شتان ما بين حالتين يقف فيهما الإنسان متحدثاً: الأولى، في ذكرى ميّتٍ من موتانا؛ والثانية، متحدثاً عن شهيدٍ من شهدائنا.*أحياءٌ يرزقون .في منطقِ بعض الناس لا فرق، فكلاهما موت، إلّا أن الله، ولي الموت والحياة، نبّه إلى ما يمكن أن يعتبر غفلةً، وهو اعتبار الشهيد ميتاً، فقال (عزّ وجل): ﴿ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران: 169 – 170). كما ترون يؤكد الله سبحانه وتعالى أن الشهيد حي، وأن اعتبارهُ ميتاً هو وهم، فما معنى أن يكون الشهيد حياً؟ في الآخرة طبعاً، كلّ الناس أحياء.
لكن، كيف يمكن أن يكون الشهيد حياً في الدنيا أيضاً؟ الآية لا تدخل في هذا التفصيل، بل تتحدث عن مطلق الحياة، بما يشمل الدنيا والآخرة معاً، فأين هي الحياة التي نحسّ معها ونشعر أن الشهيد حي؟ أين الحياة المرئية للشهيد؟
عندما تخاطب قلبك ووجدانك تشعر بالفارق العظيم بين الشعور وأنت تقف على ضريح شهيد، أو على قبر ميت، هذه الحقيقة النفسية، حقيقةٌ موجودة. لكن، مع هذا، نريد أن نرى الحياة التي قصدها الله تعالى خارج المسألة النفسية، الحياة التي تنعكس واقعاً، فعلاً وحركةً.
*الحياةُ.. أشكال
أيها الإخوة، نحن نعتقد أن الله تعالى هو بداية كل شيء، وهو مصدر واستمرار وجود كل شيء، ومن جملة الأشياء الحياة، التي هي أيضاً من الله، وبيد الله، لكن ما هي أشكال “الحياة”؟ على الأقل [بحدود ما] نرى؛ بمقدار ما نستطيع أن نميّز بين وجهين ونمطين من أنماط الحياة:
الأول: هو حياة الجسم، وما يحويه من الرأس، واليد، والبطن والصدر إلى آخره…، الذي يستدلّ على حياته بخلجات القلب.
الثاني: فعالية الإنسان. إذ توجد حياة خارج دائرة خلجات القلب، وهي فعالية الإنسان في محيطه، في مجتمعه، وفي مسيرة الحياة. بهذا اللحاظ نستطيع أن نعرف كيف أن الشهيد يكون حياً باعتبار أنَّ الدم الذي يسقط إلى الأرض، يجف، يجمد، ولكن الدم إذا سقط بيد الله، فإنه ينمو، ويكبر، وينتشر في الأرض.
*ينمو بيد الله
هناك تعبيرٌ أجدُهُ من أدق التعبيرات التي استخدمت في وصف الإمام الحسين ، والشهداء الذين سقطوا معه، أو الذين ارتفعوا معه، إلى الله في كربلاء. أحدُ المؤرخين يعبر بهذه العبارة، لقد قتل الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من محرم، ولكن دمَهُ كان تحت كلّ حجرٍ ومدر.
دمُ الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط، وإذا سقط بيد الله فإنه ينمو، ولذلك نجد أنه يستمر حياً، يصبح شاهداً، يتحول إلى إصبع إدانة، تتوجه إلى كل المواقع التي يجب أن تتغير، والتي يجب أن تزال.
الشهيد يتحول إلى إصبع إدانةٍ مستمرة، إلى لسان صدقٍ، لا يقتصر على عضلةٍ واحدةٍ، في فمٍ واحد، إنّما عبر ألسنةٍ كثيرة، يُسخرها الله للسانِهِ، الذي لا يملك القدرة بعد على الحركة، ويتحول الشهيد إلى عمل مستمر لا عبر يدِهِ التي نزفت، والتي انتهى ما فيها من دماء، وإنما عبر الأيدي الكثيرة التي يُسخرها الله، لتكون نسخة طبق الأصل، ولتكون استمراراً دائماً، منذ سقوط هذا الدم، وإلى يوم الدين. هذا وجهٌ من وجوه حياة الشهيد، يستطيع أن يلمسه كل إنسان.
*الشهيد وشهادة أكثر تألقاً
الأمر الثاني الذي أُحبُّ أن أُبيّنَهُ هو أنّ الشهادة أيضاً درجات؛ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما تعلمون، هو سيد الشهداء ومن بعده الأوصياء والأئمة عليهم السلام، بمقدارِ قِدَم الإنسان في الحق، ورسوخه في الحق، بمقدار وضوح خطّهِ، بمقدار ما تكون شهادته أكثر بياناً، وأكثر فضلاً، بتعبير آخر، يسهم في نوعية الشهادة أمور من جملتها طبيعة الشهيد، نفس الشهيد، عمل الشهيد، سلوك الشهيد، خُلُق الشهيد.
ويسهم أيضاً في الشهادة ونوعيتها: العدو، شراسة العدو وسوء العدو. فإذا كنتم تلحظون في كثير من النصوص التاريخية، التي تتحدث عن الشهادة والشهداء، هناك تعبير يكرّر في أكثر من موقفٍ مع الحَجَّاج، قاله سعيد بن جبير، وفي موقف مماثل جرى بين مسلم بن عقيل وعبيد الله بن زياد، وأنا ألمحُهُ كثيراً، وأنتم تسمعونه كثيراً، عندما قال له: “لا بد أنك مقتول”(1) يركز مسلم بن عقيل رحمه الله عندما أجابه على أني “كنت أعلم أني مقتول”، ثم يحمد الله سبحانه وتعالى على أنه سيقتل على يدِ شرار عباد الله؛ وكأنه في تكرار هذا التعبير يوجد فكرة ربما نستطيع استكشافها، وهي أنّ شراسة العدو، وإغراق العدو في العدوان وفي الولاية للشيطان، إغراق العدو في الظلم والبغي، يجعل أيضاً شهادة الشهيد أكثر تألقاً.
المصباح يعطي نوراً بمقدارٍ قوة المصباح التي تسهم في حجم النور، ولكن أيضاً شدة الظلام تسهم في لمعان الضوء، وفي وضوح الضوء أيضاً.
أسوأ الذئاب البشرية كانت هي الطرف المعادي، هي الجريمة التي تواجه خط النبوات،﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً﴾(الفرقان: 31) صدق الله العلي العظيم.
*أهلنا.. يا كرام خلق الله
الأمر الثالث الذي أُحب أن أُبينَه هو ماذا يشير علينا الشهيد، ما هي الواجبات التي تلقى على عواتقنا بشهادة الشهيد، حيال أنفسنا وحيال قضيتنا، التي أظن أنها بمستوىً عالٍ من الوضوح الواسع والعام. حيث أثبتم يا أهلنا يا أعزاءنا، يا كرام خلْق الله، أيها الناس الذين كانت الدنيا تتخيل أنه لم يبقَ فيكم بقية إرادة، ولم يبقَ فيكم بقيةُ قوة، ولم يبق فيكم بقية مسؤولية، ولم يبقَ فيكم بقية مبدأ. كان بعض الناس يتصورون أنهم سيجدون أرضكم المرعى الخصيب والدمنة(2) الحسنة، والفاكهة الطيبة.
يا أهلنا يا كرام خلق الله، الذين أثبتم أنكم لا زلتم تحملون الروح العظيمة، الذي بثها فيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالإسلام، ولا زلتم تحملون القوة التي تستمدونها من قوة الله عز وجل. كانوا (أي الأعداء) يتمنّون أن تكونوا أعواناً وحلفاء فأثبتم أنّه ليس فيكم حليفٌ واحدٌ قط لأعدائكم، ولأعداء الإنسانية.
*لا خيار إلّا بالمقاومة
إننا ننظر إلى المسألة بمنظار الآخرة، كما علّمنا الله سبحانه وتعالى. بمنظار الآخرة، لا خيار لنا إلا أن نختار هذه الطريق، التي سقط عليها الشهداء، والله تعالى يكتب لنا ما يحب لنا ويرضى، قد يكتب لنا الشهادة، وقد يكتب لنا النصر، وقد يكتبهما معاً. بمنظار الآخرة، نحن لا نستطيع إلا أن نتخذ هذا الموقف. أيضاً، بمنظار الدنيا للّذين لا يُريدون أو لا يحبّون أن ينظروا إلى المسألة بهذه الطريقة، أنتم بمنظار الدنيا مخطئون، إذا ظننتم أو تخيلتم الاستسلام، يمكن أن تحققوا شيئاً من الرحمة.
(*) مقتطف من خطبة للشيخ راغب حرب قدس سره 20/6/1983.
1.ورد: “قال له ابن زياد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يُقتلها أحد في الإسلام من الناس. قال له مسلم: أما أنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن وإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة”. الإرشاد، المفيد، ج2، ص31.
2.الدمنة: الأرض المخصبة بالروث.