وداع الأمّ والأخ
كان محمّد على أتمّ الاستعداد للتوجُّه إلى الجبهة، كان على عجلة من أمره، نهضت مع أمّي وشيّعناه حتّى فناء الدار، ودّعَنا وأسرع إلى الباحة الخارجيّة. ما إن وضع يده على مقبض الباب حتَّى ناديتُه: “محمّد! لماذا كلّ هذه العجلة؟ فأنت لم تودّعنا بشكل جيّد!”.
ابتسم وقال: “حسنًا، هذه المرّة سأودِّعكم”. توجَّه نحو والدتي عانقها وقبّلها ثمّ استدار ليمضي فقلت: “وأنا؟” ضحك وقال ممازحًا: “أمّا أنت فلا أريد توديعك”. فقلت: “بالله عليك لا تقل ذلك.. لقد كسرت قلبي”.
اقترب وقبّلني، كانت نظراته مختلفة عن المرّات السابقة اختلافًا كاملًا، لقد ترك لَديَّ شعورًا عجيبًا، ما إن مشى حتَّى لحقتُ به إلى نهاية الزقاق وناديته: “محمّد، عندما تصل إلى المنطقة اتّصل بنا!”.
ضحك وقال: “حسنًا، هل من شيء ٍآخر؟” وأسرع الخطى.
بقيتُ في مكاني حتَّى توارى… وذهبتُ أنا بدوري, لتأدية آخر أيّامي في الخدمة العسكريّة. بعد مدّةٍ جاء أحد إخوتي وهو يسكن في طهران إلى قاعدة الجيش، ما إن رأيته يرتدي ثيابًا سوداء حتّى فهمت كلَّ شيء…
الصلاة في محضر الخالق
في غروب ليلة عمليَّات “والفجر التحضيريّة”، رجعتُ مع الشهيد الكبير محمّد بنيادي (قائد لواء السيِّدة المعصومة عليها السلام) بـجيب القيادة إلى المحور، كان جالسًا خلف المقود، وهالة من النور تغمر وجهه الملكوتيّ.
أمّا الطبيعة فغرقت في نشوة سكون مهيب، والظلمة قد فغرت فاهاً لتلتهم كلّ شيء.
كانت السيَّارة تصدر أصوات قرقرة, لصعوبة الطريق الترابيّة وتعرُّجاتها، وسحابات الغبار الغليظ قد نفذت في عمق محيطٍ حالك. كان يعكِّر صمت الصحراء العميق أصوات المدافع البعيدة، من حينٍ لآخر وكأنّ عباءة الليل السوداء قد اشتعلت لبرهة ثمَّ انطفأت.
فجأةً، توقَّف محمّد عن القيادة ودون أن يتكلَّم بشيء، فتح باب السيَّارة بهدوء ووقف على جانب الطريق متهيِّئًا للصلاة. وكم قد صغرت هذه المساحة الترابيّة وتواضعت أمام تذلّله بين يدي الله المتعال.
أما أنا، فوقفت مندهشًا حيرانًا, لرؤية هذه المناجاة الوالهة, فقد عفّر وجهه وجبينه بالتراب، وذرفت عيناه دموع روحه، وهزّ انسياب بكائه الثمل كياني، وبشكلٍ لاإراديّ أمطرت حبيبات الدموع الغزيرة صميم وجداني. آهٍ! أيُّ سعادة أشعر بها، فلا أحد هنا سوى محمّد وأنا والتراب، وأيّ نجوى ممزوجة بالعشق تلهج بها شفتاه.
تركت الصحراء والليل، وركّزت عينييّ على محمّد، سمعته يدعو ويقول: “إلهي في هذه الليلة علّقت بذيل كرمك أملي، ورجوتُ منك العون، توسّلتُ بحنانك فاقبلنا يا متعال!”.
وبقي يذرف الدموع التي ابتلّت بها سجَّادته الترابيّة، وأصبح القائد مع الغبار شيئًا واحدًا.
أنهى صلاته ومناجاته، ثمّ عاد وجلس خلف مقود الجيب، انطلقنا وعلا صوت القرقرة. قطعنا التعرُّجات والحفر إلى أن وصلنا الطريق المعبّد. ذهبنا للالتحاق بالقوّات الأماميّة، تمهيداً للهجوم، لنحيل الليل نهارًا، وليبلغ الغبار والتراب آفاق السماء .