إنّ واجبات المبلّغ ، في الحقيقة ، هي ذات واجبات الأنبياء الإلهيّين التي يسمّيها القرآن «إبلاغ رسالات الله» ، مع فارق أنّ الأنبياء كانوا يتلقّون رسالتهم عن طريق الوحي ، بينما يتلقّى المبلّغ رسالته عن طريق الأنبياء وأوصيائهم .
وعلى هذا الأساس ، فإنّ واجب المبلّغ هو إيصال الرسالة العقيديّة والأخلاقيّة والعمليّة الّتي جاء بها الأنبياء إلى الناس ، وإرشادهم إلى جميع السبل التي شرعها الله لهداية العباد نحو التكامل المادّي والمعنوي .
طرح البحوث التبليغيّة بشكل متسلسل
لغرض أداء هذه الرسالة الخطيرة ، يجب على المبلّغ ـ إلى جانب السعي لإحراز شروط التبليغ وتهيئة الأجواء الملائمة لتحقيق أركانه العلميّة والأخلاقيّة والعمليّة في مهمّته التبليغيّة ـ أن يجيد الأساليب الصحيحة في عرض البحوث والموضوعات التبليغيّة ، وسَلْسَلتها حسب أهمّيتها . إنّ على المبلّغ أن يعلم ماذا يجب عليه أن يطرحه ويبيّنه للناس ـ وخاصّة الشباب ـ في ما يرتبط بشؤون الدين ، ومن أين يبتدئ الكلام ، والجهة التي يسوق فيها مسار البحث . وما جاء في الفصل الرابع من هذا الكتاب هو ، في الحقيقة ، إجابة عن هذه التساؤلات ، وفيه أيضاً إشارة إلى ضرورة رعاية التسلسل في عرض الموادّ التبليغيّة وبيانها وفقاً لأهمّية مضامينها .[158]
ويتعيّن على المبلّغ في الخطوة الاُولى التي يخطوها على طريق تعريف الناس بمدرسة الأنبياء ، أن يركّز خطّته أوّلاً على إيقاظ ضمير المخاطب وفطرته ، ثمّ العمل بما من شأنه أن يدفعه نحو التفكير والتأمّل .[159]
وإذا تسنّى للإنسان العودة إلى فطرته ، وفُتحت أمامه سبل التعقّل والتفكير ، فإنّه يخرج عندئذٍ من ظلمات الجهل إلى نور الفطرة والعقل ، وتتوفّر له ، في ضوء ذلك ، معرفة الحقائق التي جاء بها الأنبياء لهداية بني الإنسان .[160]
بعد إعداد المخاطب لتقبّل الرسالة الإلهيّة ، ينبغي أن تكون أوّل رسالة تُنقل إليه هي أنّ منهج التكامل الإنساني الذي بعثه الله مع الأنبياء لا يقتصر على المصالح المعنويّة والاُخرويّة ، بل يضمن أيضاً مصالحه الماديّة والدنيويّة . وفي حالة تحقّق المجتمع الإنساني الذي كان ينشده الأنبياء ، يعيش المرء أطيب حياة في الدنيا والآخرة[161] .
إنّ الإنسان كائن مجهول ، وعلى الرغم ممّا أحرزه العلم من تقدّم في جميع الميادين ، إلا أنّه لم يتمكّن إلى الآن من كشف الأسرار الخفيّة الكامنة في هذا المخلوق المعقّد البناء . ومن هنا ، فإنّ العقل البشري عاجز عن رسم طريق تكامله المادّي والمعنوي ، وتبقى معرفة هذا الطريق غير ممكنة إلا من خلال الارتباط بعالم الغيب ، ومعرفة ذلك العالم ، والإيمان به ، ولا يمكن إيجاد مثل هذا الارتباط إلا عن طريق الأنبياء .[162]
إنّ أوّل رسالة تكامليّة للأنبياء تتلخّص فيها كلّ أهدافهم هي التوحيد[163].
وأوّل رسالة اجتماعيّة لأصل التوحيد هي النهوص لتحقيق العدالة الاجتماعيّة ، ولا يمكن تحقيق هذا الهدف السامي إلا من خلال تلاحم الجماهير واتّحادها والتفافها حول إمام عادل .[164]
إنّ إقامة العدالة ودوام نفوذها وانبساطها في المجتمع رهينة بتوفير الحرّيات المشروعة والبنّاء ة لأبناء الاُمّة واختيارهم الواعي ، والمبلّغ مكلّف بالسعي لإشاعة هذا النوع من الحرّيات .[165]
وإحدى المسائل المهمّة التي توفّر أجواء بسط العدالة الاجتماعيّة وديمومتها تتجسّد في مقدرة جماهير الشعب على تحليل المسائل الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة واستيعابها . ويجب على المبلّغ أن يوجّه الناس ليكونوا من أنصار الحقّ لا من أنصار نزعة المطلق ، ويحذّرهم من الانقياد الأعمى للأشخاص ، وأن يكون مقياسهم في اتّباع الشخصيّات والأحزاب هو الحقّ وليس الشخصيّات العظيمة والمبجّلة ، ويرشدهم إلى معرفة الحقّ بمعيار الحقّ لا بمعيار الشخصيّات ، وذلك أنّ الشخصيّات نفسها يجب أن تقاس بمعيار الحقّ .[166]
إنّ العدالة الاجتماعيّة في مدرسة الأنبياء مقدّمة تمهيديّة لازدهار الطاقات البشريّة وبلوغ الإنسان الغاية العليا للإنسانيّة . والذي يقرّب الإنسان من هذا الهدف هو اجتناب الرذائل ، والتحلّي بالفضائل ومكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال .[167]
وكلّ مايقرّب الإنسان إلى الله ويسوقه نحو التكامل المادّي والمعنوي ، يسمّى في قاموس الأنبياء : عبادة .[168]