الرئيسية / تقاريـــر / كيف تمكنت إيران من إحراز السبق فـي الانتاج العلمي؟- د. محمد الربيعي

كيف تمكنت إيران من إحراز السبق فـي الانتاج العلمي؟- د. محمد الربيعي

حسب المعلومات المتوفرة من اهم مصدر لقياس معدلات الانتاج العلمي العالمي وهي قاعدة البيانات الببليوغرافية المدعوة بسكوبس، ان ايران تبوأت المرتبة الخامسة عشرة بين الدول الرائدة في الانتاج العلمي في عام 2014 ، وهو ما يمثل قفزة كبيرة للبحث العلمي والابتكار في ايران، وفي فترة قصيرة نسبيا بحيث ساهم العلماء الايرانيون بنسبة اكثر من 6% من انتاج المنشورات العلمية في العالم متفوقين بذلك على اقرانهم في دول اوروبية كالدنمارك وبلجيكا والبرتغال وفنلندا واليونان.

 
وحسب احصائيات سكوبس انتج العلماء الايرانيون اكثر من 20 الف بحث علمي منشور منها 4 آلاف بحث في الكيمياء في عام 2012 وحده، واظهر عامل اتش h-Index (وهو مؤشر النوعية الذي يقيس كلا من الإنتاجية ودرجة الاقتباس او الاشارة للأعمال المنشورة للعلماء) تصاعدا مضطردا بالرغم من انه مازال ضعيفا مقارنة بالبحوث الاسرائيلية والتركية. استطاعت جامعة طهران وحدها انتاج اكثر من 12 الف منشور علمي في عام 2012 مقارنة بجامعة بغداد التي انتجت نحو 2800 نشرة علمية في كل تاريخها. ولا يقتصر تصدر ايران على النشر العلمي بل ان طلابها يحرزون وباستمرار مراتب متقدمة في اولمبيادات العلوم العالمية. ومما يشهد لإيران في الاوساط العلمية العالمية هو تطوير طريقة للاستنساخ البيولوجي حيث تمت زيادة سرعة العملية بنحو مائة مرة، وتطوير طريقة جديدة لعلاج مرض باركنسون، وطريقة جديدة لعلاج الاطفال المصابين بنقص الانتباه وبفرط النشاط.

 
ولكن ماذا يعني “الإنتاج العلمي” في الواقع؟ كنت قد كتبت حول الانتاج العلمي العراقي (الواصلة في اسفل المقالة)، واستعرضت اسباب ضعفه مقارنة بدول الشرق الاوسط في دراسة سابقة معتمدا على احصائيات قواعد البيانات الببليوغرافية والتي تقيس الانتاج العلمي بالاعتماد على عدد الاوراق العلمية المنشورة في مجلات وطنية ودولية معترف بها من قبل معهد المعلومات العلمية (ISI) وهو جزء من قسم الملكية الفكرية والنشر الاكاديمي لمؤسسة الاخبار العالمية طومسون رويترز. وتغطي قواعد البيانات هذه الآلاف من المجلات الاكاديمية والعلمية ومجموعة واسعة من قواعد البيانات في التخصصات العلمية المختلفة وهي تهدف الى زيادة تأثير الاوراق العلمية المنشورة من خلال منحها مزيدا من الاعلام والوضوح، والذي بدوره يمكن ان يؤدي الى زيادة عدد الاستشهادات ما يشير الى اهمية البحث وتأثيره العلمي.

 
السؤال الذي زادني حيرة هو كيف تمكنت ايران من بلوغ القمة بهذا الوقت القصير نسبيا بعد ان كانت في القرن الماضي لا تختلف كثيرا عن دول الشرق الاوسط وبضمنها العراق. يقولون ان (الدول المتقدّمة هي الدول التي تعتمد بشكل رئيسي وبشكل كامل على العلم والتكنولوجيا وانه عندما تترسخ دعائم العلم تتغيّر أوضاع البلاد من بلاد فقيرة الى بلاد غنيّة بالموارد البشريّة والماديّة.. وبأن العلم هو وقود التقدم وهو النور الذي يضيء طريق البشرية).

 

فهل بدأت ايران تعي هذه العلاقة بين الثقافة العلمية ومستوى الحياة المعيشية بالرغم من الأزمات والمشاكل التي يعاني منها نظام دولة ولاية الفقيه. فعلى مدى العقود الماضية وعلى الرغم من العديد من الصعوبات الاجتماعية والاقتصادية لإيران ازدهرت معظم االفروع العلمية. في الواقع، والشواهد العلمية المتاحة تشير إلى نمو في الإنتاج العلمي. كيف استطاعت مجاراة العالم في الانتاج العلمي وهي التي خاضت مع العراق حربا طاحنة استهلكت كل مواردها في الثمانينات من القرن الماضي، وهي الدولة التي رزحت تحت وطأة عقوبات اقتصادية قاسية فرضتها الدول الغربية بحيث عرقلت هذه العقوبات برامج تطوير البنية التحتية الاساسية للبلاد. كيف استطاعت ان تخرج من كابوس الأزمات لتصبح قوة عسكرية واقتصادية كبيرة؟

 
ولعلنا لا نجانب الحقيقة اذا انكرنا وجود علاقة وثيقة بين التطور العلمي والتكنولوجي وبين النظام السياسي الحاكم، والامثلة عديدة في دول كالصين وكوريا الشمالية وكوبا حيث تمكنت هذه الدول من النهوض بالقاعدة العلمية والتكنولوجية من دون الاهتمام كثيرا بتحسين ادائها بما يتعلق بحقوق الانسان والحريات المدنية والديمقراطية.

 
بغض النظر عن موقفنا من النظام السياسي في ايران، نريد هنا ان نتعرف على اسباب التطور العلمي السريع لتتسنى لنا مقارنته بما يحصل في العراق، وكذلك في دول الشرق الاوسط الاخرى كتركيا واسرائيل والسعودية والاردن. ليس غريبا ان تخرج دولة من كبوتها وتنهض لتبني مستقبلها فها هي اليابان استطاعت ان تبني اقتصادا من اقوى اقتصاديات العالم بعد ان هزتها قنبلتان نوويتان وحرب عالمية، والبرازيل استطاعت ان تبني اقتصادا متينا مبنيا على انتاج الطاقة من قصب السكر في غصون بضع سنوات، وكوبا بالرغم من الحصار الجائر الذي فرضته امريكا عليها استطاعت ان تمحو الامية وتبني نظاما صحيا وعلميا من احسن ما متوفر عالميا.

 
من الواضح أنه عندما يتعلق الأمر بهذه الزيادة الهائلة في الإنتاجية العلمية والنشر في إيران، لا بد من الاقرار بان ذلك ما كان بالامكان حدوثه ما لم يتم التغيير في عقلية القيادات السياسية ، فالإطار التنظيمي والإداري للجامعات ومؤسسات البحث العلمي لم يتغير كثيرا. يعتقد شبنام خورباف ومحمد عبدالاهي من جامعة طهران للعلوم الطبية، أن النمو العلمي لإيران ارتبط أساسا بأفكار واضعي السياسات في إيلاء مزيد من الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا وتخصيص الموارد المالية الكافية لتنمية الموارد البشرية والبنية التحتية، والى زيادة عدد التدريسيين بدرجة استاذ مساعد واستاذ، ووضع شرط الترقية العلمية للتدريسي وإكمال دراسة طلاب الدراسات العليا بوجوب نشر الابحاث العلمية في مجلات عالمية رصينة أو انتاج براءات اختراع عالمية.

 
ولتحقيق التقدم العلمي لابد من توفير الاموال والخطط الفعالة وهنا يبدو ان الحكومة الإيرانية قد التزمت فعلا بتحقيق ستراتيجية شاملة للعلوم بما في ذلك زيادة الاستثمار في البحث والتطوير إلى 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بحلول عام 2030، مقارنة مع 0.59 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006. وفي خلال العقدين الماضيين تم تدريب الكوادر العلمية وتوفير الفرص ليصبحوا علماء حقيقيين وكذلك توفير مختبرات وأجهزة مكلفة للغاية خاصة للبحوث في مجال التكنولوجيا العالية في الجامعات الإيرانية.

 
وبالنظر إلى معدل النمو العلمي، فإنه لن يكون من المستغرب أن نرى إيران وقد اصبحت واحدة من أقوى الدول في مجال العلوم في العالم. ولا يسعني الا مقارنة هذا الوضع بما يجري في العراق فقد تمت صياغة ستراتيجية للتربية والتعليم العالي والبحث العلمي للاعوام 2011 الى 2020 وبالرغم من الجهد الكبير الذي بذل في صياغتها واقرارها لم تلتزم الحكومة بتنفيذها وبقيت ليومنا هذا مهملة في ادراج المكاتب.

 
نعم، من المهم التأكيد على اهمية الابتكار وزيادة الإنتاج العلمي لكن الأكاديميين والمجتمع العلمي الأوسع يجب أن لا يعتمد فقط على كمية الأوراق العلمية. هذه الأرقام لا تعطي انعكاسا دقيقا لتحسين حالة البلاد والتنمية. وعلاوة على ذلك، يمكن أن تفسر ممارسة الضغط على الأكاديميين بأنها دعوة لالتماس وسائل غير قانونية للنشر السريع وانتاج سوق تجاري لـ”تحقيق” نجاح علمي، وكمثال على ذلك بدأت تجارة كتابة الاوراق العلمية بالرواج في طهران حيث تجد الكثير من اساتذة الجامعات والطلاب على استعداد لدفع مبالغ كبيرة لقاء الخدمات التي تقدمها هذه الجهات المزيفة.

 
من المتفق عليه ان هذه التكتيكات لتحقيق النجاح لا تؤدي إلى بيئة أكاديمية صحية، وفي نهاية المطاف لن تؤدي إلى انتاج علمي من شأنه أن يعود بالنفع على البلاد. الا ان هذا ما يحصل فعلا فبالرغم من الزيادة الهائلة في كمية الانتاج العلمي لم يزد عدد الاشارات العالمية للبحوث الايرانية بصورة ملحوظة وهذا يعني ان نوعية البحوث مازالت ضعيفة. في الآونة الاخيرة اثار الرئيس الايراني حسن روحاني المخاوف حول اسلوب النشر العلمي هذا، ففي اجتماع مع رؤساء الجامعات الإيرانية أكد على اهمية ان توجه ابحاث الأكاديميين الى “حل المشاكل الداخلية”، مضيفا أن “المدرسين في الجامعات لا ينبغي لهم مجرد التفكير في نشر بحوثهم في المجلات العالمية الرصينة والحصول على المكافآت المخصصة لهم”.

 
في العراق ادت سياسة مماثلة لربط منح الشهادات بالنشر العلمي الى زيادة في انتاج البحوث الهزيلة ودفعت هذه السياسة طلبة الدراسات العليا الى التسرع في محاولاتهم للنشر العالمي ما اوقعهم في مصيدة المجلات المزيفة، ولأن هذا النوع من النشر لا يحظى باعتراف اكاديمي فان هذه البحوث لا تعتبر منشورة فعلا الا بالنسبة للمؤلف ومن يريد قبول هذا الواقع المزيف.

 
خلاصة القول في تفوق ايران في معدلات نمو الانتاج العلمي ان توفر القناعات لدى الدولة باهمية البحث العلمي والابتكار يؤدي الى تبني سياسات تشجع وتثمن نتائج البحث العلمي يجنى ثمارها على صعيد التميز العالمي. لكن هذا الانتاج العلمي ان لم يكن مقرونا بواجب حل المشاكل الاقتصادية والتنموية، ومن دون توفير بيئة علمية واخلاقية متينة، فإنه سيكون انتاجا كميا فقط، يولد ثقافة علمية استهلاكية هدفها الحصول السريع على مكتسبات ذاتية وتزيد من عزلة الاكاديمي عن مجتمعه.