2 في ذكر أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان وأخباره
وغرر أخباره وأشعاره
هو ابن عم سيف الدولة المقدم ذكره وابن عم ناصر الدولة
كان فرد دهره وشمس عصره أدبا وفضلا وكرما ونبلا ومجدا وبلاغة وبراعة وفروسية وشجاعة وشعره مشهور سائر بين الحسن والجودة والسهولة والجزالة والعذوبة والفخامة والحلاوة والمتانة ومعه رواء الطبع وسمة الظرف وعزة الملك
ولم تجتمع هذه الخلال قبله إلا في شعر عبد الله بن المعتز وأبو فراس يعد أشعر منه عند أهل الصنعة ونقدة الكلام وكان الصاحب يقول بدئ الشعر بملك وختم بملك يعني امرأ القيس وأبا فراس وكان المتنبي يشهد له بالتقدم والتبريز ويتحامى جانبه فلا ينبري لمباراته ولا يجترئ على مجاراته وإنما لم يمدحه ومدح من دونه من آل حمدان تهيبا له وإجلالا لا إغفالا وإخلالا
وكان سيف الدولة يعجب جدا بمحاسن أبي فراس ويميزه بالإكرام عن سائر قومه ويصطنعه لنفسه ويصطحبه في غزواته ويستخلفه على أعماله وأبو فراس ينثر الدر الثمين في مكاتباته إياه ويوفيه حق سؤدده ويجمع بين أدبي السيف والقلم في خدمته
قطعة من أخباره مع سيف الدولة وأشعاره فيه
سوى الروميات
حكى ابن خالويه قال كتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد شخص من حضرته إلى منزله بمنبج كتابا صدره كتابي أطال الله بقاء مولانا من المنزل وقد وردته ورود السالم الغانم مثقل البطن والظهر وفرا وشكرا
فاستحسن سيف الدولة بلاغته ووصف براعته
وبلغ أبا فراس ذلك فكتب إليه
( هل للفصاحة والسماحة * والعلا عني محيد )
( إذ أنت سيدي الذي * ربيتني وأبي سعيد )
( في كل يوم أستفيد * من العلاء وأستزيد )
( ويزيد في إذا رأيتك * في الندى خلق جديد ) من الكامل
وكان سيف الدولة قلما ينشط لمجلس الأنس لاشتغاله عنه بتدبير الجيوش وملابسة الخطوب وممارسة الحروب فوافت حضرته إحدى المحسنات من قيان بغداد فتاقت نفس أبي فراس إلى سماعها ولم ير أن يبدأ باستدعائها قبل سيف الدولة فكتب إليه يحثه على استحضارها فقال
( محلك الجوزاء أو أرفع * وصدرك الدهناء بل أوسع )
( وقلبك الرحب الذي لم يزل * للجد والهزل به موضع )
( رفه بقرع العود سمعا غدا * قرع العوالي جل ما يسمع ) من السريع
فبلغت هذه الأبيات المهلبي الوزير فأمر القيان والقوالين بحفظها
وتلحينها وصار لا يشرب إلا عليها
وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة
( يا أيها الملك الذي * أضحت لها جمل المناقب )
( نتج الربيع محاسنا * ألقحنها غرر السحائب )
( راقت ورق نسيمها * فحكت لنا صور الحبائب )
( حضر الشراب فلم يطب * شرب الشراب وأنت غائب ) من الكامل
وتأخر عن حضرته لعلة وجدها فكتب إليه
( لقد نافسني الدهر * بتأخيري عن الحضرة )
( فما ألقى من العلة * ما ألقى من الحسره ) من الهزج
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد وأكثروا فكتب إليه أبو فراس
( نفسي فداؤك قد بعثت * تعهدي بيد الرسول )
( أهديت نفسي إنما * يهدي الجليل إلى الجليل )
( وجعلت ما ملكت يدي * صلة المبشر بالقبول )
( لما رأيتك في الأنام * بلا مثال أو عديل ) من الكامل
وكتب إليه يعاتبه
( قد كنت عدتي التي أسطو بها * ويدي إذا اشتد الزمان وساعدي )
( فرميت منك بغير ما أملته * والمرء يشرق بالزلال البارد )
( فصبرت كالولد التقي لبره * أغضى على ألم لضرب الوالد ) من الكامل
وعزم سيف الدولة على الغزو واستحلاف أبي فراس على الشام فكتب إليه قصيدة منها
( قالوا المسير فهز الرمح عامله * وارتاح في جفنه الصمصامة الخذم )
( حقا لقد ساءني أمر ذكرت له * لولا فراقك لم يوجد له ألم )
( لا تشغلن بأمر الشام تحرسه * إن الشام على من حله حرم )
( وإن للثغر سورا من مهابته * صخوره من أعادي أهله القمم )
( لا يحرمني سيف الدين صحبته * فهي الحياة التي تحيا بها النسم )
( وما اعترضت عليه في أوامره * لكن سألت ومن عاداته نعم ) من البسيط
وقال له
( وما لي لا أثني عليك وطالما * وفيت بعهدي والوفاء قليل )
( وأوعدتني حتى إذا ما ملكتني * صفحت وصفح المالكين جميل ) من الطويل
وكتب إليه يعزيه
( لا بد من فقد ومن فاقد * هيهات ما في الناس من خالد )
( كن المعزي لا المعزى به * إن كان لا بد من الواحد ) من السريع
وكتب إليه
( أيا عاتبا لا أحمل الدهر عتبه * علي ولا عندي لأنعمه جحد )
( سأسكت إجلالا لعلمك أنني * إذا لم تكن خصمي لي الحجج اللد ) من الطويل
وكان لسيف الدولة غلام يقال له نجا قد اصطنعه ونوه باسمه وقلده طرسوس وأخذ يقرع باب العصيان والكفران وزاد تبسطه وسوء عشرته لرفقائه فبطش به ثلاثة نفر منهم وقتلوه
فشق ذلك على سيف الدولة وأمر بقتل فتكته فكتب إليه أبو فراس
( ما زلت تسعى بجد * برغم شانيك مقبل )
( ترى لنفسك أمرا * وما يرى الله أفضل ) من المجتث
وكتب إليه يستعطفه
( إن لم تجاف عن الذنوب * وجدتها فينا كثيره )
( لكن عادتك الجميلة * أن تغض على بصيره ) من الكامل
وكتب إليه يستعطفه
( دع العبرات تنهمر انهمارا * ونار الشوق تستعر استعارا )
( أتطفأ حسرتي وتقر عيني * ولم أوقد مع الغازين نارا )
( أقمت على الأمير وكنت ممن * تعز عليه فرقته اختيارا )
( إذا سار الأمير فلا هدوا * لنفس أو يؤوب ولا قرارا )
( ستذكرني إذا طردت رجال * دققت الرمح بينهم مرارا )
( وأرض كنت أملؤها رجالا * وجو كنت أرهجه غبارا )
( إذا بقي الأمير قرير عين * فديناه اختيارا واضطرارا )
( يمد على أكابرنا جناحا * ويكفل عند حاجتها الصغارا )
( أراني الله طلعته سريعا * وأصحبه السلامة حيث سارا )
( وبلغه أمانيه جمعيا * وكان له من الحدثان جارا ) من الوافر
وكتب إليه
( ألا من مبلغ سروات قومي * إذا حدثن جمجمن الكلاما )
( بأني لم أدع فتيات قومي * وسيف الدولة الملك الهماما )
( شريت ثناءهن ببذل نفسي * ونار الحرب تضطرم اضطراما )
( ولما لم أجد إلا فرارا * أشد من المنية أو حماما )
( حملت على ورود الموت نفسي * وقلت لصحبتي موتوا كراما )
( وهل عذر وسيف الدين ركني * إذا لم أركب الخطط العظاما )
( وأقفو فعله في كل أمر * وأجعل فضل أبدا إماما )
( وقد أصبحت منتسبا إليه * وحسبي أن أكون له غلاما )
( أراني كيف أكتسب المعالي * وأعطاني على الدهر الذماما )
( ورباني ففقت به البرايا * وأنشأني فسدت به الأناما )
( فأحياه الإله لنا طويلا * وزاد الله نعمته دواما ) من الوافر
شاهد أيضاً
الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ
أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...