله في التشريع أنّه لا يساوي بين المطيع و العاصي، والمسلم والمجرم، والموَمن والمفسد، و لذلك صار يوم البعث مظهراً لعدله سبحانه بحيث لو لم يكن ذلك اليوم الموعود لما ظهر عدله في مجال الجزاء، وبذلك أصبح يوم القيامة أمراً لا مفرّ منه لظهور عدله فيه، وتشير آياتٌ كثيرة إلى هذا المضمون:
1.(أَمْ نَجْعَلُالّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالمُفْسِدينَ فِي الاََرْضِ أَمْ نَجْعَلُالمُتَّقينَكَالفُجّارِ) .(1)
2. (أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمينَكالْمُجِرمينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون) .(2)
وهاتان الآيتان تدلاّن على أنَّ التسوية بين الطائفتين على خلاف العدل، فلا محيص من إحقاق الفرق، وبما انّ الطائفتين يتعامل معهما في الدنيا على نحو سواء فلابدّ من تحقيقه في يوم ما و ليس هو إلاّ يوم القيامة، ويعرب عمّا ذكرناه قوله سبحانه: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَميعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إنّهُ يَبْدوَُُ الخَلقَ ثُمّ يُعيدُهُ لِيجزيَ
____________
(1)ص:28.
(2) القلم:35ـ 36.
——————————————————————————–
( 37 )
الّذينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ بالقِسْطِ وَالّذينَكَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَميمٍ وعَذابٌ أَليمٌ بِما كانوا يَكْفُرُون) .(1)
ثمّإنّه سبحانه يحقّق عدله يوم القيامة بوضع موازين القسط ليجزي كلّنفس بما كسبت، يقول سبحانه:
(وَنَضَعُ المَوازينَالقِسْط لِيَومِ القِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْكانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَردلٍ أتَيْنا بِها وََكَفى بِنا حاسِبينَ) .(2)
(وَالوَزْنُ يَوَْْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازينُهُ فَأُولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَمَنْ خَفّت مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الّذينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظلِمُون) .(3)
هذه إلمامة عابرة لبيان مظاهر عدله في مجالات مختلفة، والسابر في آيات القرآن الكريم يجد آيات كثيرة في مجال عدله سبحانه.
____________
(1) يونس:4.
(2)الاَنبياء:47.
(3)الاَعراف:8 ـ 9.