تتمة – نظرة القرآن الكريم للأديان الأخرى – الشيخ مصطفى ملص
القرآن كتاب هداية للبشرية
إن القرآن الكريم هو الخطاب الإلهي للبشرية، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو النص الذي تستند إليه كل النصوص الأخرى، وتعمل في خدمته، والمسلمون جميعاً متفقون على أن كل نص أو فهم مخالف للقرآن الكريم، هو ساقط ولا اعتبار له. ولا شك بأن كل العلوم الإسلامية، إنما هي تابعة للقرآن الكريم وخادمة له.
والقرآن الكريم هو كتاب الهداية الربانية للبشرية: “الم * ذ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ” البقرة/22.
وفي آية أخرى “إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ” الإسراء/9.
وهو النص الذي كُلف المسلمون بالعمل بمقتضاه والاستقامة عليه كما قال تعالى:”فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” هود /112.
وكما في قوله تعالى: “وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرً” الأحزاب/2.
والنص القرآني ليس كتاب أمر ونهي فقط، بمعنى أنه ليس نصاً لمواد قانونية، وإنما هو كتاب دعوة، وحكمة وأدب وقصص وتبشير وإنذار وتحذير وأمر ونهي وتعليم و…وما ورد فيه يشكل القاعدة التي تنظم حياة المسلم في كل ناحية من نواحي حياته، وفي كل علاقة من علاقاته مع كل ما يحيط به من حي وجامد.
فكيف نظر القرآن الكريم إلى الأديان الأخرى؟ وإلى المخالفين له بشكل عام.
حق الاختلاف والحرية
قضى الله تعالى في عباده من البشر سُنَّة الاختلاف والتنوع فكما أنه من الصعب إن لم نقل من المستحيل وجود تطابق في الشكل بين اثنين من البشر ـ حتى التوائم ـ فكذلك في مختلف الأوجه. قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ” الروم/22. هذا في الألسنة والألوان والأشكال.
ما في الطباع والأفكار والتوجهات فقد قال تعالى: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ” هود/119.
وإذا كانت إرادة الله تبارك وتعالى قد قضت بالاختلاف والتنوع فإنها قد قضت أمراً آخر هو الحرية، فالإنسان الحر يستطيع أن يتخذ الموقف الذي يشاؤه من أية قضية، حتى الإيمان بالله تعالى خاضع لهذه الإرادة، ومبني عليها، فكل مظهر إيماني ناتج عن ضغط أو إكراه لا اعتبار له عند الله تعالى.
والقاعدة العظيمة الواضحة في هذا المجال تتجسد في قوله تعالى: “لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ. ..” البقرة 256.
فالإيمان هو الفعل الصادر عن قناعة عقلية، ورضا قلبي، وحتى العبادات لا معنى لها ولا قيمة إن لم تكن صادرة عن إرادة راضية وحب للطاعة.
قال تعالى: “وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ” يونس/99-100.
فالإرادة الإلهية والحكمة الربانية اقتضت أن تترك للناس حريتهم في الإيمان أو الكفر، وليس لأحد أن يكره أحداً على الإيمان، والدعاة إلى الله يعملون على تكوين القناعة الإيمانية بشتى الوسائل والأساليب ما عدا الإكراه، لأن الله تعالى لو أراد إيماناً بالإكراه لخلق الخلق على الإيمان به، ولكنه أراد أن يكون للعقل دور أساسي، بل إن الإيمان امتحانٌ للعقل، لذلك قال تعالى: “… وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ” يونس/100.
ولم يقل على الذين لا يؤمنون، فمن عقل آمن، ومن لم يعقل فلن يؤمن، ومفهوم عند المسلمين أن الإيمان لا يكون بالتقليد، أي لا يصح فيه التقليد، ولا بد أن يكون نابعاً من قناعة في الذات.
وعندما نقول إن الإيمان امتحان للعقل فإننا لا نجده فقط امتحاناً لعقل المدعو إلى الإيمان، أي الإنسان الذي لم تتكون أو تكتمل عنده القناعة بعد، وإنما أيضاً امتحان لعقل الداعي إلى الإيمان، أي الإنسان الذي شغل نفسه بأمر الدعوة إلى الله، فعقل هذا الإنسان ينبغي أن يبتكر ويبدع في إجادة عرض أدلته وبراهينه لتكون مقنعة، بل دامغة، ولتكون لديه الحجة التي لا يملك العقل الآخر قوة ردها أو دحضها.
لذلك علينا أن نتوجه إلى أنفسنا بسؤال مهم، وهو، هل قمنا بما يتوجب علينا لإقناع الآخرين بأن ديننا هو دين الحق وأن ما سواه باطل ومحرّف؟ أم أننا نعرض بضاعة مزجاة لا ترضي أحداً؟
إن كفر بعض الكافرين ليس نتاج المعاندة والاستكبار، وإنما هو
سبب عجز المؤمنين المسؤولين عن تبليغ الدعوة، أو بسبب استهتارهم وتخاذلهم واستخفافهم بمسؤوليتهم.
والحجة لا تقوم على الكافر ما لم يعرض عليه بأحسن وجوهه فيرفضه جحوداً واستكباراً وعلواً في الأرض، قال تعالى: “مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُول” الإسراء/15.
وقال تعالى: “فَلَمَّا جَاءتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ* وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ” النحل/13-14.
فالرسول يأتي بالآيات المبصرة في دعوته ليحقق القناعة لدي والقناعة عند المدعوين، ومن المفترض أن الداعي إلى الله يقوم بمهمة قام بها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك ينبغي أن يسعى لتكون لديه الحجة التي لا ترد.
وهذا الكلام يدفعنا إلى السؤال التالي: هؤلاء الناس الذين تنقل إليهم صورة الإسلام مشوهة أو مقلوبة، فيصور لهم على أنه دين يدعو إلى القتل والإرهاب واحتقار النساء واغتصابهن، وأنه سبب تخلف البشرية أو على الأصح سبب تخلف أتباعه من البشر، هل على هؤلاء أن يؤمنوا بالإسلام على هذه الصورة المشوهة التي نقلت عنه إليهم؟؟؟
لا شك أن أعداء الإسلام والذين لا يخدم الإسلام مصالحهم الطاغوتية سيعملون على تشويه صورته وإظهاره بأبشع صورة مرفوضة وممقوتة. هذه هي طبيعة الصراع، وهم يعملون على
صناعة رأي عام يتبنى طروحاتهم ويدافع عن مصالحهم، ويحفظ وجودهم، ولكن السؤال الآخر الملح هو: ما هو واجب المسلمين؟ ما هو دورهم؟ وهل استعدوا وأعدوا للقيام بمسؤولياتهم العدة المطلوبة؟ مع الإشارة إلى أن الصعوبات والمعوقات والعقبات كثيرة وكثيرة جداً، ولكنها لا تحل المسلم من مسؤوليته أبداً.