يجمع المراقبون أن العلاقات التركية الأمريكية قد شابها الكثير من التعقيد بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة للإطاحة بحكم حزب العدالة والتنمية ليلة الجمعة 15 تموز/يوليو، حيث وجهت العديد من الأوساط داخل الدولة التركية اتهامات لأمريكا في المشاركة في التدبير للانقلاب، خاصة في ظل إيوائها للداعية “فتح الله غولن” خصم أردوغان العنيد، والمتهم الأول بالتدبير للانقلاب.
في هذا السياق لوّح مؤخرا رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، عن أمكانية أن تقوم تركيا باغلاق قاعدة انجرليك الجوية، والتي تستخدمها أمريكا منذ زمن طويل في حروبها المختلفة في المنطقة، حيث قال رئيس الوزراء التركي، أمام حشد جماهيري يوم الجمعة الماضي 29 تموز/يوليو: “سنغلق قاعدة انجرليك الجوية التي كان يتمركز فيها الخونة”، مضيفا “سنغلق جميع الثكنات العسكرية التي خرجت منها الدبابات وأقلعت منها المروحيات إلى أنقرة وإسطنبول”، وقد جاء هذا الاعلان حول النية باغلاق قاعدة انجرليك بمثابة رسالة غير مباشرة لأمريكيا واتهام مبطن لها بالضلوع في المحاولة الانقلابية وإيواء الانقلابيين.
وكانت مقاتلتان انطلقتا من قاعدة انجرليك أثناء الانقلاب، حلّقتا على ارتفاع منخفض فوق أنقرة وإسطنبول وقصفت إحداهما البرلمان. وبالرغم من عملية الدهم التي نفذتها قوات الشرطة على القاعدة في 18 تموز/يوليو، واعتقال العشرات من العناصر المتهمين بالضلوع في الانقلاب، وقطع التيار الكهربائي لعدة أيام عن القاعدة، إلا أنها ما تزال تشكل هاجساً لدى القيادة التركية خاصة في ظل الانباء عن تدبير لانقلاب جديد ينطلق من هذه القاعدة، حيث فرضت قوات الشرطة التركية طوقاً حول القاعدة شارك فيه ألف عنصر، تحسباً لأي محاولة انقلابية. كما شهد الخميس 28 تموز/يوليو، تظاهرة لعدد كبير من المواطنين الأتراك قرب قاعدة انجرليك مطالبين بخروج القوات الأمريكية من البلاد، ولا يستبعد مراقبون أن تكون هذه التظاهرات قد جرت بتوجيه من حزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويرى مراقبون أن نشر قوات الشرطة حول قاعدة انجرليك الجوية، والمظاهرات بالقرب منها احتجاجاً على الوجود الأمريكي، إنما تهدف إلى التضييق على القوات الأمريكية المتواجدة فيها، بغية تحقيق هدفين أساسيين:
الاول: الضغط على أمريكا لتسليم “فتح الله غولن” الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وذلك في ظل التلكؤ الذي أبدته الإدارة الأمريكية في هذا الصدد، حيث طالبت أمريكا بأدلة تثبت تورط غولن، كما قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما أن تسليم غولن يجب أن يمر عبر القنوات الطبيعية.
الثاني: تريد تركيا منع تمركز القوات الأمريكية في مكان واحد، وتوزيع هذه القوات على عدد من القواعد العسكرية، وذلك بهدف إضعاف الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه القوات في الشأن الداخلي التركي.
أمريكا من جهتها حاولت التقليل من أهمية التلويح التركي باغلاق القاعدة الجوية أمام قواتها، فقد قال المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، بيتر كوك إن التحالف الدولي ضد جماعة “داعش” بقيادة واشنطن يمكنه الاستغناء عن قاعدة “إنجرليك” الجوية التركية، كما أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، جون كيربي، أن المظاهرات قرب “انجرليك” التركية لم تشكل أي تهديد للطواقم الأمريكية.
وتأتي أهمية قاعدة انجرليك الجوية من كونها تعتبر أحد مظاهر التعاون والشراكة بين تركيا وأمريكا، وهي ذات أهمية استراتيجية لأمريكا التي تستخدمها منذ عام 1956، وفقاً لاتفاقية استخدام مشترك جرى توقيعها بين الأركان العامة التركية، والقوات الجوية الأمريكية. وتعتبر هذه القاعدة مقر للوحدة 39 للطائرات المقاتلة التابعة للقوات التركية والأمريكية، والتي تنفذ عمليات القتال والمساندة الجوية والبرامج التدريبية على الخطوط الأمامية لحلف الناتو، وتحوي أكبر مخزون للأسلحة الحربية التابعة للقوات الجوية الأمريكية في الخارج، ويقبع تحت أرضية القاعدة مخزن يحتوي على نحو 90 قنبلة ورأس نووي أمريكي، وقد اتخذت القوات الأمريكية منها قاعدة لاحتواء الاتحاد السوفيتي أثناء الحرب الباردة، وفي حرب الخليج عام 1991، شكلت “انجرليك” نقطة انطلاق طائرات التحالف الدولي لضرب القوات العراقية التي اجتاحت الكويت، ولاحقا كانت الطائرات تنطلق منها لفرض حظر الطيران على شمال العراق وجنوبه، وعقب هجمات 11 سبتمبر 2001 أقلعت الطائرات الأمريكية منها لقصف مواقع تنظيم “القاعدة” وحركة “طالبان” في أفغانستان، وحاليا تستخدم أمريكا القاعدة في عملياتها ضد جماعة “داعش” في العراق وسوريا.
وقد جاء التلويح بإغلاق قاعدة انجرليك الجوية، مترافقاً مع العديد من التصريحات الحادة والمتشنجة بين الجانبين التركي والأمريكي، فأمريكا التي أدانت على لسان وزير خارجيتها جون كيري، اتهامها بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، عبرت في موقف متناقض عن استيائها لحملات التطهير التي طالت العديد من الشخصيات العسكرية التركية المتعاونة معها، حيث أعرب كل من مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية (سي أي أيه)، جيمس كلابر، و قائد عمليات المنطقة الوسطى الجنرال، جوزيف فوتيل، في ندوة بمنتدى أسبن الأمني، بولاية كولورادو، عن قلقهما من إبعاد وإقالة عدد كبير من المسؤولين العسكريين الأتراك، ممن تورطوا في محاولة الانقلاب الفاشلة، الأمر الذي رد عليه أردوغان بتصريحات غاضبة مخاطباً “فوتيل” قائلاً: “عليك قبل كل شيء أن تعرف حدودك وتعرف نفسك” وأضاف: “تطهير قواتنا من الانقلابيين أزعج الجيش والاستخبارات الأمريكية، حيث انبرى أحد الجنرالات ليقول: شخصيات من مستويات عليا في القيادة، كنّا نتواصل معهم، قد باتوا خلف قضبان السجون”، وأضاف أردوغان، أن هذه التصريحات تكشف عن العقل المدبر لمحاولة الانقلاب.
حالة التشنج بين تركيا وأمريكا بعد المحاولة الانقلابية، كانت أكثر وضوحاً من خلال النقاش الدائر في وسائل اعلام الطرفين، والتي تنطق ما لا يمكن البوح به في الخطابات الرسمية، وتسهم في نقل رسائل غير مباشرة للطرف الآخر، فالصحف الأمريكية ركزت اهتمامها على حملة الاعتقالات التي قامت بها الحكومة التركية بعد الانقلاب، ووصفت الاجراءات التي قام بها أردوغان بالدكتاتورية، كما وصفت مراكز بحثية مرتبطة بدوائر القرار الأمريكي ما يحدث في تركيا، بأنه مقدمة لحرب أهلية، الأمر الذي وجد فيها مراقبون في الوسط التركي تعبيراً عن الأجندة التي تحضرها أمريكا لتركيا بعد فشل مشروعها في الانقلاب.
أما الصحف ووسائل الاعلام التركية، فقد وجهت اتهاماً مباشراً لأمريكا بالتدبير للانقلاب، وقد تحدثت صحيفة “يني شفق” نقلًا عن مصادر قريبة من التحقيق مع المحتجزين على خلفية الانقلاب، عن دور لقائد أمريكي بارز في قوات “إيساف” الدولية التابعة لحلف الناتو في تنظيم وإدارة الجنود المشاركين في محاولة الانقلاب، وأضافت الصحيفة، أن هذا القائد الأمريكي “أدار أيضًا تحويلات مالية بأكثر من ملياري دولار أمريكي في نيجيريا مستخدمًا نفوذه لتوزيعها على المشاركين في تلك المحاولة”.
في ظل هذه التطورات، من المؤكد أن العلاقات الأمريكية التركية بعد الانقلاب لن تكون كما قبله، ولا شك أن تركيا ستقبل على مراجعة لتحالفاتها الخارجية، ويبدو أن تلميح بن علي يلدريم في تصريح سابق بامكانية إعادة النظر في الصداقة مع واشنطن على درجة كبيرة من الجدية، وما علينا إلا أن ننتظر ما ستأتي به الأيام القادمة من تحولات قد تؤثر على مستقبل المنطقة برمتها.