تحصل من بحث صاحب الميزان رحمه الله أنه جعل الاَقوال في عالم الذر ثلاثة :
الاَول : نفي وجود عالم الذر ، والقول بأن ما ورد في الآية من إشهاد الناس وإقرارهم بالربوبية ، إنما هو تعبير مجازي عن تكوينهم الذي يهديهم إلى ربهم تعالى. وهو قول عدد من المتأثرين بالفلسفة اليونانية من القدماء ، وبالثقافة الغربية من المتأخرين .
الثاني : أن عالم الذر بمعنى أن الله تعالى استخرج نطف أبناء آدم عليه السلام من ظهره ، ثم من ظهور أبنائه إلى آخر أب ، ثم كونهم بشكل معين وأشهدهم فأقروا ، ثم أعادهم إلى حالتهم الاَولى في ظهر آدم عليه السلام . وقد ذهب إليه بعض المفسرين من السنة والشيعة .
الثالث : أن عالم الذر هو عالم الملكوت والخزائن ، وهو الوجه الذي اختاره صاحب الميزان رحمه الله وأطال في الكلام حوله واختصر في الاِستدلال عليه .
ولكن يرد عليه إشكالات متعددة ، أهمها :
أولاً ، أن عالم الملكوت اسم عام لكل عوالم ملك الله تعالى ، وتفسير عالم الذر به لا يحل المشكلة ، لاَنه يبقى السؤال وارداً : في أي عالم من ملكوت الله تعالى تم خلق الناس وأخذ الميثاق منهم ؟
ثانياً ، أن تفسير عالم الذر بعالم الملكوت تفسير استحساني لا دليل عليه ، وطريقنا إلى معرفة عوالم خلق الله وأفعاله سبحانه وتعالى ، محصور بما أخبرنا به
( 64 )
النبي وآله صلى الله عليهم ، وما دل العقل عليه بدلالة قطعية ، لا ظنية أو احتمالية .
ثالثاً ، أن عوالم وجود النبي وآله صلى الله عليه وآله ووجود الناس قبل هذا العالم ، وردت فيها أحاديث كثيرة لا يمكن إغفالها في البحث ، كما فعل بعضهم ، ولا نفيها بجرة قلم كما فعل بعضهم ، كما لا يمكن دمجها في عالم واحد كعالم الملكوت أو الخزائن كما فعل صاحب الميزان رحمه الله بل هي عوالم متعددة قد تصل إلى عشرة عوالم ، نذكر منها :
عالم الاَنوار الاَولى ، أو عالم الاَشباح ، وهو أول ظلال أو فيء خلقه الله تعالى من نور عظمته ، وهو نور نبينا وآله صلى الله عليه وعليهم .
عالم الاَظلة ، الذي تم فيه خلق جميع الناس وتعارفهم .
عالم الذر الذي أخذ فيه الميثاق على الناس ، وتدل الاَحاديث على أنه نفس عالم الاَظلة أو مرتبط به بنحو من الاِرتباط .
عالم الطينة التي خلق منها الناس .
وذكرت أحاديث أخرى أن خلق الاَرواح تم قبل خلق الاَجساد .. الخ .
كما ذكرت الآيات والاَحاديث عوالم أخرى مثل قوله تعالى ( هل أتى على الاِنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ) أي كان في ذلك الحين شيئاً ، ولكنه غير مذكور ، كما ورد في الرواية عن الاِمام الباقر عليه السلام .
وهذه العوالم كلها من عالم الملكوت ومن خزائن ملكه تعالى ، ولكنها ليست نفس عالم الملكوت ولا الخزائن .
وقد تقدم عدد من روايات العوالم الاَربعة الاَولى ، ونورد فيما يلي عدداً آخر ، وبعضها نص على أن عالم الذر هو عالم الاَظلة .