بسم الله الرحمن الرحيم ” أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمّ لَتُسْأَلُنّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النّعِيمِ “ .
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في دار الدنيا وسلّطه عليها ومكّنه مما لذّ فيها ومنها ، وعرّفه أنّ هذه الدنيا دار ممر ؛ إمّا إلى جنّةٍ أو إلى نارٍ ، وعرّفه بأنّ الآخرة دار مقر ؛ في هذه الدنيا أوجب الله على الإنسان أموراً وحرّم عليه أشياءً نهاه عنها ، وزوّده بالعقل والغريزة ؛ العقل ليرشده إلى الخير والصواب وليميّز به بين الخير والشر ، والغريزة ليتوجّه إلى تلبية رغباته ، وقيّد تلبية الرغبات بالتناول مما سمح به المولى سبحانه ، لأنّ الله الخالق للنفس البشرية هو العالم بما يصلحها ويسعدها في الدنيا والآخرة ” وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ” فالعاقل يتناول من الدنيا ما يمكّنه من الاستمرار بالحياة ، وما يُقدّمه بين يدي الله سبحانه يوم لا ينفع مال ولا بنون هو الذخيرة للآخرة ، قال تعالى ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ” ويقول الإمام (ع) : ليس منّا من ترك آخرته لدنياه ولا دنياه لآخرته .
ويقول لأحد أصحابه : إنّ الله إذا أنعم نعمةً على العبد أحبّ إظهارها عليه . لكن على أن لا ينغمس الإنسان في حبّ الدنيا ويبذل كلّ جهده في الحصول على زخارفها ومتعها وميزاتها فيتلهّى في حطام الدنيا حتى خروج روحه من بدنه ، فيودع في قبرٍ موحشٍ لم يمهّده بالعمل الصالح لرقدته ، والقبر إمّا روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران ، وقوله سبحانه ” حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ” إشارة إلى أنّ الإقامة في القبر ليست إلى الأبد بل هي محدودة وسيعود إلى ما قدّم وعمل ،
” كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ” تأكيد بأنّه سوف يرى ويعلم أنّه كان على ظلال بمجرّد أن يدخل قبره ، وليس هذا فقط ؛ بل إنّه بعد القبر سيرى النار رؤية يقين ورؤية عيان ، فالمؤمن لا يأخذ من الدنيا إلاّ القليل خوف أن يحرمه الانغماس في الدنيا نعيم الآخرة ، ويسبب له أن يكون من أهل جهنّم ، فهو كما وصف أمير المؤمنين (ع) المتّقين بقوله : فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون، وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون .
الإنسان المؤمن يبقى دائماً في حذر واستعداد للإجابة عمّا سيسأله الله سبحانه عنه . في الحديث : لا تزول قدَمَا ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع : عن عمره ما عمل به ، وعن ماله فيما اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن حبّنا أهل البيت .
فلا يلهي المؤمن جمع الأموال والأولاد والتفاخر بالأنساب والأقوام ، ولا يكون من الغافلين الذين يستيقظون من غفلتهم حين الموت ” وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ. وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ. لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ” .
ومن كلام لأمير المؤمنين (ع) بعد أن تلا ” أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ” :
يا له أمر ما أبعده ، و زورا ما أغفله ، و خطرا ما أفظعه ، لقد استخلوا منهم أىّ مدّكر ، و تناوشوهم من مكان بعيد أفبمصارع آبائهم يفخرون أم بعديد الهلكى يتكاثرون ؟ يرتجعون منهم أجسادا خوت ، و حركات سكنت ، و لأن يكونوا عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا .
الإنسان ينكب على الدنيا ويغتر بها ولا يلتفت إلى أنّها لهو ولعب وزينة وتفاخر ، وسوف تتركه ولو لم يحبّ تركها .
الطيبات المذمومة هي التي تشغل عمّا عند الله سبحانه .
روي عن الإمام علي (ع) أنّه قال : مَا زِلْنَا نَشُكُّ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ حَتَّى نَزَلَتْ ” أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ” إلى قوله ” كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ” يريد في القبر ، ” ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ” بعد البعث .
على الإنسان أن يعلم بدايته ونهايته ؛ حتى يلتزم بما أمر الله به ، ويكدح إلى الله سبحانه ، لأنّ جهل الإنسان ببدايته ونهايته من العوامل التي تبعث على التكبّر والغرور والتفاخر ، وحتى لا يقع في ذلك فلينظر إلى الأمم السابقة ومصيرها ، حيث كانت تمتلك عوامل القوّة والمنعة فأبادها الله سبحانه بالريح تارةً وبالنار أخرى ، ليدرك الإنسان عجزه أمام الله فيتواضع ويخشع ويدرك حقيقة نفسه ؛ وينجح في الحياة ، إذْ إنّ الكثيرين يعملون على تغطية فشلهم بالالتجاء للفخر والمباهات ، وهذا يكشف عن نقصٍ فيهم .
عن الإمام الصادق (ع) : ما من رجل نكبّر أو تجبّر إلاّ لذلّةٍ وجدها في نفسه . وعن الإمام الباقر (ع) : ثلاثة من عمل الجاهلية : الفخر بالأنساب والطعن بالأحساب والاستسقاء بالأنواء . ( وهو طلب الماء بواسطة النجوم ) .
وعن أمير المؤمنين (ع) : أهلك الناس إثنان : خوف الفقر ، وطلب الفخر .
فلكي يؤدّي الإنسان شكر نعم الله عليه أن لا يعصي الله فيها ؛ لأنّ الله أعطانا العقل والحواس والقدرة والجوارح لنستعين بها على قضاء حوائج الدنيا ونسعى بها للآخرة ، لا أن نعصي الله بنعم الله الذي قد يعطي من يعصيه أكثر ليملي له وليزيد من عذابه وعقابه ، والعقاب النيوي أن يشقى بجمع الأموال ويسعد بها غيره .
عن رسول الله (ص) في تفسير ” أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ” يقول ابن آدم مالي مالي ، ومالك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأمضيت .
أيّها المؤمنون : الجميع يرى جهنّم في الآخرة ، وقد ورد في القرآن أنه ما من أحد إلاّ وارد جهنّم ، ومنهم من يراها في القلب في عالم الدنيا ” لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ” بعين البصيرة . ” ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ” بالدخول فيها لمن فرّط في نعمة الله وخاصةً نعمة ولاية أهل البيت عليهم السلام .
يقول صاحب مجمع البيان : روي أن أبا حنيفة سأل الإمام الصادق (ع) عن هذه الآية :” ثم لتسألنّ يومئذ عن النعيم ” فقال له : ما النعيم عندك يا نعمان ؟!.. قال : القوت من الطعام والماء البارد ، فقال : لئن أوقفك الله بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن كلّ أكلةٍ أكلتها أو شربةٍ شربتها ، ليطولّن وقوفك بين يديه ، قال : فما النعيم جعلت فداك ؟!..
قال : نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله …بنا على العباد ، وبنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين ، وبنا ألّف الله بين قلوبهم ، فجعلهم إخواناً بعد أن كانوا أعداءً وبنا هداهم الله للإسلام ، وهو النعمة التي لا تنقطع ، والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم به عليهم وهو النبي (ص) و عترته (ع) .
فالنعيم واسعٌ جدّاً يشمل كلّ المواهب الإلهية المعنوية – مثل الدين والإيمان والإسلام والقرآن والولاية – والنعم الماديّة على مستوى الفرد والمجتمع ، لكنّ النعمة الأهم والأكبر هي نعمة الإيمان والولاية فيُسأل عنها الإنسان أكثر ، ولا تعني الروايات التي تتحدّث عن الولاية أنّه لا يُسأل الإنسان عن النعم الأخرى بل لبيان أنّ الولاية هي أكبر وأهم نعمة أنعمها الله على الإنسان بعد أن خلقه وأعطاه من كلّ ما في هذه الدنيا وهذا الوجود ، فعلى الإنسان أن يشكر كلّ نعم الله سبحانه بكل ما أوتي من قوّة ومن عقل لحفظ هذه النعم ؛ وإن كان الإنسان عاجزاً عن أداء الشكر حق الشكر ، لأنّ من يعجز عن إحصاء النعم فهو عن شكرها أعجز ، لكن الله سبحانه يقبل من عبده المخلص القليل ويعفو عن الكثير ويعطي بلا حدود ، يجزيه عن شكره المخلص بالقول والعمل والعبادة ؛ جنّةً عرضها السموات والأرض ، إذا أدى شكر كل نعمة بحسبها وبقدر استطاعته ، لأنّ المطلوب هو الشكر بالعمل ، شكر نعمة الصحة طاعة الله وأداء العبادات ، وشكر نعمة المال إخراج الحقوق وأداء الواجبات العبادية المالية وصلة الرحم وغيره … ولا يكون الشكر بالقول إلاّ بعد التوفيق للشكر بالعمل ” اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ” .
يقول الإمام علي بن الحسين (ع) في مناجاته ” مناجاة الشاكرين ” : فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْر، فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الْحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الْحَمْدُ .
لأنه لولا فضل الله سبحانه على الإنسان لما تمكّن من شكر الله ، هذا الشكر باللفظ إن كان صادقاً فإنّه يثاب عليه ، فالله سبحانه هيّأ للإنسان أن يجعل كلّ شيء يصدر منه عبادة للمولى سبحانه ، حتى إذا أكل الإنسان ونوى أنه يقوم بذلك ليتقوّى على عبادة الله والكد على عياله وليحيى حياةً كريمة فإنّ الله يثيبه على أكله الحلال الطيب ، فالله قد فتح أبواب رحمته لمن يريد دخولها ، لكن العبد هو الذي يقفلها بسبب المعاصي التي يرتكبها حبّاً للدنيا الفانية ، وقد قال أمير المؤمنين (ع) : حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة .
فمهما عاش الإنسان في هذه الدنيا ومهما طال بقاؤه فيها واستمتع بشهواتها لابد وأنّه الموت مصيره … ” كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ” .
كلّ ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباء محمولُ
يولد الإنسان في دار الدنيا ليعيش ما قدّره الله له ؛ ليموت بعدها ويذهب : إمّا إلى جنّةٍ أو نارٍ ، يُستقبل بالسرور ويُودّع بالبكاء ، قال الشاعر :
ولدتك أمّك يا بن آدم باكـــــــياً والناسُ حولك يضحكون سرورا
فاجهد لنفسِك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
” وَاتّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ” هذا اليوم هو آخر يوم من حياتنا الدنيا ، اليوم الذي يعرف فيه الإنسان حقارة هذه الدنيا التي أنسته هذا اليوم فكان كلّ عمله للدنيا ، وأدرك أنه كان يعيش الوهم لأنه خسر كلّ شيء . فينادي حينئذٍ ربّه ” رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ ” .
إنّها الغربة الحقيقية ؛ غربة اللحد والكفن ، في لحظة واحدة ينتقل الإنسان من دار الهوان – دار الدنيا – إلى دار النعيم المقيم ؛ إن كان ممن تاب وآمن وعمل صالحاً ، أو ينتقل إلى دار الجحيم والعذاب الأليم ؛ إن كان ممن أساء وعصى الله سبحانه ، إمّا إلى قبرٍ مهّده بالعمل الصالح لضجعته ، يتقلّب فيه بالنعيم والرضوان المقيم أو إلى قبرٍ أوحشته سيّئاته فيه عذاب أليم ، ينادي فلا مجيب ويستعطف فلا من مستجيب ، وبعده يأتي اليوم الموعود واليوم المشهود ؛ اليوم الذي لا يغني فيه مولىً عن مولىً شيئاً ، لا أنساب بينهم ، اليوم الذي يجمع فيه الله الأولين والآخرين ويحاسبهم ، فكيف يكون حال من يعصي الله حين ينادى باسمه وهو واقف بين الخلائق : ابن فلان ابن فلان ، فيقول ” يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا ” فلنتذكّر كلّ هذا في حياتنا الدنيا لنُخرج حبّها من قلوبنا فلا نعصي الله ونستحي من ذلك اليوم .
إنّ الدنيا تشدّ الإنسان الضعيف إليها فيسقط ويظلم ويطغى ، وفي لحظةٍ لا يجد شيئاً بل يسمع ” لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ” فلو أنّ كل إنسان أدرك أنه سيخرج من هذه الدنيا ويُحاسب على كلّ صغيرة وكبيرة ؛ فإنّ الله يفيض البركات .
حبّ الدنيا هو سبب كل الظلم .
إنّنا على أبواب أشهر مباركة ؛ فلنستعدّ للإقبال على الله فيها ونستعين ببركتها على التغلّب على حبّ هذه الدنيا وليعيننا الله على تحقيق ما نحبّ ونتمنّى . إنّ الأمّة حينما تعيش المعاصي يسلّط الله بعضها على بعض ويسلّط عليهم شرارهم فيدعو خيارهم فلا يُستجاب لهم .
وآخر دعوانا أن صلِّ اللهم على المصطفى وآله الطاهرين والحمد لله رب العالمين .Bottom of Form